18 ديسمبر، 2024 10:10 م

قصة: عزيز نسين
ترجمة: محـمد هاشم الصالحي

كانت أيامه الأخيرة التي أمضاها في السجن صعبةً جداً. حتى بعد إطلاق صراحه كان يعيش أيامه في ضيق بالغ وهو يستذكر تلك الأيام السوداء التي قضاها خلف القضبان. بعد إنتهاء أيام الحبس وإنطلاقه إلى عالم الحرية عاد إلى العاصمة. هناك وجد نفسه وحيداً تماماً بين زحمة الحياة، خصوصا بعد أن طلقت زوجته منه وهو في السجن.

إلى جانب هذا فهناك أمور كثيرة كانت مصدر لتشاؤمه تلقائيا، مضافا إلى ذلك إفلاسه الشديد وعدم امتلاكه لأية أموال في سبيل ارتزاقه.

السياسة كانت سبباً كذلك، وعليه الآن البحث عن عمل يؤمن منه قوت يومه. في البدء عليه تأمين سكن مناسب وبيت يستظل تحت سقيفته. إلا أن أجرة البيوت وسط هذه المدينة مرتفع وهو لا يتمكن من تأجير بيت حتى في ضواحي المدينة. فقد ضجر من تردد موظفي دائرة العمل للمطالبة بمستحقات الإيجار عليه أو حجز قطعة أو قطعتين من ممتلكاته العتيقة والبسيطة لحين إيفائه للديون.

نظرات أهل الحي من الأهالي الذين يسكنون البيوت المجاورة كانت نظرات متوحشة. أنهم يمعنون النظر إليه وتطلعاتهم المخيفة كانت تحسسه وكأنه عدو لدود. الأمر يستوجب عليه البحث عن مأوى له خارج المدينة وحتى خارج ضواحيها ليؤمن لنفسه الخلوة في بيت صغير زهيد الأجر.

بعد البحث والتقصي هنا وهناك وجد المكان الذي يضع فيه متاعه. غرفة صغيرة من صريفة قديمة في محلة حقيرة يسكنها المعوزون فوق تلّة منسية بعيدة عليها من خمس إلى عشر صريفات ليس إلاّ. التلّة تبعد عن المدينة قرابة الساعتين أو أكثر مشياً على الأقدام. علاوة على ذلك فإن المسافات التي تفصل بين صريفة وأخرى كانت حالة إيجابية للغاية بل وكان هو المطلوب.

إنه لا يملك شيئاً سوى حقيبتين من الكتب وقطعة أو قطعتين من الحاجيات المختلفة الصغيرة. استخدم أوراق الجرائد القديمة لتغطية نوافذ صريفته وكان سعيداً جداً بالمكان الجديد. بعد الاستقرار في هذا الحي الفقير عليه الآن إيجاد عمل مناسب ليعيش يومه بسعادة أكثر.

مقابل صريفته تماما وداخل فرع ضيق يوجد محل بقالة. على يسار البقال محل لبيع الفواكه داخل كوخ صغير مركب عشوائياً كيفما يشاء. إنه يتردد عليهم دوماً لقضاء احتياجاته، حتى غدا صديقاً مقرباً إليهم. البقال وبائع الفواكه هذا دائم التشكي من ضيق الحال وكساد العمل والربح القليل. حيث أن سكان المنطقة من البؤساء ولا يتردد عليهم في اليوم الواحد سوى خمسة أو ستة من الزبائن المتبضعين ليس إلاّ. المتسوقون من المعدومين والمحتاجين ليس لهم أن يضعوا الكثير من المال في الشراء. فلو كان لهم رأس مال معقول لنقلوا محلهم إلى مناطق أخرى أكثر حركة وأكثر نشاطاً وأكثر كثافة سكانية. لكن حالتهم المادية الهزيلة تحول دون ذلك.

بعد أيام معدودة من استقراره في هذا الحي الفقير وهذه الصريفة المتواضعة، ظهر في المكان بائع خبز والذي بسط بضاعته أمام محل البقال. بائع الخبز يحضر إلى المكان كل يوم بعد ساعة الظهيرة وحتى حلول الظلام.

بعد حين بدأ بائع الذرة بالظهور في المكان هو الأخر وهو يجلس بجانب بائع الخبز. وفي الجهة الأخرى لمحل بائع الفواكه ظهر بائع الحلويات والكعك وغيره من الباعة المتجولين. ثم جاء صباغ الأحذية ثم بائع العصائر. وأخيراً ظهر في المكان خفاف يجلس تحت مظلة قديمة.

