23 ديسمبر، 2024 11:23 ص

الأكراد وخيار الذهاب إلى الحرب

الأكراد وخيار الذهاب إلى الحرب

ليس من المعقول كيل الاتهامات للجانب الكردي دون التطرق لمساوئ  الحكومة الاتحادية وأزماتها المفتعلة وغير المفتعلة ولكن التمعن بمثل هذا الأمر يفرض ضرورة تفحص تحركات كل طرف ودراسة نواياه. تحركات الأحزاب الكردية ذاهبة لخيار مدروس بدقة وذكاء ويوازن حركته بما عليه وضع العراق السياسي واشتراطات الوضع الإقليمي والدولي، فعمليات التصعيد من الجانب الكردي تبدو في أبعادها مسعى جدي للذهاب نحو خيار تصعيد الأزمة ودفع الطرف الأخر نحو خيار الحرب. الجانب الكردي بشقيه  الحزبيين الاتحاد والوطني يدرسان واقع العراق والمنطقة ويتحركان ومعهما باقي الأحزاب الكردية الصغيرة للدفع نحو خيار الانفصال عن العراق.
ظهور النفط في مناطق كردستان شكل عامل مهم وفعال في بلورة تفكير  جديد وجدي داخل ذهنية الأحزاب الكردية وأعطى لفكرة الانفصال عن الدولة العراقية دافعا قويا وركيزة اقتصادية فاعلة. ومع تطور التقنيات ماعادت الجغرافية المغلقة للإقليم تقف حاجز في وجه كيان مستقل، فالموارد الطبيعية ومنها النفط  باتت في تصاعد يومي وتدر مع المنافذ الحدودية للإقليم موارد مالية تجعل الإقليم في موضع يمكنه الاستغناء عن العلاقة مع وسط وجنوب العراق، فتعداد سكانه الصغير ومساحته وحدوده الجغرافية وانفتاحه على جارين كبيرين إيران وتركيا يوفر له منافذ للعالم الخارجي وبالذات عبر تركيا وسوف يساعد على بناء كيان دولة مستقلة تعتمد على مواردها الذاتية وبات الكرد مع كل هذا يشعرون إن لم يبق أمام انسلاخهم عن الدولة العراقية وتكوين دولة كردستان الجنوبية غير عاملين عليهم أن يبذلوا قصارى الجهود  لتذليلهما وطمرهما.  صحيح أن العاملين وفي جميع الأحوال يعدان  مهمين وما زالا يبدوان بأنهما قادران على تهديد وتحجيم المطالب الكردية، ولكن بمرور الزمن ومنذ حرب الخليج الأولى أضحى للكرد وبمساعدة الحلفاء من الإقليم وبالذات إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر مبارك وكذلك أمريكا أصحاب قدرة على التلاعب والتأثير بالوقائع والأحداث ويمكن لمثل تلك القوة التي نمت بشكل تصاعدي تهشيم هاذين العاملين ودفعهما بعيدا وجعلهما ليس بالكفاءة  والقوة للوقوف بوجه مشروع الانفصال.
أولى تلك العوامل هي اعتراض أو ممانعة الدول الإقليمية في موضوعة تشكيل دولة كردية محاذية لها مع وجود أقاليم فيها غالبية كردية في تلك البلدان، وتأتي تلك الممانعة من الحذر والخوف أن تحتذي تلك الأقاليم مستقبلا بمشروع جمهورية كردستان الجنوبية  بعد أن تنال الاستقلال، أما العامل الأخر فيتمثل بوجود المناطق المتنازع عليها في محافظات العراق والرغبة الكردية بالتوسع لضمها زيادة في الرقعة الجغرافية والعدد السكاني والأهم الحصول على مواردها الطبيعية .
يتعلق استقلال كردستان عن العراق بفحوى تلك النقطتين ولكن في حقيقة الأمر فإن المناطق المتنازع عليها في المحافظات العراقية تشكل الركيزة الأولى لتفتيت الممانعة الإقليمية و سوف تكون عند نهاية الحرب نقطة الشروع للمساومة وتذليل الموانع حول تشكيل دولة كردستان الجنوبية.
