منذ القرن السادس عشر لم يتوقف الحديث عن الكتاب الجدلي للسياسي والمفكر الايطالي نيقولا ميكافيلي “الامير” الذي طالما منع من النشر في بلدان عديدة أو وضع على قائمة الكتب المحرمة من قبل زعماء دينيين من مختلف الأديان، وقيل ما قيل أن زعماء وساسة كبارا قد تتلمذوا على هذا الكتاب وبعضهم لم يكن يذهب لفراشه دون أن يطلع على نصائح ميكافيلي. ترى هل نحن في هذه اللحظات التاريخية بحاجة إلى إعادة قراءة “الأمير” من جديد، أم بحاجة الى نسخة جديدة من الميكافيلية لفهم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر وبعض تجلياتها التي تشهدها المنطقة العربية.
كيف تفيدنا الميكافيلية التاريخية في فهم عودة الشعبوية وبروز قوة اللعب على العواطف والانفعالات والحشد سواء بالأكاذيب والتزييف أو بالحقائق وأنصافها؛ فلا فرق. وكيف تفسر الميكافيلية التاريخية غياب الوضوح الأخلاقي وبدايات التراجع عن تراث البشرية على تقاسم المخاطر والمشكلات الكبرى، وربما الانقلاب حتى على منظومات حقوق الانسان، وما حققته البشرية في هذا المجال، وهل تفيدنا العودة إلى نصائح ميكافيلي لأميره في النداء الجديد الذي بات يعلو في عواصم الديمقراطية بأن عصر النخب قد بات الى أفول؛ وقس على ذلك عودة مركزية فكرة القوة الصلبة في العلاقات الدولية الجديدة أكثر من أي وقت سبق.
كل ما يعرفه جيلنا عن الميكافيلية لا يزيد على عبارتين؛ الأولى “الغاية تبرر الوسيلة”، أي على الأمير أو السياسي اتباع أي وسيلة متاحة ما دامت الغاية الوصول الى السلطة والحفاظ عليها، والفكرة الثانية “السياسة لا علاقة لها بالأخلاق”؛ فلا بأس بالأخلاق ما دامت تخدمك، ولكن لا يجب التوقف عندها كثيرا إذا عارضت المصالح، في حين يجب أن يظهر الأمير دوما بمظهر الحريص على الأخلاق والفضيلة، على مدى قرون انقسمت المدارس السياسية بين هجاء الميكافيلية ومنها ما اعتبر هذه الإرشادات بأنها للطغاة والمستبدين، ومدارس أخرى قالت إن هذه الإرشادات تعبر عن واقع ممارسة السياسة الفعلي، وإن القرن العشرين الماضي أبرز أكثر تجلياتها.
لو افترضنا عودة نيقولا ميكافيلي إلى العالم المعاصر لمشهد الزعامات الجديدة التي باتت الديمقراطيات العريقة والجديدة تلقي بها الى مشهد الشعبوية وبدايات أفول النخب بمفهومها الجديد، ماذا سيقول في عصر عودة قوة الأديان والعقائد في السياسة، كيف يمكن أن يشرح لنا مشهد الشرق الاوسط الجديد وماذا عن دين السياسة وعن “عصر ما بعد الحقيقة”. يقال إن ميكافيلي بعد أن خرج من الخدمة العامة (كان يقوم بدور أشبه بوزير خارجية في فلورنسا) كان يقضي نهاره بالتجوال في الغابات بين الحطابين وفي الأسواق يتبادل الأحاديث مع المارة والقصابين والباعة يجمع الإشاعات والأخبار والأكاذيب والأمثال من أفواه الناس العاديين ويدونها في دفتر يحمله في جيبه، كان المسودّة الأولى لكتابه الأثير “الأمير” ، الدين لديه ضروري للسياسة وأداة للسيطرة ولتوحيد الشعب؛ على الأمراء استغلاله لأغراض سياسية بحتة وأداة لإدارة الناس.
ربما لو عاد نيقولا ميكافيلي إلى العالم المعاصر من جديد فإنه لن يعدّل كثيرا على نظريته، ولن يراجع إرشاداته في العمق؛ فهذا العصر الذهبي لها، وربما لن يذهب إلى فلورنسا للبحث عن أميرها؛ بل ثمة أماكن أخرى اكثر ثراء وأخرى اكثر بؤسا سترحب به أكثر.
نقلا عن الغد الأردنية