23 ديسمبر، 2024 1:28 ص

الأنا في شعر حسين كاظم الزاملي

الأنا في شعر حسين كاظم الزاملي

قراءة نقدية
قد لا أكون ناقدا ادبيا إلا أنني أستهوي الشعر وأتابعه وأعرف كيف اقرأه وقد يسعفني ذلك في أن أضع دراسة متواضعة عن مفهوم الأنا في شعر حسين كاظم الزاملي ، وهي محاولة متواضعة لتسليط الضوء على شعر السيد الزاملي ، ولكن لماذا الأنا بالذات مع أنه تعرض في قصائده الطويلة والقصيرة والابيات المنفردة لمواضيع شتى ، الوطن ، ، السجن ، الغربة ، الحبيبة التي تسبح في فضاءات خياله ، الفقر الذي عصف بالأرجاء، الدموع التي تنزف ، والضياع ، وغيرها من الموضوعات التي تزخر بها كتاباته الشعرية ، ربما لم اكن موفقا في اختيار “الأنا” كبداية للغور في اعماق الزاملي الشعرية ، قد يكون أعجابي بالنبذة التعريفية التي كتبها على صفحته في الفيس دورا في اختيار الموضوع .
أنا ذلك الحلم الطفولي الذي
ذبحوه واحتفلوا على رفساتي
فتسألت من هؤلاء وكيف لهم أن يذبحوا حلما ما زال في طور الطفولة ، وكيف لهم أن يحتفلوا على رقصة الذبيح ، ومن ثم قصيدته الجديدة “حان الزمان” التي رأيتها مؤخرا على صفحته تزخر بمفردة أنا ، من هنا انطلقت لمعرفة تلك الأبعاد العميقة في سمفونية الأنا التي يرددها دائما الزاملي في أبياته ، لم يكن لديه مجموعة شعرية مطبوعة أقلبها لأنقب عن تلك الأنا التي توزعت هنا وهناك ، راسلته دون ان أخبره عن مشروعي ، قلت لها أريد مجموعتك الشعرية فقال لي (ليس لدي ما هو مطبوع لا أحب ان اطبع كتاباتي الادبية ) ، لا أعرف ما تعني هذه الكلمات ، لكن علي أن احترمها ، قلبت صفحات الفيس وبعض المواقع التي نشرت بعض قصائده ، ويمكن أن أكون قد وجدت ضالتي في المادة التي تجعلني أنطلق في فضاءات تلك المعاني.
في قصيدة “سيرة رجل مجنون” تبرز تلك الأنا بشكلها الضبابي نوعا ما ، ومع الإصرار على التعمق في بواطن المعنى يمكن أن تلمس ما يريد أن يبثه لنا ، يقول:
متشائم متفائل أنا هكذا
أنا هكذا متناقض الغاياتِ
ولكن ذلك التناقض لم يكن وليد الصدفة ، فهو يؤكد وجوده في معظم الابيات الشعرية التي تحدثت عن علاقته العاطفية ، لقد كانت القصيدة كلها رحلة في عالم المتناقضات التي تعصف بغراميات الزاملي ، تلك المتناقضات التي نقرأها في كل بيت يمكن أن يحمل رائحة الحب والطموح ، التي دوما يجعلها تعيش عصر التحديات ، فهو يصرخ في أول تلك القصيدة وهو يوجه كلامه لحبيبته الموغلة في الخيال البعيد .
هذا الكتاب يضمُ كل حياتي
فتفضلي وتصفحي سنواتي
إنه يطلب منها أن تتأمل وتتصفح سنواته ، وتجاربه لتتعرف على حجم تلك المعاناة وذلك التناقض ، تلك السنوات التي كانت سيدة الخيال المحور الرئيسي فيها ، ولذا تراه يحدد لنا الخطوط التي ضمتها تلك القصيدة ، إنها المتناقضات ، فهو في الوقت الذي يجعلها في قلبه في أجمل ساعات حياته وهي لحظات عروجه في الصلوات.
لا شيء يوقف سعيكِ ونزوحكِ
حتى عروجي لحظة الصلواتِ
تراه يقتلها ويبكي على قبرها في مكان أخر من القصيدة .
في الصفحة الأولى ذبحت براءتي
وقطعتُ رأسَ حبيبتي وفتاتي
واقمتُ قبراً فوقها وندبتهُ
وبكيتهُ حتى انقضت آهاتي
وبعيدا عن تلك المتناقضات ، يأخذنا الزاملي وبنفس القافية المحببة على ما يبدو إليه في مكان أخر من رحلته الشعرية ليحدد لنا بعدا جديدا من تلك الأنا التي تتربع على شعره ، وإن كانت الحبيبة الضائعة في متاهات مخيلته عنوانها الابرز .