في فترة وجيزة تكوّن أمام صريفته سوق صغير فيه مختلف الباعة. كناس ينظف المنطقة منذ الصباح وحتى المساء. المكان أصبح ممتلئاً بسرب من الباعة الجوالة. انشأ بين محل البقال وبائع الفواكه مقهى صغير، فأصبح الناس يترددون إلى المكان أكثر فأكثر. حتى الصريفات المتروكة منذ زمن بعيد قد تم تأجيرها الآن.

هو سعيد من هذا الجو المبهج المليء بالنشأة والسعادة. لكنه ما زال عاطلاً عن العمل وعليه إيجاد ما يؤمن له الربح السريع. رغم البحث والتقصي لكنه ما زال حتى اليوم عاطلاً دون أن يجد ما يرتزق منه. كل من يقصدهم بغية الحصول على عمل، كانوا يتراجعون عن قرارهم في ذلك بعد تردد الشرطة عليهم وكشفهم لهويته وماضيه.

أصدقائه كذلك يعانون من نفس الضائقة، هم أيضاً لا يجدون عملاً. هم دون عمل ودون مال وهو لا يتمكن من طلب المساعدة منهم أو إقتراض شيئاً من المال لقضاء احتياجاته. رغم قلته لكن أجرة الصريفة تثقل كاهله. لذا فهو ينوي هذه المرة الانتقال إلى المدينة ليسكن مع صديق له ليتقاسم معه أجرة الغرفة. قبل عرض الفكرة على هذا الصديق فإنه يواجه صعوبة كبيرة في ترك هذه المكان وهذه الصريقة. حيث إنه مدان وعليه الإيفاء بديونه للبقال وبائع الفواكه وغيره من الباعة وإن كان شيئاً يسيراً.

في ليلة وهو يفكر ببيع بعض حاجياته ليتمكن من تسديد ديونه، طرق الباب. القادمون ثلاث أشخاص وهم البقال وبائع الفواكه وصاحب المقهى. استقبلهم المسكين في غرفته والخجل ظاهر على وجنتيه.

قال لهم:

– أرجو المعذرة، فإنني لا أملك ما أكرمكم به من قهوة أو أي شيء آخر.

قال البقال وهو مبتسم ويضع الأكياس الورقية التي بيده على المائدة الصغيرة:

– لا ضرر من ذلك.. فقد جلبنا لك بعض الشيء من القهوة والسكر.

إنه في حيرة من أمره، لماذا يا ترى جلبوا له كل هذا؟ حيث إعتقد للوهلة الأولى إنهم جاءوا يطالبونه بإرجاع ديونهم.. ولكن ما هذه الهدايا التي جاءوا بها؟!

قال بائع الفواكه:

– حسب ما سمعناه، فإنكم تنوون الانتقال من هنا؟

– نعم.. سوف أنتقل.

الآن قد فهم سبب مجيئهم . فمن الطبيعي أن يضطربوا ويقلقوا لانتقاله من هذا المكان دون الإيفاء بديونهم.

– نعم.. لكن من أين لكم نبأ انتقالي من هذا المكان؟!

أجابه بائع الفواكه وهو يعني ما يقول:

– نحن نسمع، ومن مصدره.

– اطمئنوا يا سادة، فلن أذهب من هنا دون الإيفاء بديونكم كاملة دون نقصان.

تفوه صاحب المقهى:

– الآن قد إرتكبت عيباً كبيراً.. فهل هناك من يطالبك بالدين؟!

البقال:

– مسألة الدين لا يستحق حتى مجرد الحديث بخصوصه.. فليس هناك مبلغ كبير يستحق الاهتمام.

بائع الفواكه:

– ما يترتب عليكم من ديون تعود إليّ فأنا أبري ذمتكم منها. أنا لن أطالبكم بشيء قطعياً ولن أقبل منكم حتى لو أرجعتم الديون إليّ.

– ولكن لماذا؟ ما خطبكم؟

– نحن نعرف قيمتك ونثمنك يا أخانا العزيز.. فأفضالك كثيرة علينا.

تحدث بصعوبة وكأن عقدة قد إستقرت في حنجرته. قال لهم:

– استغفر الله.

