23 ديسمبر، 2024 3:28 ص

 لكل نظام سياسي طبيعته الذاتية التي تقبل أو ترفض الإصلاح أو التكيف أو التطور استناداً الى أسس ومعايير وقدرات النظام السياسي ذاته، فالنظام السياسي للدولة إنما هو بنية تقوم على فلسفة تنتج عنها سياسة وأسس ينتج عنها أداء، وهما متلازمتان لا انفصام بينهما في حركة الدولة،.. فمثلاً يمكن للنظام الديمقراطي التكيف والتطور والإستجابة للتحديات بحكم طبيعته المرنة القادرة على تصحيح الأخطاء ومجاراة التطور التاريخي، في حين ترفض بنية النظام الدكتاتوري أي امكانية للإصلاح أو التطور بحكم طبيعتها الصلدة المتكلسة، ولا يمكن تحقيق التطور لفعل الدولة المأسورة دكتاتورياً إلاّ بتغيير بنية النظام ذاتها، والنظام السياسي التوافقي لا يشذ عن هذه القاعدة،.. من هنا أرى أنَّ أي حديث عن اصلاح النظام التوافقي العراقي الحالي هو حديث لا حظ له من التطبيق دون تغيير جوهري في بنية النظام السياسي القائم.
جوهر سكوني
   كما أنَّ الأنظمة الثيوقراطية والأبوية والدكتاتورية سكونية بطبيعتها فإنَّ الأنظمة السياسية التوافقية سكونية بطبعها أيضاً،.. إنها أنظمة ذات جوهر سكوني وقوى سياسية سكونية تفتقد شروط التطور الذاتي المستوعب للتحولات في مسيرة الدولة وتصد من القدرة الإستيعابية التي تتطلبها الدولة ككيان حيوي.
الدولة كيان حيوي
   الدولة هي امبراطورية قوانين ومملكة مؤسسات وهرم سياقات تعبر عن الإرادة العامة لمجموع المواطنين،.. هي مظهر صيرورتهم التاريخية التي تتناسب ووعيهم ودرجة تطورهم ونموذج حاجاتهم المتحولة على تنوعها السياسي والإقتصادي والثقافي والتنموي. على هذا الأساس فالدولة المؤسسة القانونية الضابطة والمعبرة عن جمهورها كيان شرعي حيوي يجب ألاّ يعرف الخلل في شرعيته أو السكون في حركته أو الثبات في تطوره، ومتى ما فقدت الدولة الشرعية أو شهدت السكون فمتلازمتها الإنفصام والجمود ثم التخلف فالفناء، فالتسلط يحتاج الى الشرعية على طول الخط، والتطور التاريخي يلزم الدولة بتطوير قدراتها وإدارتها وسياساتها.
   حيوية الدولة هنا لا تنتج إلاّ على أساس من الشرعية ومدى تعبير هذه الشرعية عن جمهورها، فالدولة الفاقدة للشرعية لا يمكن أن تعبر أو أن تتلائم مع إرادة مواطنيها فتكون فاقدة لعناصر الإنتماء والولاء والتفاعل وبالتالي فاقدة لشرعية التمثيل فمخالفة لإرادة المواطنين فمعزولة فراكدة فساكنة فسلبية. أيضاً، حيوية الدولة تتجسد بقدرة نظام الدولة السياسي الشرعي على التكيف واستيعاب التطورات والتحديات، والتكيف لا ينتج إلا إذا كانت بنية الدولة بنية مرنة ذات جوهر حي ومتفاعل وحرك قادر بذاته على تصحيح الأخطاء واستيعاب التحولات والتكيف مع التطور التاريخي للوعي الشعبي العام ولفعل الدولة.
   الدولة كيان حيوي ينمو ويتطور في علاقة تبادلية تضامنية تكاملية مع جمهورها على أساس من بُعد الشرعية وبُعد النزعة القانونية وبُعد الوظيفة ووفق فلسفة المواطنة الفردية الفعالة والمدنية الضامنة للحقوق والديمقراطية كنظام تداولي، وهي ككائن حيوي مؤسسي يزدهر بالحركة والتفاعل والديناميكية الذي تنتجه التعددية المضمونة بسيادة القانون والحريات العامة والمدعوم بالتنمية المستدامة،.. فالدولة على هذا الأساس مشروع استجابة دائم لتحديات دائمة لا تعرف السكون كما تعرفه الأنظمة السكونية. 
الأنظمة السكونية
   الذي يصيب تطور الدولة بمقتل هي الأنظمة السكونية، تلك الأنظمة التي تتلبس الشرعية زوراً وتتكلس على فكرة ثابتة ونسق أحادي ومؤسسات راكدة تعارض أي تطور تعكسه إرادة المواطنين أو حاجات الدولة المتنوعة السياسية والإقتصادية والمجتمعية والثقافية.
   الأنظمة السياسية السكونية هي بنية وكتلة، فهي تعبير عن كل بنية تقليدية فاقدة لشرعية السلطة وممارسة الحكم، وهي تعبير عن كل كتلة سياسية من حزب أو مؤسسة أو نخبة متحجرة وقفية تعارض التغيير انطلاقاً من فلسفتها الآيديولوجية الرافضة للتعددية أو انطلاقاً من الحفاظ على مصالحها التي تتهدد بالتغيير،.. على ذلك فالأنظمة السياسية السكونية هي أنظمة تحافظ على الواقع راكداً كما هو، وقبال كل تحد تناور وتلتف وتدور في ذات المربع دون المغامرة بالتغيير الذي تطلبه الجماهير أو تتطلبه مسيرة الدولة أو تبتغيه حركة التطور التاريخي، مثال ذلك الأنظمة الثيوقراطية والأبوية والدكتاتورية المتلبسة للشرعية بفعل التوارث أو الإدعاء الثوري أو الآيديولوجي، إنها أنظمة سياسية سكونية متمحورة على فلسفة الإحتكار للدولة وعلى حملها أمة الدولة ودولة الأمة على رؤية ونسق وسكة محددة لا تغيير لها، وكل تغيير هو تهدد لكيانها ووجودها، لذا هي تعارضه وتقمعه، وإذا ما شعرت بقوة التهديد فإنها ستناور لهدف إفراغ التغيير من محتواه أو لكسب الوقت بغية تفكيكه.