لا تقرأي في صفحة الوفياتِ
أنا من اكون فينشرون وفاتي
هذه السيدة في شعر الزاملي هي ذاتها السيدة التي طلب منها ان تقرأ كتاب حياته ، وعلى ما يبدو أنها لم تستوعبه أو لم تقرأه بالأصل لذلك جدد قصيدته بنفس النبرة ، ونفس الأسلوب ، ولكنه هنا يعرفها على نفسه بشكل اكثر واقعية ، فيكرر مفردة “أنا”
أنا آهةٌ كانتْ وما زالتْ ولا
في الظنِ يوْما تنْقضي آهاتي
انا ذلك الحلم الطفولي الذي
ذبحوه واحتفلوا على رفَساتي
انا رحلةُ الاعوام في زمَن قضَى
أن تُترك الأحكامُ للحظّاتِ
أنا ذلك الحس الرهيف بعالمٍ
فيه الدماء تموج بالطرقاتِ
إنه تصوير رائع للواقع الذي يردنا أن نتصوره ، فالآهات مستمرة ، والحلم الطفولي البريء المذبوح بمقصلة سطوة اللحظات على حساب رحلة السنوات العملاقة ، تلك اللحظات التي جعلت بسياستها الغبية الدماء تموج على الطرقات ، وما يفعل صاحب الحس الرهيف في ذلك الوضع المؤلم ، ومن هنا ينطلق الزاملي ليضعنا في مساحة جديدة للأنا .
انا قد ولدتُ
وصارخٌ جنبي
يقول… .بلا كلام
ووقفتُ عند بداية
الدرب المعبئ بالركام
يلفني رعب شديد
كأنني طفل
أضاع أباه في وسط الزحام
ومشيت التحف الدروب
بلا انتماء
والنار تأكل في سنابل لهفتي
دون انتهاء
والأفق يعبث في خطاي
بلا رجوع

أنا قد ولدتُ
وفي قماطي ألف شرطي
يلقنني الخنوع
وألف الف مقدس
يحكي
يعلمني السكوت
على الهراء
على مزاولة العناء
بلا ثمار
وكيف نصبر حين
نلتهم الزؤام…
فهو لم يبتعد عن ذلك المشهد ، ويجعلنا نعيش محنة التصور مرة اخرى ، فلابد ان تكون هناك ثمار بعد عصر العناء ، ولكنه هنا يؤكد أنه لا توجد أي ثمار ، هل هي إشارة
لعصر الثورة الذي كان يحلم به الزاملي حيث الشمس تشرق من جديد ، كما في بعض قصائده ، وخاصة أنها جاءت بعدها مسألة الصبر المذموم ، الشيء الذي استوقفني تشبيه حالته بطفل حينما يفقد الأب في زحمة الناس .
كأنني طفل
أضاع أباه في وسط الزحام..
ماذا يريد ان يقول لنا الزاملي بهذا المشهد المؤلم الذي قد نمر به في حياتنا ، ولماذا ركز على الطفل دون الأب ، وفي تحول نوعي يذهب بنا إلى عقلية الخنوع التي تجتاحنا ، إنها بسبب التربية التي تولد معنا وبسبب المقدس الذي لا يعرف إلا لغة الخوف التي بثها فينا .
أنا قد ولدتُ
وفي قماطي ألف شرطي
يلقنني الخنوع
وألف الف مقدس
يحكي
يعلمني السكوت
على الهراء
على مزاولة العناء
بلا ثمار
وفي قصيدة ” لن الومكِ” يرجع بنا إلى ذلك العصر الذي تركناه قبل قليل ، إنه عصر المتناقضات فنراه يعترف انه قتيل وإنه اسير تلك المعاناة وذلك الخيال .
أنا قتيلكِ ، أرضى أن تقطعني
خناجر الغدر من رأسي إلى قدمي
……
أنا أسيركِ ، لا شيء سيوقفني
أن أسحق الخوف… أن أمشي على ورمي
ولكن إلى أين يمشي وهو محاط بتلك المتناقضات وذلك الخوف في مساحة خياله الواسع والذي يحيط عالم غرامه والعشق الذي يعرفه لنا .