إذن فهم يعرفونه.. ويعرفون ما عمله من أجلهم ومن أجل الناس. فلماذا كان فاقداً للأمل، ولماذا كان متشائماً كل هذا؟. إنه كان يفكر بالإبتعاد عن عالم السياسة. لكنه كان مخطأ فليس له أن يترك هؤلاء الأوفياء!.

صاحب المقهى:

– أرجوك كثيراً.. أن تدع عنك فكرة الانتقال من هنا.

بائع الفواكه:

– نعم.. جئناك لنرجو منك ذلك.

– لكن لا بد لي من الانتقال.. فليس بمقدوري تسديد الإيجار الشهري للصريفة.

بائع الفواكه:

– نعرف إنه من الصعب عليك ذلك.. بل ونعرف كل شيء. ونحن أهل المنطقة فكرنا ملياً في الأمر وتشاورنا معاً. وقررنا جمع المال فيما بيننا وتسديد الإيجار شهرياً بدلاً عنكم. فقط ما نطلبه منكم هو البقاء هنا.

البقال:

– بقائكم هنا يكفي.. أما موضوع إيجار المكان فلا تفكر به أبداً.

امتلأت عيناه من السرور ودموع الفرح تكاد أن تنسال من عينيه. فهذه هي المرة الأولى يشاهد فيها الناس وهم يقيّمون ماضيه النضالي من أجل رفاهية الشعب.

قال لهم:

– لن اقبل بذلك فهذا كثير جداً.. فليس الإيجار لوحده المشكلة، فأنا عاطل عن العمل وليس لي ما يؤمن قوتي اليومي والارتزاق هنا أمر صعب للغاية. لذا فقد قررت السكن مع احد أصدقائي.

البقال:

– نحن أهالي هذه المنطقة نفكر بهذا الموضوع منذ أيام. فكرنا بكل شيء، حتى مسألة حصولكم على مورد شهري. مهما كانت مصاريفكم الشهرية سوف نقوم بجمعها فيما بيننا وندفع عنكم كل التزاماتكم المادية. فقط نرجوكم أن تعدلوا عن قرار ترككم لمنطقتنا. سنفتقدكم جداً، أرجوكم لا تغادروا المنطقة.

كان الثلاثة يتوسلون به بدرجة غريبة.

أمام هذا المنظر غير المألوف فهو يفقد السيطرة ويكاد أن يبكي. فرغم كل شيء ورغم أقاويل الناس فإن في المدينة تطور كبير ونهضة ملحوظة. الناس منتبهين للغاية وليسوا في سبات كما يبدو للناظرين. إذن فلم يذهب جفائه طوال تلك الأعوام أدراج الرياح ولم تكن تضحياته هباءً منثوراً. الأمر ليس كسابقه، فالناس كانت تتهرب حتى من إلقاء التحية عليه واليوم ها هم يتسارعون إليه ويلتفون حوله.

قال لهم:

– أشكركم كثيراً.. دمتم لي إخوة.. لقد أحسست إحساساً غريبا لم أحس به من قبل.. ولكنني لن استطيع القبول بعرضكم هذا.

فبدأ الحضور بالتوسل به من جديد.

البقال:

– هذا المكان لا يناسبكم.. وهو ليس بالمكان اللائق لسكناكم. ونحن على دراية بأنه ليس على مرامكم، فلنأجر لك بيتاً على مقربة من هذا المكان ذو طابقين وفيه حوض سباحة والكثير من الأمور التي تليق بمقامكم.. دعنا نأجره لكم.

صاحب المقهى:

– ما نريده هو بقائكم في المنطقة وبالقرب منا.

الأمر دفعه إلى المزيد من الدّهشة.. فإلحاح هؤلاء فيه الكثير من الغرابة.

– حسنا.. لكن لماذا تصرون على بقائي في هذه المنطقة؟

– الأمر واضح يا سيدي.. فإننا ومن في المنطقة جميعاً يرتزقون بفضل وجودكم هنا.

– استغفر الله.. فالأرزاق بيد الله.. وأنا لا أشتري منكم الشيء الكثير التي من الممكن أن تغنيكم؟!

