شتان ما بين من لبسوا “الحفاظات” و”الدروع” ومن قاتل دفاعا عن الأرض والعرض!!
لم تدرك العجوز أم أحمد ، وهي من إحدى عشائر البوهزيم ، في منطقة الملعب بالرمادي،بعد بلوغها الخامسة والثمانين من العمر انها ستضطر لحمل بندقية وتقاتل ، بعد ان بقيت مع من رفض النزوح عن ذلك الحي الصامد وسط المدينة رغم هول القصف المدفعي وإطلاقات الأسلحة المتوسطة والخفيفة التي لم تبق دارا الا وتركت معالم الخراب والدمار بارزة على محيا ذلك الحي الذي تحول الى قلعة للمواجهة ضد من يريد تدنيس مدينتهم ، أو يخضع أهلها لإرادتهم دونما نتيجة..!!
في حين تتحدث أم محمد ، البالغة من العمر ستين عاما، وهي من حي الاندلس في الرمادي ، بلهجة ملؤها الحزن والأسى ، لكنها تخفي خلفها إبتسامة ، تريد ان تقول لمن يريد سؤالها، انها عاتبة على أؤلئك الشيوخ الذين تخلوا عن مدينتهم ، ولبس ( البعض ) منهم مالايوده أهل الانبار للرجال أن يرتدوه، رغم ان البعض الآخر من شيوخها الاصلاء من أبقى مضايفه مفتوحة لأهل مدينته، من تضيق به الاحوال، أو تضطر به الظروف الصعبة أن يجد له ملاذا آمنا، ليس بعيدا عن أهله وعشيرته..!!
شباب أحياء مدينة الرمادي يتفاخرون بصفحات البطولة لشخصيات مشايخ لها تاريخ طويل من الذكر الطيب بقيت تشارك اهل الانبار قتالهم ودفاعهم المستميت عن مدينتهم، ولهم في الشيخ علي الحاتم السليمان والشيخ رعد العلي السليمان ، صاحب القدح المعلى في الدفاع عن أهل الانبار ، واخرين من أخيار الأنبار ، من يكون عندهم مثلا أعلى في الحكمة والاصرار على انتزاع حق مدينتهم وتلقين من يريد استباحتها بأن هدد من يريد اجتياحها بعواقب وخيمة، ان تجرأ أحد من العساكر على المساس بأهل الانبار ، بل ان نساء في الانبار أبين الا ان يحملن عدة القتال، ليواجهوا بها من يريد ان يستبيح الأرض والعرض، في وقت تخلى بعض الرجال عن رجولتهم، او لأنهم من الميسورين وأصحاب غنى ، فقد غادروا المدينة خارجها وتركوا فقراءهم يأنون تحت وطأة عدوان يتكرر على أحيائهم بين لحظة وأخرى، وأبت بعض النساء، ممن رضعن شرف العروبة ، أن يتركن أحياءهن، ليبقين شاهدا على ان نساء الانبار هن من كان لهن شرف مقاتلة من يريد اخضاع ارادة مدينتهن عنوة لمن يطمع في استباحة الديار، فكان حلم العساكر للوصول الى هدفهم هذا أبعد اليهم من منال الشمس!!
أم أحمد لم تدرك ان بعض شيوخ المدينة سوف يخذلونها ويتركونها وحيدة مع بناتها ، تئن من هول القصف المدفعي وآثار الدمار والخراب الذي حل بمنطقة الملعب وجوامعها، بعد ان دخلته الاياد التي لاتحمل لأهل الانبار الا بقايا حقد على مدينة شهد لها التاريخ بأنها صانعة الأمجاد ، وموطن الكرم والضيافة والاخلاق الرفيعة..!!
لم يعرف أهل الانبار من هم ” داعش ” ولا ” ماعش ” لكنهم سمعوا من قبل عمن ارتكب ” الفواحش” من أهل السياسة والمكر والخديعة، ومع هذا إضطرتهم الاقدار ليدافعوا عن وجودهم في أحيائهم وهم من لم يروا كل هذه الجماعات التي كانت الحكومة تطلق عليهم “داعش” ، حتى اتهم أهل الانبار ، وكأنهم كلهم “دواعش” وان لم ينتموا، وصار كل اهل المكون العربي من ” داعش” شاءوا أم أبوا..ومع أدرك ” أصحاب داعش ” ومن غذوا ورقتهم وأظهروا “سعلوتها” الموهومة أن سحرهم سينقلب عليهم “داعشا” يرميهم بحجارة من سجيل كأنهم كعصف مأكول!!.
ورغم آثار الدمار ورائحة الموت والدخان التي تزكم الأنوف في مدينة الرمادي،مازال الكثيرون من أبناء هذه المدينة وعوائلها صامدين في ديارهم، يأبون مغادرتها ، لأنهم يجدون في دفاعهم المستميت عن مدينتهم ، فرصة إثبات الوجود ، لمن لم تعلمه دروس الحياة أن الموت لايقل شرفا عن مباهج الحياة، وإن لاحياة لمن تخلى عن كل شيء وترك أهله ودياره، حتى استباحها من يهدف الى تركيع أهلها، وإستباحة عروبتهم وكرامتهم ، وهيهات ان يحدث لهم هذا ، لأنهم عرب أقحاح لم تلوثهم الأقدار ، وما زالوا يرضعون من حليب أمهاتهم الطاهر ، مايخرج أجيالا من الابطال الذين تعرفهم ساحات الوغى ، وهم لايركعون الا لله الواحد الاحد، الذي لايحمد على مكروه سواه.
