{ إن الأمة لا تخلق نفسها ، إنما ينبغي أن تبنى } – هوراس دافيز
حين تتعرض الشعوب المستعبدة لكبوة سياسية قاسية ، وعندما تواجه الأمم المستضعفة منعطف تاريخي حادّ ، لا تلبث بقايا حميتها الوطنية بالانتفاض ، وشظايا ذاكرتها التاريخية بالاستنفار ، استصراخا”لجذور اجتماعية مهملة واستدرارا”لأصول حضارية منسية ، علّها تشفع لرأب الصدوع في الذهنيات ورتق الشقوق في العلاقات . ولأن ما تتوسمه الرغبة وتتوهمه الأماني ، لا يقع ضمن إطار المتاح من الإرادة والمستدرك في الوجدان ، ولأن ما ينتج على أرض الواقع من أهوال غير ما ينسج في أروقة الخيال من آمال ، فان النتيجة المتوقعة ستفضي إلى تراكم الاغتراب بين الجماعات وتفاقم الاحتراب بين الأصوليات . وعلى خلفية مثل هذه الظروف الشاذة والأوضاع الاستثنائية ، سرعان ما تستحيل البيئة الاجتماعية إلى حاضنة حبلى بالكثير من المفاهيم السياسية ذات الصدى المهيج للإدراك الشعبي ، والعديد من المصطلحات الإيديولوجية ذات الوقع المؤثر في الوعي الجمعي ، بحيث يراد لها أن تكون بمثابة عناصر توحيد لشعث المجتمع المتفكك ، ومراكز استقطاب لولاء الجماعات المتذررة . ولأن مفاهيم (الشخصية العراقية) و(الهوية الوطنية) ، ناهيك عن بعض التراكيب اللغوية الفضفاضة الأخرى ، التي راجت خلال حقب الأنظمة الراديكالية من قبيل ؛ التوحد الوطني ، والتآخي القومي ، والترابط التاريخي ، والتثاقف الحضاري ، والتعايش الديني ، قد أثبتت عدم حضورها وقلة جدواها في أتون الصراعات التحتية والاصطفافات الفرعية والتخندقات الهامشية ، التي استفحلت عواملها وتفاقمت دوافعها ، بين ما كان يعتقد أنها سبيكة اجتماعية لا مجال لانفراط عقدها وتبعثر مكوناتها . وهو الأمر الذي دفع بالكثير من أرباب السياسة الجدد ، إلى استعادة وتبني مفهوم (الأمة العراقية) ، الذي كان قد ورد بصورة عرضية لدى البعض (انظر المؤرخ عباس العزاوي) ، من باب دغدغة مشاعر الأفراد الساخطين واليائسين ، والاستحواذ على اهتمام الجماعات المشتتة والمهمشة . وذلك لاستخدامه ؛ إما كشعار سياسي يراد له تحشيد عناصر السيكولوجيا الاجتماعية العراقية المفعمة بكل أصناف الطوباويات الخلاصية ، أو توظيفه كبرنامج حزبي يهدف لاستقطاب مختلف المكونات الاجتماعية المتنابذة ، تحت يافطة المزاعم الوطنية والذرائع الأخلاقية والادعاءات الدينية . بعد أن ثبت بالوقائع الموجعة والأحداث الدامية عقم كل المشاريع وإخفاق جميع المحاولات ، التي راهنت على استمالة تلك المكونات لنبذ خياراتها العنيفة والتخلي عن رهاناتها الاقصائية ، لاسيما تلك المتعلقة بتسوية خلافاتها المزمنة وحل مشاكلها المتراكمة ، والاحتكام ، من ثم ، لمبادئ الحوار البيني والمشاركة الموسعة ، على خلفية اعتبارات ؛ وحدة الوطن وتآصر التاريخ وترابط الجغرافيا وتواصل الهوية . وعلى ما يبدو فان الجهات / الأطراف المعنية بهذه المسألة ، استشعرت أهمية إن اللعب على أوتار مفهوم (الأمة) ، الذي