– شرائكم ليس بالأمر المهم.. ليس همنا شرائكم من عدمه.. فأنتم جلبتم لنا وللمنطقة السعادة.. فقبل مجيئكم للمنطقة كان محلي سيتقبل ثلاثة أو أربعة زبائن فقط في اليوم الواحد.. بعد بمجيئكم انتعش المحل وأصبحنا فرحين للغاية.. انظروا إلى المحال التي فتحت مؤخراً كلها بفضل وجودكم في المنطقة.

البقال:

– كلها بفضلكم.

صاحب المقهى:

– ألطف بحالنا.. فإذا غادرتم المكان فسوف يعود الكساد والعطالة، وتغلق المحلات وسأكون أنا أول الخاسرين.

بائع الفواكه:

– إذا تركتم هذا المكان ستعود الخمول والجمود إلى الحي من جديد.. ويتشتت شمل أفراد المنطقة وسنجوع صغاراً وكباراً وسنعود أذلاء.

الرجاء والتوسل مرة أخرى.. إنهم أصحاب عوائل ولا مناص من التفكير بحالهم والشفقة عليهم. إنهم يرتزقون بفضله ويديرون أمورهم بسبب وجوده.. الحاجة إليه ماسة وهم جاهزين لأن يدفعوا له راتباً شهرياً مقابل بقائه في المكان.

قال لهم:

– دمتم أعزاء.. لكنني لم أقدم لكم خدمة كبيرة تستحق كل هذا.. فماذا فعلت لكي تقدموا لي كل هذا مقابل بقائي بالقرب منكم؟!

بائع الفواكه:

– وماذا بعد الذي قدمته لنا جميعاً؟ لن ننسى لك فضلك.. مع سكنكم في هذه الصريفة جاء إلى المنطقة أفراد من الشرطة بأشكال وألوان مختلفة. منهم من هو كناس يعمل في تنظيف الشوارع ومنهم من هو صباغ للأحذية وكل ذلك بهدف مراقبتكم وتسجيل تحركاتكم ورصد أفعالكم. ولغرض مراقبة أفراد الشرطة هؤلاء جاءت أفراد أخرى من الشرطة. فأصبحت المنطقة تشهد حركة مكثفة حتى انتعشت أعمالنا.

البقال:

– في البدء كانوا يسألون عن تحركاتكم..

بائع الفواكه:

– وكانوا دائمي الشراء من محلاتنا.. ومن ثم جاء بائع الأنتيكات والتحفيات والخفاف وبائع السكر وبائع المخللات وبائع الكعك وغيرهم..

 

صاحب المقهى:

– أنا أيضا سيدي.. قمت بإنشاء المقهى والارتزاق بفضلكم. وهم يجلسون في المقهى حتى ساعات المساء يلعبون الطاولة والورق وكل فرد فيهم يشرب ثلاثة أو أربعة أقداح من القهوة على اقل تقدير. لذا فقد أصبحت أمورنا على ما يرام.

نظر إليهم بحرقة وقال:

– أكل أولئك من أفراد الشرطة المدنية؟!

– منهم من هو من أفراد الشرطة المدنية ومنهم من هو ليس كذلك.. فإذا اجتمع شخصان فسوف يجمعون خمسون شخصا آخر. وإذا تركتم هذا المكان ستعود المنطقة إلى سابق عهدها.. وستذهب أفراد الشرطة من هنا لتتبعكم في مكان آخر.

البقال:

– وبهذا سوف تحترق كل تجارتنا..

بائع الفواكه:

– أرجوكم فكروا بالفقراء.

صاحب المقهى:

– نرجو منكم البقاء هنا لحين جمعنا لشيء من المال على الأقل وان يكون لنا رأس مال جيد.

فكر بالأمر.. فوجد انه سوف يجابه مواقف أخرى صعبة في أية منطقة ينتقل إليها.

قال لهم:

– حسناً.. لن أنتقل من هنا، لكن عليكم بإسترجاع ما جلبتموه لي.

أعطى للبقال الأكياس الورقية الأربعة التي كان قد وضعها على الطاولة.

وهم خارجون من الصريفة قال بائع الفواكه:

– هل نبلغ البشرى إلى بقية الأصدقاء في المنطقة؟

– نعم.. فلن انتقل من هنا.. ولن اطلب منكم شيئاً.

صاحب المقهى:

– رضي الله عنك..

 

 

 

 

 

 

 

منطقة المرفقات

تم فتح المحادثة. رسالة واحدة مقروءة.