بهذه العبارات يتحدث أهل مدن الملعب والضباط والبوبالي والبوعلوان ومناطق شباب الجزيرة في البوذياب والبوعلي الجاسم والبوعساف والبونمر والبوعيثة والبوفراج والبوفهد والبوجليب والبوهزيم والبومرعي والبوعبيد وكل أبناء الانبار الغياري أهل الكرم والنخوة والإباء ، الذين رفضوا مغادرة مناطقهم، ظنا منهم ان حماية الارض والعرض هو واجب أخلاقي رجولي تستوجبه شيم العروبة ونخوة العشائر ومن تبقى لديهم بقية ضمير ، وممن لم تحركهم أطماع السياسات أولا تلوثهم قاذورات صفقات التجارة مع أصحاب الدكاكين الصغيرة والكبيرة من تجار السياسة الذين خذل الكثيرون أهلهم في الأنبار وتركوهم في اقسى محنة يواجهونها، ربما لم يسمعوا عنها الا في كتب التاريخ في عهود هولاكو والمغول والتتار، وعهود الاحتلال الفارسي البغيض قبل الاسلام.
البعض من أهالي الانبار يشفق على أناس كانوا في واجهة الأحداث ، لكنهم أخيرا ارتدوا ( الحفاظات ) بعد ان انقلبت عليهم الاحوال، ولم ينطبق حسابات الحقل على حساب البيدر، ظنا منهم ان تسليم مقدرات اهل الانبار يمكن ان يمر، ولا احد يحاسب من إرتمى في حضن من يضمر لأهله الشر ، ويريد لابنائهم ما يرتضيه رب السموات والارض، وصدق بعض ( شيوخ الدولار ) أن بالامكان ان تنطلي بطولاتهم المزيفة على أحد، وكان على من يلبس ( غترة الرجال ) ان يحافظ عليها ، من ان يقال عنها في يوم ما ما لايليق بالرجال ان يسمعوه عما بدر منهم من مواقف لاتسر، والبعض الاخر ارتدى ( سترات واقية ) لكنه نسي ان صدور اخوته مفتوحة ، وان لافرق بين صدور الأخوة عندما تأتي الرصاصة طائشة أو تداهمهم الأقدار خلسة، والبعض الاخر اراد ان يرتدي ملابس ( الجنرالات ) لكن البدلات التي حاول لبسها كانت أما ضيقة أو ( مهبهة ) لانها لاتليق بمن يلبسها ان يرتديها جسده ، إذ ان ( المعارك ) يفترض ان تدور على أسوار الوطن ، ومن يريد ان يكيد بها أو يتربص بها شرا ..وليس على أبناء جلدته الآمنين الا من الأمن المفقود والكرامة المفقودة!!
أجل ، كان شباب احياء الرمادي أبطالا بكل ما تحمله البطولة في الزمن الرديء من معان، في زمن يختفي فيه الرجال ويهرب الآخرون يبقى من في قلبه ضمير حي من اؤلئك الذين تشهد لهم الأقدار بأنهم هم من سكتبون بأحرف من نور تاريخ مدينتهم البهي، على انها المحافظة التي أبكت الامريكان في زمن غطرستهم وقوتهم وجبروتهم..فكيف يكون الحال فيمن اراد استباحة دمهم ومالهم وعرضهم وارضهم وكرامتهم، ويريد ان ينزعوا عقال الرجولة ليلبس البعض مالا تسر النساء ان يرتديه الرجال، ولا تريد بنات أهل الأنبار أن تسمع إلا قصص إمرأو القيس وعنترة ابن شداد وابو فراس الحمداني وكل الفرسان العرب، الذي كتبوا بأحرف من نور عنوان بطولتهم,,هؤلاء هم من يتحدث عنهم التاريخ وهم الذين يستحقون الخلود..,ولكن كم مات من بين البشر ولا أحد يذكر حتى سطرا واحدا عن موتهم، ولا عن منجز تفتخر به العراقيات من أهالي الانبار ، الا من حملة الشرف العربي الرفيع من أحفاد أؤلئك البررة الاحرار الغر الميامين ، الذين سطروا معجزة الزمن العربي دفاعا عن عروبتهم وكرامتهم، وهم يرفعون معنويات كل تلك الاحياء ليكتبوا عنوان شرف الامة ورايات عزها ومجدها وفخارها.
بوركت وقفتكم يا أهل الانبار..فقد أشادت الدنيا كلها بصور صمودكم وشجاعتكم وروعة ماسطرتموه في سجلكم الناصع من صور تسر كل متطلع الى الخير والفضيلة ..وما يسر كل عراقي شريف ان وقفة الانبار ستضع حدا لكل متطاول على الكرامة والديار، وهي من أخرست الألسن بوقفتها وأهانت من اراد إذلالها، وردته على أعقابه يجر أذيال الخيبة والخذلان..خسارات وانتكاسات مريرة ، ماكان لأهل الانبار يودونها لأاحد ، لو ان من أراد بهم الشر احترم مكانة أهلها ولم يستبح أرضهم وكرامتهم ، فإستحق لعنة الدارين، وبقي أهل الانبار مرفوعي الرأس في الدنيا والآخرة، تفتخر بهم الدنيا على أنهم مثلها الأعلى في الملمات.. انها الاقدار التي تشرفت بكم يا أهل الانبار، فبقيت دواوينكم عامرة ، ومكارمكم محل تقدير الكرماء ، وشرف العراقيات مصان، وحافظتم على شرف الأوطان من الإمتهان،وبقيت رؤوسنا مرفوعة تحكي قصة مدينة بقيت خالدة شامخة على مر الزمان..