فرّ البعثيون بعد سقوط نظام صدام حسين العام 2003، في الأصقاع، وفي ذات الوقت تفكّكت الأيديولوجية التي يعتقدون بها الى مكوناتها الفكرية في القومية والدين والمذهب، بعدما كانت تبدو فكراً خالصا قائما بذاته، ولذاته.
وشرعت بوادر التحلل الفكري الى الجذور الأصلية قبل العام 2003، حين أُخْضِعت الفكرة القومية التي كانت خالصة لدى ميشيل عفلق
الى تطبيقات سلفية، وكان من ثمارها الحملة الايمانية، ونضْج شخصية صدام حسين المتديّنة، التي كانت قبل ذلك التحول، علمانية محضة، حتى إن خطابها لم يكن يبدأ بالبسملة.
لكن البعث اشترط على أسلمة كوادره شروطا قاسية، وأنظمة لا يتعدونها وأبرزها ان “التدين” لا يتجاوز ممارسة الشعائر الدينية البحتة،
وهو “التدين البعثي”، مُثقِّفا كوادره على ايمان روحي، غير قابل للملاقحة بالعقيدة السياسية.
حتى اذا حَدَث الذي حدث في 2003، غادر اغلب البعثيين القفص الفكري والتنظيمي، وطاروا مثل عصافير هائمة بين يسار إلى أقصى يمين، وبين يمين الى اقصى يسار، واستوعبوا بسرعة شديدة واستغراق عظيم، الأفكار الإسلامية المتطرفة، فالبعثي الشيعي، تحصّن بطائفته، وانزوى بعيدا عن أفكار البعث، والبعثي السني، اعتنق الفكر السلفي، ووجد في تنظيمات مثل القاعدة وداعش وغير ذلك من الجماعات المسلحة البديل التنظيمي المناسب، والاداة المناسبة للانتقام من فقدان السلطة، فيما راح البعثي الشيعي يجد نفسه في مؤسسات الدولة “الشيعية” التي قامت على انقاض مؤسسة الحكم البعثية السنية.
وفي مثال صارخ على الواقع، التقى بعثيان – من الكادر المتقدم -، لاجئان في هولندا، فشرعا يتحدثان في انسجام عن الماضي، لكن هيهات من التفاعل الإيجابي في حاضر فرّقهما، فالأول سني، سلفي، “داعشي” مع وقف التنفيذ، والثاني، شيعي، متديّن، متحزّب، لا اثر للفكر البعثي والقومي على مواقفهما. وفي كليهما تبحث عن البعث ولن تجده غير أطلال.
وهذا الحادث الواقعي، يفسّر كيف ان حزب البعث العربي الاشتراكي وجد نفسه لاحقا، في التنظيمات المتطرفة مثل القاعدة وداعش.
اما البعثيون الشيعة، فلم يخسروا كثيرا، فقد اندمج الكثير منهم في الجيش والشرطة والأحزاب الشيعية في العراق.
وعلى هذا النحو، اصبح البعثيون السنة – وللقاعدة شواذ – هم المعارضون الأشد فتكا في التنظيمات المسلحة.
وعلى هذا السبيل من التحول، مسخت الأحداثُ الانقلابية، العلمانيةَ البعثية والفكرة القومية، و تَحلّل العقل البعثي الى مكوناته الأصلية.
لقد كان صدام منذ توليه القيادة القُطرية لحزب البعث في بغداد العام 1979، علمانياً صارماً، وبمرور الزمن، تلاشت الكثير من الصرامة، وبدت علاقته بعزة الدوري المتديّن جدا، من علامات التحول في نهجه الفكري الذي انعكس على سياساته، فكانت “الحملة الإيمانية” الشهيرة، ولو أتيح لصدام البقاء اليوم، لصار إسلاميا عنفياّ يقرن بداعش والقاعدة، لكن على طريقته.
ومن علامات اسلاموية صدام والبعث قبيل الانهيار الكبير، تحالفه مع الإخوان المسلمين في سوريا، وعلاقات سرية مع الكثير من الجماعات الدينية في ذلك الوقت.
وظهر هذا التحول بشكل واضح في استقبال الآلاف من “الجهاديين” قبيل الاجتياح الأمريكي، الذين بدأوا يستوعبون بشكل تدريجي ان صدام هو المجاهد الأكبر، فيما هو وجد ذلك من ضرورات “البطل الإسلامي”، بعدما ضاق ذرعا بثوب “البطل القومي” الذي بات ضيقا عليه.
ولقد كان ذلك دافعا لان يقترب صدام الجديد، من المتدينين السنة، فعزّز من نفوذ الوقف السني، وغض النظر على بعض نشاطات الاخوان، وانعم على رجال دين بالهدايات والعطايا، وأقام الشعائر الدينية في العلن، وأغدق بالثمار على جماعات دينية مثل النقشبندية والدروشة التي كان يرعاها عزة الدوري، في فعاليات شبه علنية.
ولم يكن هدف صدام حسين سوى سحب البساط من الأبوة السعودية للسنة، والأبوة الإيرانية للشيعة في ظل مد ديني طغى على المنطقة شيئا فشيئا.
ولعل صدام كان على حق، فلقد أدرك جبروت الوازع الديني لدى البعثيين، فسعى الى إرضاءه، ولهذا ارتدى العمامة وإنْ لم يلبسها، وجمع من حوله الجهاديين والمتطرفين الدينين، وإنْ لم ينتظموا في حزب البعث.
نحن نعيش اليوم هذه المخاضات، فجلّ القياديين في القاعدة وداعش بعثيون، وينطبق الامر حتى على سوريا أيضا، ذلك ان التطرف المذهبي طمرَ، الأيدلوجية القومية، وتحوّل القومي المتطرف، الى طائفي ومذهبي.
واذا كانت داعش والقاعدة استوعبتا الحالة العنفية لكوادر البعث، فان دول الخليج السنية وايران الشيعية، استقبلت فيهم الطموح المذهبي، والطائفي.
وفي الواقع، فليس ثمة حاجة اليوم حتى للتذكير بالبعث، فلقد انزوى الى المتاحف بعدما أنجب تنظيمات هجينة، ظاهرها إسلاموي، لكن هويتها الحقيقية هلامية، تتبدل بحسب الظروف والأحوال، ولو كان صداّم بيننا الآن، لاتّخذ من نفسه أميرا لإحداها.