غالبا”ما اختلط في الذهنية العراقية المؤدلجة بمفهوم (القومية) ، قمين بترويج مصالحها وتسويغ خطابها وتبرير مواقفها ، لاسيما وان الايديولوجيا القوموية سواء بصيغتها العروبية الملتصقة بالإسلام السياسي ، أو بصيغتها الماركسوية المحاذية للنزعة الكوزموبولوتية ، استطاعت – عبر مغامرات السياسة الراديكالية – تنميط الوعي الاجتماعي وتحنيط الذاكرة التاريخية ، تحت وطأة الهوس الأمني والنزوع التسلطي ، الذي طالما استحوذ على عقلية صانع القرار في هذا البلد . وعلى العموم – كما يقول المنظر لفكرة (الأمة) وعلاقتها (بالقومية) (ارنست غيلنر) فان ((الإيديولوجية القومية تعاني وعيا”زائفا”مقنعا”. فخرافاتها تقلب الواقع : تدعي أنها تدافع عن ثقافة شعبية بينما هي في الحقيقة تكوّن ثقافة رفيعة (= نخبوية) ؛ تدعي أنها تحمي مجتمعا”شعبيا”قديما”،بينما هي في الحقيقة تساعد على بناء مجتمع جماهيري غفل)) . وإحقاقا”للحقيقة وإنصافا”للواقع ينبغي الاعتراف ، بأنه ليس العراقيين وحدهم كانوا ضحية هذا مثل الخلط المفاهيمي والالتباس المعرفي ، بل إن الأمر يكاد أن يكون حالة مشتركة بين كل من خضع لآثار التنميط الإيديولوجي وسيق للانخراط في السجالات العقائدية ، حتى إن الأكاديمي والباحث في الشؤون القومية (هوراس دافيز) وجد إن كل من (( لينين وستالين لم يفرقا بين الأمة والقومية )) . ولكي لا نبتعد كثيرا”عن فحوى الموضوع ونتوه في خضم السجالات النظرية المجردة نقول ؛ انه إذا ما استبعدنا فكرة إن المجتمع العراقي يتكون من (قومية) معينة ، باعتبار كونه يشكل نسيجا”متنوعا”من الأقوام والأعراق والأرومات ، فهل يا ترى إن حالة كهذه تبيح لنا التعاطي مع عناصره السوسيولوجية ، وتكويناته الانثروبولوجية ، ومرجعياته الدينية ، وخلفياته التاريخية ، ورموزه المخيالية ، كما لو أنها تعكس مقومات (أمة عراقية) فعلية ؟ . ذلك لأن (( فكرة الأمة – كما يقول المفكر اللبناني (ناصيف نصّار) شيء ، وتحققها في الواقع الاجتماعي شيء آخر )) . ولأجل أن يأخذ المفهوم – أي مفهوم – بعده الواقعي ويمارس تأثيره القيمي ، ويحظى ، بعد ذلك ، بالقبول على مستوى الإدراك والتفاعل على صعيد الممارسة ، لابد أن يكون قد تمأسس في بنى الواقع الاجتماعي وترسخ في أنماط النظام الثقافي ، باعتباره معطى من معطيات الوجود الإنساني وسياق من سياقات التطور الحضاري . بمعنى إن الفكرة التي تتنطع لتبلغ مرحلة التجسّد في الواقع الاجتماعي والتبلور في الضمير الجمعي ، ملزمة بمراعاة عوامل صيرورتها السوسيولوجية ومقومات سيرورتها التاريخية وشروط ديناميتها الإيديولوجية . إذ لا يخفى إن المفهوم الذي لا يجد بيئة ملائمة تأويه وتستوعبه ، سيبقى يعاني الغربة والضياع ، كما إن الفكرة التي لا تحظى بواقع مناسب تنتمي إليه وتندغم فيه ، مرشحة لأن تستمر بالشكوى من أعراض الفصام والانخلاع . ولهذا فقد ارتأى (فردريك هرتز) إن (( مجرد الإرادة لا تصنع الأمة وحدها . فلا يمكن