تخطى إلى المحتوى
استخدام بريد Kitabat مع قارئات الشاشة
1 من 41,316
ترجمة للنشر مع الشكر
خارجيون
البريد الوارد

mehmet salihi
المرفقات
9:25 م ‎(قبل ساعة واحدة)‎
أنا

الأناس يستيقظون

قصة: عزيز نسين

ترجمة: محـمد هاشم الصالحي

.

 

كانت أيامه الأخيرة التي أمضاها في السجن صعبةً جداً. حتى بعد إطلاق صراحه كان يعيش أيامه في ضيق بالغ وهو يستذكر تلك الأيام السوداء التي قضاها خلف القضبان. بعد إنتهاء أيام الحبس وإنطلاقه إلى عالم الحرية عاد إلى العاصمة. هناك وجد نفسه وحيداً تماماً بين زحمة الحياة، خصوصا بعد أن طلقت زوجته منه وهو في السجن.

إلى جانب هذا فهناك أمور كثيرة كانت مصدر لتشاؤمه تلقائيا، مضافا إلى ذلك إفلاسه الشديد وعدم امتلاكه لأية أموال في سبيل ارتزاقه.

السياسة كانت سبباً كذلك، وعليه الآن البحث عن عمل يؤمن منه قوت يومه. في البدء عليه تأمين سكن مناسب وبيت يستظل تحت سقيفته. إلا أن أجرة البيوت وسط هذه المدينة مرتفع وهو لا يتمكن من تأجير بيت حتى في ضواحي المدينة. فقد ضجر من تردد موظفي دائرة العمل للمطالبة بمستحقات الإيجار عليه أو حجز قطعة أو قطعتين من ممتلكاته العتيقة والبسيطة لحين إيفائه للديون.

نظرات أهل الحي من الأهالي الذين يسكنون البيوت المجاورة كانت نظرات متوحشة. أنهم يمعنون النظر إليه وتطلعاتهم المخيفة كانت تحسسه وكأنه عدو لدود. الأمر يستوجب عليه البحث عن مأوى له خارج المدينة وحتى خارج ضواحيها ليؤمن لنفسه الخلوة في بيت صغير زهيد الأجر.

بعد البحث والتقصي هنا وهناك وجد المكان الذي يضع فيه متاعه. غرفة صغيرة من صريفة قديمة في محلة حقيرة يسكنها المعوزون فوق تلّة منسية بعيدة عليها من خمس إلى عشر صريفات ليس إلاّ. التلّة تبعد عن المدينة قرابة الساعتين أو أكثر مشياً على الأقدام. علاوة على ذلك فإن المسافات التي تفصل بين صريفة وأخرى كانت حالة إيجابية للغاية بل وكان هو المطلوب.

إنه لا يملك شيئاً سوى حقيبتين من الكتب وقطعة أو قطعتين من الحاجيات المختلفة الصغيرة. استخدم أوراق الجرائد القديمة لتغطية نوافذ صريفته وكان سعيداً جداً بالمكان الجديد. بعد الاستقرار في هذا الحي الفقير عليه الآن إيجاد عمل مناسب ليعيش يومه بسعادة أكثر.

مقابل صريفته تماما وداخل فرع ضيق يوجد محل بقالة. على يسار البقال محل لبيع الفواكه داخل كوخ صغير مركب عشوائياً كيفما يشاء. إنه يتردد عليهم دوماً لقضاء احتياجاته، حتى غدا صديقاً مقرباً إليهم. البقال وبائع الفواكه هذا دائم التشكي من ضيق الحال وكساد العمل والربح القليل. حيث أن سكان المنطقة من البؤساء ولا يتردد عليهم في اليوم الواحد سوى خمسة أو ستة من الزبائن المتبضعين ليس إلاّ. المتسوقون من المعدومين والمحتاجين ليس لهم أن يضعوا الكثير من المال في الشراء. فلو كان لهم رأس مال معقول لنقلوا محلهم إلى مناطق أخرى أكثر حركة وأكثر نشاطاً وأكثر كثافة سكانية. لكن حالتهم المادية الهزيلة تحول دون ذلك.

بعد أيام معدودة من استقراره في هذا الحي الفقير وهذه الصريفة المتواضعة، ظهر في المكان بائع خبز والذي بسط بضاعته أمام محل البقال. بائع الخبز يحضر إلى المكان كل يوم بعد ساعة الظهيرة وحتى حلول الظلام.