في جانب الحكومة الاتحادية فأن موضوعة المناطق المتنازع عليها تظهر دائما لديها وحتى لدى خصومها من الأطراف العربية مسألة حساسة لا يمكن التفريط بها وإعطائها لقمة سائغة للكرد كونها مناطق عراقية  صيرتها قوى الاحتلال وظروف البلد وعجالة وارتباك الوضع السياسي مناطق متنازع عليها، وقد جهد الكثير من السياسيين العرب العراقيين شيعة كانوا أم سنة علمانيين أم دينيين على الوقوف مليا أمام تجاوزات الإدارة الكردية واعتبار سيطرتها الحالية على تلك المناطق تجاوزا لخطوط حمراء لم يحن الوقت حتى للنقاش حولها ومع هذا فإن هناك بعض التذبذب والانتهازية الظاهرة لدى الكثير من هؤلاء.
لو تفحصنا جيدا علاقة الإقليم بالدولة العراقية لوجدنا العلاقة تمثل روابط دولتان  جارتان تتنازعان على الأرض والثروات وتلك مع فيض الوقائع هي الحقيقة بعينها وكل من ينكرها فهو كذاب أشر، ولو تمعنا هذا المشهد بالكامل فسوف نجد إن للإقليم أفضلية ظاهرة وسطوة تجعله يتخطى حدود دولته ليكون مؤثرا وراعيا وحصان السبق في حكومة الدولة المجاورة وهي حكومة المركز مما يجعله يملك قوة أضافية ليفرض على شركاءه في المركز دون الإقليم رغباته وشروطه ويدفع من يخالفه أو يعترض على مسار تلك العلاقة، نحو مواقع رد البلاء باستعاذة أو الدفاع في الكثير من المواقف والمواجهات.
تأتلف جميع الأحزاب الكردية دون استثناء وتقف صفا متراصا بوجه الحكومة الاتحادية من أجل هذا هدف الاستقلال وفي الوقت ذاته تسعى دائما ليس فقط لإذلال الحكومة المركزية وأهانتها وإنما وضع العقبات وخلق الأزمات لها والأهم في ذلك تصعيد المواقف في المناطق المتنازع عليها وهو السلوك اليومي  لغرض الاستفزاز ودفع الحكومة الاتحادية لاتخاذ خطوات تصعيديه من جانبها وسوف يستمر هذا الحال لحين الوصول إلى نقطة اللا عودة حيث ينتظر الأكراد بفارغ الصبر انطلاق شرارة الحرب.
ماذا تعني الحرب للأكراد
أذا كان  رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي يريد  من صراعه مع الإقليم الكردي بناء قاعدة جماهيرية عريضة تضمن له وحزبه الحصول على قدر عال من أصوات الناخبين وإعادة انتخابه للمرة الثالثة فقد تكللت جهوده بشيء ليس بالقليل من النجاح، فالتفكير القومي العروبي والرغبة الباحثة عن الشخصية القوية وأيضا الحنين للسلطة المركزية  والتطرف القومي والطائفي كل تلك النزعات ما فتأت لها وقعها الحيوي وتمتلك حظوظا بالغة القوة في الشارع العراقي، والسيد المالكي قادر على تحريك مشاعر جماهير غفيرة  وحشدها بالضد من خصومه وبالذات الأكراد منهم من خلال إثارة النزعة العدوانية ضدهم جراء مطالبهم لضم المناطق المتنازع عليها ومحاولاتهم تمزيق جغرافية العراق والرجل ذاهب للتصعيد لحين أجراء انتخابات مجالس المحافظات ومن ثم الانتخابات البرلمانية وفي هذه  المواجهات لا يضع في حساباته النتائج المدمرة لمغامرة الحرب بقدر ما يبحث عن إرهاب خصومه واستفزازهم ويعد الموضوعة في أقصى احتمالاتها عض أصابع للحصول على مغانم شخصية وحزبية، وهذا الاعتقاد لم يأت من حسن نية مفرطة للسيد المالكي بقدر ما هو استقراء خاطئ للوضع على الأرض والوضع الإقليمي ومثله الوضع الداخلي فإن استطاع كسب ود وتأييد عشائر عربية تقطن المناطق المتنازع عليها وأصبحت له أيضا مواطئ  قدم في مدن الموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين والرمادي فإن ذلك لن يمنحه الآمان الكامل مع هذه الأطراف وهي القلقة والطامحة والمتوجسة والمتذبذبة سياسيا ونفسيا وطائفيا.  أيضا فالوضع الإقليمي  والدولي وكذلك  التنافس الداخلي بين الكتل والقوى السياسية العربية الشركاء منهم والأعداء وكذلك الوقائع على الأرض والتي يشير جميعها لرجاحة كفة القوات الكردية في حالة اندلاع الحرب تعني إن الخاسر الأعظم فيها العراق العربي وليس غيره  دما كانت الخسارة أم أرضا.
