التنوع العرقي والديني والمذهبي في العراق هو جزء من الفسيفساء التي تميزت بها بلاد وادي الرافدين منذ مئات السنين، وربما هذا التنوع من أسرار ارتباط العقول والقلوب ببلاد ما بين النهرين، بلاد التعايش والتلاحم الإنساني دون النظر للأديان أو القوميات أو الكثافة السكانية.
في العراق تتفاوت النسب السكانية لمكونات المجتمع المتنوعة، فهنالك مكونات كبيرة – وهم في الغالب من العرب والكرد المسلمين- وهنالك مكونات يطلق عليهم مصطلح “الأقليات”- ومنهم التركمان والكلدانيون والآشوريون واليزيدية والصابئة المندائية وغيرهم- ونحن لا نحبذ استخدام مصطلح “الأقليات” لأنهم في الواقع ليسوا “أقلية”، بل نحن “أقلية” بدونهم، وهم أكثرية بنا، ولا نريد الخوض في هذا التمايز العددي لأننا تعايشنا مع كافة هذه المكونات بحب وسلام ووئام وكرم وتسامح وصدق وطيبة منذ مئات السنين دون النظر لأعدادهم.
ونحن هنا لن نتحدث عن الموقف من العملية السياسية، أو السياسات التي ناصرت طائفة ضد أخرى، أو بعض المواقف “غير البريئة” التي اتخذها طرف ما خلال مراحل الفتن المتعددة في العراق، بل نتحدث عن مجمل الحالة الإنسانية الاجتماعية العراقية التي كانت – وما تزال، ولو بدرجات اقل بعض الشيء- حالة مثالية مليئة بالتعايش والتلاحم ونبل العلاقات الإنسانية.
الحديث عن حقوق التركمان على سبيل المثال- وهم القومية الثالثة في العراق، ويزيد تعدادهم على المليونين ونصف المليون مواطن، وينتشرون في مناطق كركوك وتلعفر وديالى وصلاح الدين وقرب بغداد ونينوى- دفع الجبهة التركمانية لعقد مؤتمرها في بغداد للفترة من 16-17 أيار 2017.
رئيس الجبهة التركمانية، أرشد الصالحي سبق وأن أكد أن “التركمان فُهِموا بالخطأ على أنهم ورثة العثمانيين. التركمان موجودون في العراق منذ آلاف السنين، ووجدوا قبل العثمانيين، والتاريخ يشهد على ذلك”.
وهنالك من يقول – ومنهم قحطان عبوش التلعفري، في كتابه (ثورة تلعفر)، ص:60: ” إن قسماً من أهالي تلعفر هم من أصول تركمانية، والقسم الباقي هم من أصول عربية. وجميع أهالي تلعفر يتكلمون اللغة التركية ومنذ زمن بعيد”.
ويذكر بعض المؤرخين التركمان أن “الذاكرة التركمانية تحتفظ باعتزاز خاص لدورها في مقاومة الاحتلال البريطاني للعراق، إذ كانت انطلاقة الشرارة الأولى لثورة (1920م) من تلعفر، ثم انتشرت لسائر المدن العراقية”.
وحسب بيان الجبهة التركمانية فقد ناقش المؤتمرون ببغداد “مستقبل التركمان السياسي ضمن العراق الموحد، والحفاظ على تطلعات التركمان، وحماية هويتهم القومية من الضياع، وضرورة إيجاد الحلول لمشاكلهم، ومنها قضية كركوك، وتلعفر، وطوز خورماتو، ومعالجة قضية المهجرين، واعمار المناطق التركمانية المهدمة”.
حقوق التركمان والمسيحيين وغيرهم من العراقيين ينبغي أن تُمنح لهم بطيب نفس، وبلا مِنّة من أحد، بل تُمنح بفخر واحترام وتقدير لأننا نتحدث عن مكونات ساهمت – وما تزال- في بناء حضارة العراق، وهم يفتخرون بوطنيتهم ولم يتنازلوا عن عراقيتهم رغم كل المؤامرات التي حِيكَت ضدهم، وكل هذه المواقف تؤكد أصالتهم ومعدنهم النقي، وأنهم أكثرية – وليسوا أقلية- بتمسكهم بتربة العراق.
حقوق كافة الأقليات في العراق واجب لا يمكن تجاهله، وهو من الواجبات الوطنية والإنسانية لشريحة مهمة وحيوية من العراقيين ذلك لأننا نتحدث عن مواطنين عانوا مثلما عانى غالبية العراقيين، ولهم مكانة مميزة في ذاكرة الوطن، ولا يحق لأي حكومة التغاضي عن حقوقهم، أو استخدامهم كورقة ضغط سياسي، وهم لبنة مهمة من لبنات بناء الدولة العراقية، وجزء حَيَوِيّ وجَوْهَرِيّ في تاريخها، وهضم حقوقهم نكران لتاريخهم الناصع في عراق الحضارات.
الضمانة الأكيدة لحقوق كافة العراقيين – سواء أكانوا أكثرية، أم أقلية- هو بالاصطفاف مع الوطن، والسعي لتحقيق دولة المواطنة، والابتعاد عن الاصطفافات الدموية والإرهابية والتخندقات الضيقة التي لا تخدم البلد الجريح لكونها سياسات تقسيمية ضاربة للتعايش المجتمعي.
الأقليات دُرر العراق وكُنوزه، ومكانتهم لا تُنكر في لوحة العراق الجامع الذي نتمنى أن يعود كما كان عراقاً لجميع المكونات بغض النظر عن دينهم أو قوميتهم، أو نسبتهم.