بعد حين بدأ بائع الذرة بالظهور في المكان هو الأخر وهو يجلس بجانب بائع الخبز. وفي الجهة الأخرى لمحل بائع الفواكه ظهر بائع الحلويات والكعك وغيره من الباعة المتجولين. ثم جاء صباغ الأحذية ثم بائع العصائر. وأخيراً ظهر في المكان خفاف يجلس تحت مظلة قديمة.

في فترة وجيزة تكوّن أمام صريفته سوق صغير فيه مختلف الباعة. كناس ينظف المنطقة منذ الصباح وحتى المساء. المكان أصبح ممتلئاً بسرب من الباعة الجوالة. انشأ بين محل البقال وبائع الفواكه مقهى صغير، فأصبح الناس يترددون إلى المكان أكثر فأكثر. حتى الصريفات المتروكة منذ زمن بعيد قد تم تأجيرها الآن.

هو سعيد من هذا الجو المبهج المليء بالنشأة والسعادة. لكنه ما زال عاطلاً عن العمل وعليه إيجاد ما يؤمن له الربح السريع. رغم البحث والتقصي لكنه ما زال حتى اليوم عاطلاً دون أن يجد ما يرتزق منه. كل من يقصدهم بغية الحصول على عمل، كانوا يتراجعون عن قرارهم في ذلك بعد تردد الشرطة عليهم وكشفهم لهويته وماضيه.

أصدقائه كذلك يعانون من نفس الضائقة، هم أيضاً لا يجدون عملاً. هم دون عمل ودون مال وهو لا يتمكن من طلب المساعدة منهم أو إقتراض شيئاً من المال لقضاء احتياجاته. رغم قلته لكن أجرة الصريفة تثقل كاهله. لذا فهو ينوي هذه المرة الانتقال إلى المدينة ليسكن مع صديق له ليتقاسم معه أجرة الغرفة. قبل عرض الفكرة على هذا الصديق فإنه يواجه صعوبة كبيرة في ترك هذه المكان وهذه الصريقة. حيث إنه مدان وعليه الإيفاء بديونه للبقال وبائع الفواكه وغيره من الباعة وإن كان شيئاً يسيراً.

في ليلة وهو يفكر ببيع بعض حاجياته ليتمكن من تسديد ديونه، طرق الباب. القادمون ثلاث أشخاص وهم البقال وبائع الفواكه وصاحب المقهى. استقبلهم المسكين في غرفته والخجل ظاهر على وجنتيه.

قال لهم:

– أرجو المعذرة، فإنني لا أملك ما أكرمكم به من قهوة أو أي شيء آخر.

قال البقال وهو مبتسم ويضع الأكياس الورقية التي بيده على المائدة الصغيرة:

– لا ضرر من ذلك.. فقد جلبنا لك بعض الشيء من القهوة والسكر.

إنه في حيرة من أمره، لماذا يا ترى جلبوا له كل هذا؟ حيث إعتقد للوهلة الأولى إنهم جاءوا يطالبونه بإرجاع ديونهم.. ولكن ما هذه الهدايا التي جاءوا بها؟!

قال بائع الفواكه:

– حسب ما سمعناه، فإنكم تنوون الانتقال من هنا؟

– نعم.. سوف أنتقل.

الآن قد فهم سبب مجيئهم . فمن الطبيعي أن يضطربوا ويقلقوا لانتقاله من هذا المكان دون الإيفاء بديونهم.

– نعم.. لكن من أين لكم نبأ انتقالي من هذا المكان؟!

أجابه بائع الفواكه وهو يعني ما يقول:

– نحن نسمع، ومن مصدره.

– اطمئنوا يا سادة، فلن أذهب من هنا دون الإيفاء بديونكم كاملة دون نقصان.

تفوه صاحب المقهى:

– الآن قد إرتكبت عيباً كبيراً.. فهل هناك من يطالبك بالدين؟!

البقال:

– مسألة الدين لا يستحق حتى مجرد الحديث بخصوصه.. فليس هناك مبلغ كبير يستحق الاهتمام.

بائع الفواكه:

– ما يترتب عليكم من ديون تعود إليّ فأنا أبري ذمتكم منها. أنا لن أطالبكم بشيء قطعياً ولن أقبل منكم حتى لو أرجعتم الديون إليّ.