تأسيس أمة مثل شركة أو ناد . أنها مجتمع اتحدت مصائره وجمعته إلى حدّ كبير ، وصاغته الأحداث التاريخية والعوامل الطبيعية ، وفرصة الفرد عمليا”في اختيار جنسيته أو تغيير سماتها الأساسية ضئيلة جدا”)) . ولغرض معرفة حظوظ النجاح التي تنشدها تلك الجماعات المسيسة ، بخصوص تبيئة مفهوم (الأمة العراقية) ضمن واقع المجتمع العراقي المتشظي أفقيا”وعموديا”، حري بنا الوقوف على شروط تكوّن الأمم وتبلور خصائصها المعيارية ، من خلال الرجوع إلى المصادر المعنية بهذا الحقل من القضايا الإشكالية ، حيث سنجد انه بالرغم من اختلاف الفكريات وتباين التصورات وتغاير المنطلقات ، إلاّ إن الإجماع على معطيات وحدة الوعي الجمعي ، وتماسك الإرادة المشتركة ، وتطابق الولاء الوطني ، كان شبه مطلق . ولعل استعراض مبتسر لأبرز من تناول هذه القضية بالتحليل والتأويل ، سواء أكان بالمنظور البيولوجي / العنصري كما عند الألماني (فردريك شليجل) الذي اعتقد (( إن فكرة الأمة تعني إن جميع أعضائها سيكونون فردا”واحدا”لا غير ، ومن أجل أن يتحقق ذلك لابد وأن يتحدروا من أصل واحد )) ، أو كان بالمنظور التاريخي / الرمزي كما عبر عن ذلك الفرنسي (ارنست رينان) حين صرح بالقول (( إن الجنس والدين واللغة والدولة والمدينة والمصالح الاقتصادية ، ليست هي ما يصنع الأمة . إن الفكرة القومية تقوم على ماض مجيد ورجال عظماء ومجد حقيقي . والتجارب المشتركة تؤدي إلى تكوين الإرادة المشتركة ، أكثر من أي شيء آخر هي التي تربط الأمة بعضها ببعض ، أكثر حتى من الانتصارات . ومن ثم فان الأمة تضامن كبير يقوم على الوعي بالتضحيات التي بذلت في الماضي وعلى الاستعداد لبذل تضحيات جديدة في المستقبل )) ، أو كان بالمنظور السياسي / الاجتماعي كما يمكن رصده لدى الفرنسي (مارسيل موس) الذي كتب يقول (( عندما نذكر كلمة الأمة فإننا نعني مجتمعا”متكاملا”من الناحية المادية والأخلاقية ، له سلطة مركزية مستقرة ودائمة . مجتمع له حدود ثابتة وسكانه يتحدون إلى حد كبير حول أخلاقيات ومشاعر وقيم عقلية تسند الدولة وتحمي قوانينها )) ، أو كان بالمنظور الأخلاقي / الديني كما ورد لدى الإيطالي (جوزيف ماتزيني) الذي أوضح إن (( الأمة الحقّة لابد أن يكون لها هدف أخلاقي ورسالتها الواضحة التي تؤديها للإنسانية ونصيبها في تحقيق الفكرة الإلهية في هذه الأرض ، والجماعة التي تجمعها المصالح المادية وحدها لا تسمى أمة ، وتكوين أمة يستلزم أن يكون الهدف أخلاقيا”، لأن المصالح المادية لا تكفي لتكوين رابطة دائمة ، والوطن ليس قطعة الأرض ، وإنما رفعة الأرض هي قاعدته )) . أو كان بالمنظور الجغرافي / الإقليمي كما صاغه الألماني (فردريك هرتز) الذي اعتبر إن (( تماسك المجتمع وشخصيته اللذان تنطوي عليهما فكرة الأمة يفترضان مسبقا”هذا الارتباط بالإقليم . فالشعب المشتت في عدة بلاد وليست له جذور في التربة ، سرعان ما يفقد شخصيته كقاعدة عامة ، فسيقل عدده ويفقد قوميته ويختفي