الأحزاب الكردية ترغب بخيار الحرب وهي ذاهبة للتصعيد اليومي وبشكل يجعل خصومها مستفزين ومتوترين  وهي ساعية لدفعهم لإطلاق الشرارة الأولى، عندها سوف يكون الحساب فوق أرض المعركة غير حساب الوفود المفاوضة ودعوات السلام وحقن الدماء والشراكة الوطنية والاحتكام للدستور وقواعد تقاسم غنائم ما بعد سقوط صدام، فالرغبة الكردية بالحرب مبنية على وقائع ومسلمات وخرائط ومناهج وأهداف وحدود مرسومة ترجح نجاح مساعيها لكسب المعركة على الأرض وحصولها على أهدافها ومن ثم فرض شروطها على الطرف الأخر وكذلك على البلدان المجاورة.
جميع المؤشرات العسكرية ترجح كفة الأكراد فهم يسيطرون ومنذ الأيام الأولى لسقوط سلطة صدام على جميع المناطق المتنازع عليها ولذا فالمعركة ستكون خارج حدود الإقليم الحقيقية، والسلاح الموجود لديهم يعادل أضعاف السلاح الموجود لدى الحكومة المركزية إن كان في المعدات الثقيلة دبابات ومدفعية وراجمات وصواريخ  أو حتى سلاح الجو ومثله تسليح  وتجهيز الأفراد، وجاء كل ذلك عبر الاستيلاء على مخازن سلاح ومعدات الجيش العراقي السابق الذي تركها وهرب إثر سقوط سلطة صدام حسين وكانت قد نقلت نحو كردستان من جميع أجزاء العراق في زمن الفوضى دون اعتراض من أحد ،أيضا تم تسليح البيش مركه من خلال عقود سرية وعلنية بموجبها تم تجهيزه بالكثير من المعدات الحديثة التي تؤهله للتفوق على الجيش العراقي وإنهاء أي معركة  مستقبلا لصالحه بالسياقات  العسكرية المحضة، فالأرض التي يحارب فيها ذات طبيعة تخدم البش مركة، وبعض المناطق كانت وتبقى حواضنه الفعلية يضاف لذلك إن البيش مركة وزعماء الأحزاب الكردية عدا وقوف بلدان الإقليم معهم فهناك قطاعات واسعة من الشعب الكردي تقف ورائهم ولديها الاستعداد  لتقديم  العون المعنوي والمادي كون الجميع وحسب الإدعاء يمتلكون قضية مصيرية يحاربون من أجلها والجميع يدافع عن أرضه وقوميته ضد أعداء تاريخيين كانوا ومازالوا يريدون القضاء على القومية الكردية وهي الدعامة الإعلامية التي كانت وسوف تستمر لتكون في مقدمة شعارات التحريض قبل وإثناء الحرب.