إني فهمت العشقَ فوق غرائزي
ورأيته كالسّيرِ فوق النارِ
هو أن ترى الأشياءَ في منظارِها
والعينُ لا تقوى على الإبصارِ
هو أن تظلَّ بوحشةٍ مجنونةٍ
لا ترتوي من كلِّ ماء جاري
هو غاية التقديس … ليس دنائةً
أو رغبةً أو أي شيءِ هارِ
وفي مكان أخر يؤكد لنا أن الصباح عبارة عن ارق ، ذلك الارق الذي ينبغي أن يأتي في الليل ، لم يقل امسيت ، بل تراه يقول اصبحت في مديات الأرق الذي يعيشه كناسك اعتاد على العزلة بين الجبال وما يمكن ان يمثله ضجيج الناس بالقرب منه ، وهو نمط من تلك المتناقضات التي يريد منا الزاملي ان نقف عليها بتأمل .
اصبحتُ والناس من حولي تؤرقني
كناسكٍ قلبهُ يهفو الى جبلِ
اقولها لكِ مولاتي وملهمتي
ومنتهى الألم المكنون في عللي
إن الجوى في ظلام الليل يطحنني
كالحبِّ بين الرحى في كفِّ منفعلِ
ومرة اخرى يضع تلك الحبيبة في مساحة التساؤلات ،ويجيب على سؤالنا حول ذلك الارق ، إنه يعيش في عتمة الليل مثل الحب بين الرحى في كف شخص منفعل ، فهو يرمي كل انفعالاته بحركة الرحى ، إنه تشبيه تمثيلي في غاية الدقة ، فصباحه ارق وليله اندكاك وانكسار وتلاشي ، تلك الحبيبة التي يجدد الأنا في عالمها .
أنا قد عزمتُ على الرحيلِ ولم أعدْ
مثل القديم أدورُ في أوهامي
لا تسألي أين اشتياقكَ… حسبكِ
ما ضاعَ من عمري …ومن أحلامي
لا ترتجي قلبي المُسجى … إنكِ
من كنتِ فيهِ مواطنُ الآلامِ
فالرحيل من عالم الحب الذي تحيطه الاوهام إلى الحقيقة المرة هو ذاته عند الزاملي الرحيل من وطن لا يحترم ابنائه إلى مكان يحترم الإنسان ، فتراه يصرخ في قصيدة “غدا ستعرفُ” أنه سيرحل في الغد من هذا البؤس والحرمان إلى مكان أخر .
غداً أهاجرُ عن أهلي وعن بلدي
ما عادَ لي بين هذي الناس من أحدِ
فحينما لا يوجد لديك أي أحد في وطنك هذا يعني انه قد تمت مصادرة الوطن ،وعليك الرحيل إن لم تتمكن من استعادته ، ولكن مع تلك المعاناة فأنه يعترف انه سيرحل بجسده دون روحه التي رفضت أن تذهب معه ، فهل يريد الزاملي أن يقول أن الروح دائما تبقى بالوطن ، ولن تسافر .
هنا سأترك روحي … لا تطاوعني
وأقصدُ العالمَ المجهولِ في جسدي
وفي المقطع الثاني من القصيدة يوضح كيف تمت مصادرة الوطن وانه يفضل الإعصار القاتل على أن يبقى رهين الجلوس مع تلك الايادي التي سرقة الوطن الذي كنوزه وخزائنه مثل التراب إلا أن الفقر يحصده ، فهو المهاجر نحو الموت في طرب.
أقولُ للمنقذِ الإعصار …في ولهٍ
رحماكَ خذني… ولا تهتم في وهني
أنا المهاجرُ نحو الموت في طربٍ
ولن تفرّ على أعقابها سفني
أنا أتيتكَ من أرضٍ خزائنها
مثل التراب وفيها الفقر يحصدني
أنا أتيتكَ لا وعدٌ ولا أملٌ
سوى الضياع يسليني ويقتلني

ولكن أحيانا يضع الزاملي الأنا في تلك القصائد كناية عن طموحات امة وعن قابلية أمة على التغيير ، التغيير الواقعي وليس الصوري ، فهو يحرك الأنا ليستكشف واقعه المرير .
أفنيتُ عمري في الطريقِ
ولم اشاهد
لحظة الزمن السعيد
قالوا هناك
وخلف ذلك الجبل البعيد
حكاية
أسطورة
أضحوكة
بعض الزعيق
ينبيك عن زمن جميل
ومشيتُ أحتضن الدروب
أنا والعويل
والخوف يلتهم النفوس
بكل مفترق رقيب
بلا دليل
سوى الكلام …
ووجدتُ خلف حكاية الجبل البعيد
حرائقاً ….