– ولكن لماذا؟ ما خطبكم؟

– نحن نعرف قيمتك ونثمنك يا أخانا العزيز.. فأفضالك كثيرة علينا.

تحدث بصعوبة وكأن عقدة قد إستقرت في حنجرته. قال لهم:

– استغفر الله.

إذن فهم يعرفونه.. ويعرفون ما عمله من أجلهم ومن أجل الناس. فلماذا كان فاقداً للأمل، ولماذا كان متشائماً كل هذا؟. إنه كان يفكر بالإبتعاد عن عالم السياسة. لكنه كان مخطأ فليس له أن يترك هؤلاء الأوفياء!.

صاحب المقهى:

– أرجوك كثيراً.. أن تدع عنك فكرة الانتقال من هنا.

بائع الفواكه:

– نعم.. جئناك لنرجو منك ذلك.

– لكن لا بد لي من الانتقال.. فليس بمقدوري تسديد الإيجار الشهري للصريفة.

بائع الفواكه:

– نعرف إنه من الصعب عليك ذلك.. بل ونعرف كل شيء. ونحن أهل المنطقة فكرنا ملياً في الأمر وتشاورنا معاً. وقررنا جمع المال فيما بيننا وتسديد الإيجار شهرياً بدلاً عنكم. فقط ما نطلبه منكم هو البقاء هنا.

البقال:

– بقائكم هنا يكفي.. أما موضوع إيجار المكان فلا تفكر به أبداً.

امتلأت عيناه من السرور ودموع الفرح تكاد أن تنسال من عينيه. فهذه هي المرة الأولى يشاهد فيها الناس وهم يقيّمون ماضيه النضالي من أجل رفاهية الشعب.

قال لهم:

– لن اقبل بذلك فهذا كثير جداً.. فليس الإيجار لوحده المشكلة، فأنا عاطل عن العمل وليس لي ما يؤمن قوتي اليومي والارتزاق هنا أمر صعب للغاية. لذا فقد قررت السكن مع احد أصدقائي.

البقال:

– نحن أهالي هذه المنطقة نفكر بهذا الموضوع منذ أيام. فكرنا بكل شيء، حتى مسألة حصولكم على مورد شهري. مهما كانت مصاريفكم الشهرية سوف نقوم بجمعها فيما بيننا وندفع عنكم كل التزاماتكم المادية. فقط نرجوكم أن تعدلوا عن قرار ترككم لمنطقتنا. سنفتقدكم جداً، أرجوكم لا تغادروا المنطقة.

كان الثلاثة يتوسلون به بدرجة غريبة.

أمام هذا المنظر غير المألوف فهو يفقد السيطرة ويكاد أن يبكي. فرغم كل شيء ورغم أقاويل الناس فإن في المدينة تطور كبير ونهضة ملحوظة. الناس منتبهين للغاية وليسوا في سبات كما يبدو للناظرين. إذن فلم يذهب جفائه طوال تلك الأعوام أدراج الرياح ولم تكن تضحياته هباءً منثوراً. الأمر ليس كسابقه، فالناس كانت تتهرب حتى من إلقاء التحية عليه واليوم ها هم يتسارعون إليه ويلتفون حوله.

قال لهم:

– أشكركم كثيراً.. دمتم لي إخوة.. لقد أحسست إحساساً غريبا لم أحس به من قبل.. ولكنني لن استطيع القبول بعرضكم هذا.

فبدأ الحضور بالتوسل به من جديد.

البقال:

– هذا المكان لا يناسبكم.. وهو ليس بالمكان اللائق لسكناكم. ونحن على دراية بأنه ليس على مرامكم، فلنأجر لك بيتاً على مقربة من هذا المكان ذو طابقين وفيه حوض سباحة والكثير من الأمور التي تليق بمقامكم.. دعنا نأجره لكم.

صاحب المقهى:

– ما نريده هو بقائكم في المنطقة وبالقرب منا.

الأمر دفعه إلى المزيد من الدّهشة.. فإلحاح هؤلاء فيه الكثير من الغرابة.

– حسنا.. لكن لماذا تصرون على بقائي في هذه المنطقة؟

– الأمر واضح يا سيدي.. فإننا ومن في المنطقة جميعاً يرتزقون بفضل وجودكم هنا.

– استغفر الله.. فالأرزاق بيد الله.. وأنا لا أشتري منكم الشيء الكثير التي من الممكن أن تغنيكم؟!