في النهاية )) . أو كان بالمنظور النفسي / الوجداني كما قدمه الكندي (ح . ت. ديلوس) الذي عرف الأمة باعتبارها (( تجمع من المشاعر والمثل والقيم الروحية ، يضمها إلى بعضها البعض تصور عام للحياة المدركة والتي لم تدرك بعد )) . أو كان بالمنظور اللغوي / اللساني كما شدد عليه العربي (ساطع الحصري) الذي عدّ اللغة بمثابة (( روح الأمة وحياتها ، أنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري ، وهي من أهم مقوماتها ومشخصاتها )) ، مضيفا”إن (( الأمم يتميز بعضها من بعض – في الدرجة الأولى بلغتها ، وان حياة الأمم تقوم – قبل كل شيء – على لغتها )) . نقول إن الاستئناس بهذه الشذرات المجتزأة من كبار المفكرين والباحثين ، كفيل بحملنا على إعادة تقييم ليس فقط مضمون مفهوم (الأمة العراقية) ، الذي يفتقر إلى مقومات التحديد النظري والتأطير المنهجي فحسب ، وإنما الإقلاع عن الاعتقاد الوهمي بوجوده الواقعي وجاهزيته الوظيفية أيضا”. ذلك لأن حقيقة المجتمع العراقي – إذا ما توخينا الموضوعية وتخلينا عن النرجسية وتجنبنا الخطابية – لا يعكس أي نمط من أنماط الانسجام ؛ لا في بنيته الفوقية (السياسة والثقافة والدين والوعي والمخيال) ، ولا في تجانس بنيته التحتية ( الاجتماع والتاريخ والجغرافيا والشخصية والهوية) . وهو ما يسقط عنه امتياز تمتعه بمواصفات (الأمة) المزعومة ، التي يروم البعض إلصاقها به وادعائها إليه وزعمها فيه ، خلافا”لكل ما يمت للوقائع التاريخية والممارسات السياسية والتجارب الاجتماعية بصلة . وعليه فالفكرة الحديثة عن الأمة – كما يجادل (فردريك هرتز) – تنطوي على واجب التضامن غير المحدود والولاء دون شرط فوق كل مصلحة شخصية أو قطاعية )). هذا في حين اعتبر (ارنست غيلنر) إن (( الأمم تصنع الإنسان ؛ فالأمم أدوات لمعتقدات الناس وولاءاتهم وضماناتهم . إن مجرد فئة من الأشخاص (لنقل سكان إقليم معين ، أو المتكلمين بلغة معينة ، على سبيل المثال) تصبح أمة إذا ما اعترف وعندما يعترف أعضاء الفئة بثبات بحقوق مشتركة وواجبات معينة إزاء بعضهم البعض ، بمقتضى كون عضويتهم فيها . انه اعترافهم ، بعضهم بالبعض الآخر ، باعتبارهم رفقة من هذا النوع الذي يحولهم إلى أمة ، وليس الصفات الأخرى التي يتشاطرونها ، مهما كان نوعها ، والتي تفصل تلك الفئة عن غير الأعضاء )) . ومتى ما بلغ العراقيين بكل أصولهم الأقوامية ، وانتماءاتهم القبائلية ، وخلفياتهم الطوائفية ، وأروماتهم اللغوية ، وانحداراتهم المناطقية ، إدراك هذه الحقائق البسيطة ولكن الجوهرية ، وفهم تلك الخصائص الواضحة ولكن العميقة ، واستيعاب هذه الشروط السهلة ولكن الأساسية ، حين ذاك – وحين ذاك فقط – يمكن أن يقال أنهم شرعوا بالاتجاه الصحيح ولكنه المضني ، واستأنفوا البناء السليم ولكنه الصعب ، وانتهجوا الطريق المستقيم ولكنه الوعر . لكي يصبحوا (أمة) مثلما للآخرين أمم يدافعون عنها ويعتزون بها وينتمون إليها .
[email protected]