وسمعتها … هل من مزيد
أي طريق ذلك الذي يصوره لنا الزاملي ، مؤكد إنه طريق الثورة المستحيلة التي اكتوى بنارها وهو في مقتبل عمره ن حيث سجن وله من العمر تسعة عشر عاما ، فهو يقول افنيت عمري بالطريق ، إنه اشارة لتلك السلسلة من الأجيال التي قتلت على ذلك الطريق ، فهو يسير مع العويل ، وهو هنا كناية عن ذلك الارث المرعب الذي يسير معه ، ولكن ماذا وجد خلف ذلك الجبل الذي يحجب الرؤية عن السائرين ، إنها نار مستعرة تقول هل من مزيد .
وفي بيت
لم أجد قصيدته في اي الاماكن التي بحثتها ولعله بيت من قصيدة تربعت فيها الأنا يرسم لنا الزاملي هوية أخرى لتلك الأنا .
أنا المسافر في اللاشيء يأخذني
ضوء النهار وحزن الليل يطويني
إن فكرة السفر في اللاشيء هي فكرة خارج التصور فكل ما يحيطنا هو شيء ، فكيف يمكن للسفر أن يكون في اللاشيء ، وكأن الزاملي يريد أن يقول لنا أن الأشياء غير المجدية وجودها من عدمها واحد فهي لا شيء في المنظور العملي ، ولعل قصيدة “حان الزمان” التي اختم بها رحلتي المتواضعة هي أكثر القصائد التي حملت مفردة “أنا” هذه القصيدة التي جسد بها الزاملي علاقته الحميمة مع تلك الحبيبة الموغلة في الخيال ، عبر إثارة ذلك التناقض من جديد ، ويبدو من أبيات القصيدة الثلاثين أنها تتحدث عن تلك السيدة التي تسافر في فضاء القصيدة ، وهنا يحاول ان يكون معها في حوارية او مقارنة ، إلا أن الزاملي يضع واقعه في إطار المسؤولية في تحريك مفردة الأنا وفي مناخ تحكمه الصرامة
أنا المُضَّيعُ في قومي وفي وطني
كدرةٍ رُميت ما بين أحجارِ
هل الكلام موجه لشخص بعينه أم للمجتمع الذي ضاعت به قابليات الفاهم والمدرك تحت ضجيج الجهل وغباء المحيط، هل كان يقصد الزاملي نفسه أم حالة معينة يشعر بها كل إنسان مدرك ،ثم يتحول ليعرفنا عن انتمائه للمكان عبر مفردة الأنا .
أنا الذي عشق الأطلال يحسبها
يوما تعود كما كانت بأسوارِ
الأطلال هي بقايا القرى او المدينة ، وقديما كانت المدن محاطة بأسوار ، ما الذي يريد أن يقوله السيد الزاملي هنا ، لعله يريد أن يقول أن الزمن لا يعود إلى الخلف كما أن الإطلال لا تعود محاطة بأسوار ، وفي المقطع الاخير من قصيدته يضع نفسه بمقارنة عبر مفردتي أنا وأنتِ وفي كل مرة هناك حالة وتشبيه يبين من خلاله تلك المتناقضات التي تضج بعالم السيد الزاملي الشعري .
أنا وأنتِ .. وأحلامي .. ومنيتكِ
كشمعةٍ وقعت في حب إعصارِ
كيف يمكن للشمعة التي تترنح تحت وطأة النسيم أن تعشق ذلك الإعصار ، ويستمر الزاملي بوضع سلسلة من تلك المتناقضات .
أنا وانتِ ..وأحوالي .. وعالمكِ
سفينة أشرعت من غير بحارِ
ولك أن تتصور تلك الاحوال وذلك العالم الذي يكون مثل سفينة تجوب البحار من دون اي شخص يوجهها ، مؤكد أن الرياح والامواج العاتية ستأخذها حيث تريد .
وعلى ما يبدو ان المساحة التي شغلتها الأنا في شعر الزاملي واسعة ولا يمكن تقصيها بسهولة لعدم وجود مصدر يحتوي على جميع شعره ، وفي الختام ادعو السيد الزاملي إلى طباعة شعره بمجموعة شعرية واحدة ليضعها أمام القراء ، مع اعتذاري لأنني اقتحمت من دون سابق انذار عالمه الشعري ورمزيته المفرطة .