– شرائكم ليس بالأمر المهم.. ليس همنا شرائكم من عدمه.. فأنتم جلبتم لنا وللمنطقة السعادة.. فقبل مجيئكم للمنطقة كان محلي سيتقبل ثلاثة أو أربعة زبائن فقط في اليوم الواحد.. بعد بمجيئكم انتعش المحل وأصبحنا فرحين للغاية.. انظروا إلى المحال التي فتحت مؤخراً كلها بفضل وجودكم في المنطقة.

البقال:

– كلها بفضلكم.

صاحب المقهى:

– ألطف بحالنا.. فإذا غادرتم المكان فسوف يعود الكساد والعطالة، وتغلق المحلات وسأكون أنا أول الخاسرين.

بائع الفواكه:

– إذا تركتم هذا المكان ستعود الخمول والجمود إلى الحي من جديد.. ويتشتت شمل أفراد المنطقة وسنجوع صغاراً وكباراً وسنعود أذلاء.

الرجاء والتوسل مرة أخرى.. إنهم أصحاب عوائل ولا مناص من التفكير بحالهم والشفقة عليهم. إنهم يرتزقون بفضله ويديرون أمورهم بسبب وجوده.. الحاجة إليه ماسة وهم جاهزين لأن يدفعوا له راتباً شهرياً مقابل بقائه في المكان.

قال لهم:

– دمتم أعزاء.. لكنني لم أقدم لكم خدمة كبيرة تستحق كل هذا.. فماذا فعلت لكي تقدموا لي كل هذا مقابل بقائي بالقرب منكم؟!

بائع الفواكه:

– وماذا بعد الذي قدمته لنا جميعاً؟ لن ننسى لك فضلك.. مع سكنكم في هذه الصريفة جاء إلى المنطقة أفراد من الشرطة بأشكال وألوان مختلفة. منهم من هو كناس يعمل في تنظيف الشوارع ومنهم من هو صباغ للأحذية وكل ذلك بهدف مراقبتكم وتسجيل تحركاتكم ورصد أفعالكم. ولغرض مراقبة أفراد الشرطة هؤلاء جاءت أفراد أخرى من الشرطة. فأصبحت المنطقة تشهد حركة مكثفة حتى انتعشت أعمالنا.

البقال:

– في البدء كانوا يسألون عن تحركاتكم..

بائع الفواكه:

– وكانوا دائمي الشراء من محلاتنا.. ومن ثم جاء بائع الأنتيكات والتحفيات والخفاف وبائع السكر وبائع المخللات وبائع الكعك وغيرهم..

 

صاحب المقهى:

– أنا أيضا سيدي.. قمت بإنشاء المقهى والارتزاق بفضلكم. وهم يجلسون في المقهى حتى ساعات المساء يلعبون الطاولة والورق وكل فرد فيهم يشرب ثلاثة أو أربعة أقداح من القهوة على اقل تقدير. لذا فقد أصبحت أمورنا على ما يرام.

نظر إليهم بحرقة وقال:

– أكل أولئك من أفراد الشرطة المدنية؟!

– منهم من هو من أفراد الشرطة المدنية ومنهم من هو ليس كذلك.. فإذا اجتمع شخصان فسوف يجمعون خمسون شخصا آخر. وإذا تركتم هذا المكان ستعود المنطقة إلى سابق عهدها.. وستذهب أفراد الشرطة من هنا لتتبعكم في مكان آخر.

البقال:

– وبهذا سوف تحترق كل تجارتنا..

بائع الفواكه:

– أرجوكم فكروا بالفقراء.

صاحب المقهى:

– نرجو منكم البقاء هنا لحين جمعنا لشيء من المال على الأقل وان يكون لنا رأس مال جيد.

فكر بالأمر.. فوجد انه سوف يجابه مواقف أخرى صعبة في أية منطقة ينتقل إليها.

قال لهم:

– حسناً.. لن أنتقل من هنا، لكن عليكم بإسترجاع ما جلبتموه لي.

أعطى للبقال الأكياس الورقية الأربعة التي كان قد وضعها على الطاولة.

وهم خارجون من الصريفة قال بائع الفواكه:

– هل نبلغ البشرى إلى بقية الأصدقاء في المنطقة؟

– نعم.. فلن انتقل من هنا.. ولن اطلب منكم شيئاً.

صاحب المقهى:

– رضي الله عنك..