 أما في الجهة المقابلة وفي أرض المعركة فإن عساكر الحكومة الاتحادية سوف يأتون لأرض المعركة وفي جعبتهم الكثير من الحسابات الخاسرة، فالجيش الاتحادي مخترق من قبل البعثيين قادة وعساكر والبعض من قياداته إن لم تكن من القومية الكردية فلها ارتباطات شخصية ومادية بالجانب الكردي وفوق كل ذلك بعض قادته نالوا الرتب العالية دون استحقاق مهني ولا يحملون من الشهادات العسكرية أو الدراسية ما يؤهلهم لقيادة فصيل من العساكر. أما أفراد الجيش فهم متعبون لكثرة مداورة ومناورة القطعات ومستفزون لكثرة مشاركتهم  في عمليات مراقبة وبحث  وصراع مع قوى الإرهاب يضاف لذلك إن جلهم جاء متطوعا طمعا بالراتب الضخم ورغبة بالدفاع عن طائفته أو لارتباطه الشخصي بالقائد وجلهم نتاج حروب النظام السابق بشكل أو أخر ولحد الآن لم يكتمل تدريبهم ولم يشاركوا في مناورات عسكرية حقيقية وإنما فقط شاركوا باستعراضات وتدريبات غير منهجية وفوق كل هذا وذاك لا أعتقد إن لديهم الدافع لخوض مثل تلك المعركة أن حدثت وسوف يجد القادة جنودهم مربكين ومبعثرين وغير راغبين بتنفيذ الأوامر وربما تسجل أعلى نسبة هروب في جيوش العالم مع أول التحام حقيقي بالسلاح الثقيل وليس الخفيف، يضاف إلى هشاشة الجبهة الداخلية بتنوع اختلافاتها وصراعاتها التي سوف يجد السيد المالكي نفسه يتجرع الزقوم تلو الزقوم في ما تقدمه له من زاد مغموس بالسم كونها ومنذ الآن تقوم بتوجيه النصال نحو ظهره المكشوف وأول تلك السهام سوف يأتي من حلفاءه في الائتلاف الوطني وحتى من دولة القانون.
انتهاء المعركة بتفاصيلها الدموية سوف يصحو العالم معها ليجد إن الأكراد قد سيطروا على رقعة جغرافية كبيرة من ارض العراق تتعدى في حدودها المناطق المتنازع عليها عند تلك اللحظة تتصاعد النداءات والتدخلات لوقف الحرب وبدأ المفاوضات وهذا ما يرغب به الأكراد ويمهدون له بعد تحقيق الهدف بالانتصار.
كسب الحرب والحصول على أراضي عراقية غير تلك المتنازع عليها يعني الخطوة الرئيسية لإعلان دولة كردستان الجنوبية. فنهاية الحرب بين إقليم  كردستان والجمهورية العراقية تعني بالدقة السياسية والمعنوية والجغرافية والإنسانية إن لا عودة لما كانت عليه الروابط بينهما ولا يمكن أن يجمعهما بعد تلك الجريمة جامع وسوف تحل العداوات بدل ذلك التأريخ الطويل من وشائج الأخوة والتصاهر والعيش المشترك.
مؤتمرات ولقاءات التفاوض سوف تكون على وضع الأراضي التي أستقطعها الكرد من العراق وليس على جغرافية الأراضي التي ضمها الأكراد وسبق أن كانت قبل الحرب تسمى مستقطعة أو متنازع عليها، والمفاوضات هذه ستكون برعاية دولية وإقليمية وتمتاز بالعسر والطول والاستعصاء يخسر بها الجانب العراقي الكثير الكثير  يوما بعد أخر.
أذن فنهاية الحرب وحصول الأكراد على الأراضي المتنازع عليها وانسلاخهم عن العراق ووضعهم الجديد بكافة موازينه وتجلياته سيكون العامل المهم لإجبار دول الإقليم على الاعتراف بوجود دولة كردستان الجنوبية وفي مثل ذلك الوضع لن يكون أمام العالم غير خيار الاعتراف بواقع الحال ومحاولة لملمة نتائج الحرب دون الإضرار بالمنطقة والعالم والمهم بعد السيطرة على التداعيات تأمين المصالح الدولية والإقليمية إن كانت سياسية أم اقتصادية.