   غالباً ما تكون الأنظمة السكونية أنظمة فاسدة، فكما هي فاسدة على مستوى التمثيل فهي فاسدة أيضاً على مستوى الأداء، هي أقرب الى مقطعات عائلية أو حزبية أو نخبوية تملك وتتحكم وتدير بعقلية الإمتياز لا بعقلية المسؤولية، فالدولة ضيعتها والجمهور عبيدها والثروات خاصتها.
   الأنظمة السكونية وإن تمظهرت بسلطات ومؤسسات وأحزاب ونخب وآيديولوجيات وادعاءات.. إلاّ أنها ككل كتلة تعمل خارج إطار التاريخ التطوري للأمة، وهي كتلة منفعة تجهد لبقاء المُلك بيدها وتسعى لبقاء الواقع كما هو ساكناً لضمان بقاء الإمتياز،.. أنظمة كهذه لا يمكنها التطور، طبيعتها تأبى ذلك، وإذا ما حاولت التطور فإنها ستنهار، لذا فالحل يتحقق بإزالتها كفلسفة ونظام وثقافة ونهج،.. لم نرى نظاماً آيديولوجياً أو أبوياً أو ثيوقراطياً يتطور من داخله بما يتناسب وحركة التطور التاريخي، بل رأيناه ينهار، والسبب يكمن في بنيته وطبيعته،.. إنَّ الأنظمة السكونية أنظمة متكلسة تكسر ولا تصلح.
النظام التوافقي نظام سكوني
   النظام السياسي التوافقي نظام سكوني بطبيعته يأبى التطور وعاجز عن الإستجابة للتحديات وراكد يرفض التقدم،.. طبعاً أقصد بالتوافق هنا التوافق العرقطائفي المحاصصي الذي يقوم على وفق مبدأ سياسي يتمحور حول تقاسم الثروة والسلطة والسيادة بين مكونات الدولة العرقية الطائفية الإثنية، ولا أريد به التوافق السياسي، فالتوافق السياسي طبيعي ومشروع في عرف الدولة.
   سكونية النظام التوافقي العرقطائفي تنتج عن أمرين يخلق أحدهما الآخر ويحرسه، وهما: الإنقسام والتوازن، إنقسام أمة الدولة الى مكونات والتوازن بين سلطات المكونات ذات الهوية السياسية الناجزة، فحين يقيم النظام التوافقي العرقطائفي بنيته على أساس من مبدأ المكوّن -على حساب المواطنة- في الإعتراف والحماية والمصلحة والسيادة فإنه يؤسس لإنقسام أمة الدولة الوطنية ويبقيها أمماً عرقطائفية متمحورة حول هوياتها الفرعية وقواها العرقطائفية وسلطاتها المعبرة عن مصالحها، فتنتج لدينا صيغة توازن الأمم الفرعية داخل الدولة، فلكل أمة هويتها ومصالحها وسلطاتها وقواها التي تعبر عنها، وهو ما ينتج التوازن السلبي في سلطات الأمم الفرعية التي يسلّحها النظام التوافقي بالفيتو الخفي أو المعلن لتحقيق الشراكة والتوازن، الشراكة التي تتجسد من خلال نظام المحاصصة العرقطائفي الحزبي الذي يبتلع الدولة، والتوازن الذي يصادر مبدأ الحسم لإدارة فعل الدولة.
    النظام التوافقي العرقطائفي نظام طوائف سياسية متساوية الإعتراف والقوة يشل أحدها الأخرى لتحقيق التوازن وهذا ما ينتج السكونية السياسية العقيمة، وهو أيضاً نظام التماهي بين السلطة والطائفة والحزب وهذا ما يخلق الإقطاعيات السياسية المنتفعة من النظام فتحارب التغيير،.. إنه نظام دويلات مقنع لا يمكن المراهنة على تطوره كدولة، ونظام أمم متقوقعة لا يمكن المراهنة على تطورها كأمة وطنية، وهو نظام تتجسده وتتقمصه قوى عرقطائفية لا يمكن المراهنة على تطورها كقوى وطنية مدنية،.. والسبب كل السبب يكمن في بنية النظام العرقطائفي القائم على أساس من فكرة المكوّن السيادي،.. لذا فهو نظام سكوني يأبى التطور ذاتياً. 
   الدولة عبارة عن هوية سياسية جامعة وسلطات مدنية محايدة، ومتى ما افترستها الهويات والسلطات لأممها الفرعية فستموت، وموتها هنا هو موت مشروعها الكلي الجامع، عندها ستنوء بنفسها فتركد مسيرتها ويتوقف تطورها وتشهد السكون المميت،.. فلا هي دولة متماسكة تستند أمة سياسية واحدة وسلطات تضامنية تدير فعل الدولة، ولا هي مقسمة ناجزة التقسيم على وفق أقيسة هوياتها العرقية الطائفية الإثنية فتريح وتستريح.  
[email protected]