23 ديسمبر، 2024 1:41 ص

الأقلمة والتقسيم الناعم للعراق

الأقلمة والتقسيم الناعم للعراق

الاتفاق الأخير بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان هو في محصلته تنازلات قدمتها الحكومة الاتحادية لحكومة الاقليم من أجل حلحلة المشاكل العالقة بينهما. تنازلات ترقى الى المخالفات الدستورية على مستوى إستخراج وتسويق النفط وعلى مستوى رواتب البيشمركة، لكن هذه التنازلات التي أرادت حكومة العبادي ان تجعل منها قربانا لتصفير تلك المشكلات لم تلق تجاوبا بما يناسبها من خطوات لدى قادة الاقليم. حيث إستمر مسعود البارزاني رئيس الاقليم وأكثر القادة تأثيرا في الشارع الكردي بتصريحاته “النارية” حول الانفصال عبر الاستمرار في ترتيبات الاستفتاء المعروف النتيجة مسبقا، كما ان الاحتجاج الفض على توصيف كركوك باعتبارها محافظة عراقية، والذي جاء في سياق كلمة رئيس البرلمان سليم جبوري في مجلس المحافظة من قبل أعضاء المجلس الكرد وإصرارهم على ان المحافظة “كردستانية”، ومن ثم إنسحابهم من الجلسة، يؤكد ما يبيت له قادة الاقليم من فرض سياسة الأمر الواقع على المحافظة وعلى جميع المناطق “المتنازع عليها” المحررة من سيطرة قوات داعش، ما يذكر بتصريحات رئيس حكومة الاقليم نيجرفان البرزاني المتزامنة مع إجتياح تنظيم داعش لمحافظة نينوى والتي قال فيها ان واقع ما قبل العاشر من حزيران في العراق هو غير الواقع ما بعد هذا التاريخ.

وبعيدا عن مدى دستورية الاستفتاء أو دستورية تطبيق المادة 140 فيما يتعلق بكركوك، فان التمادي الكردي في تحدي الحكومة الاتحادية والتخبط في إتخاذ القرارات البعيدة عن التساوق مع المركز ستكون له عواقب وخيمة على الطرفين في المدى البعيد، ولعله من المناسب تذكير الاخوة الكرد بردة الفعل إبان الهجوم التركي على الاقليم أو في بداية الهجمة الداعشية على الاراضي العراقية وبضمنها أراضي الاقليم، ومطالبة قادته للحكومة الاتحادية بان تضطلع بدورها في الدفاع عن كامل الاراضي العراقية، كما من المناسب أيضا تذكير الاخوة الكرد بعدم الركون الى الحليف الامريكي الذي يتخلى عن أقرب حلفائه في أول تقاطع مع مصالحه، وهم أدرى من غيرهم بهذا الأمر نتيجة تجاربهم الطويلة مع القيادات الامريكية المتعاقبة التي طالما قدمتهم قربانا لاتفاقاتها السياسية ومصالحها الاقتصادية في المنطقة.

الاكثر أهمية بهذا الشأن، هو ان الاتفاق الأخير وما صاحبه من تماد كردي على المركز، فتح مجددا شهية فرسان النزعة الانفصالية المغلفة بمصطلحات الاقاليم والفيدرالية، لاسيما في محافظات البصرة والانبار وصلاح الدين. ففي البصرة، إتخذ هؤلاء من الاتفاق ذريعة لاعادة

مطالبتهم باقامة إقليم البصرة، فيما تحج وفود من المتاجرين باقليم الأنبار الى واشنطن والرياض والدوحة وأنقرة وطهران، في زيارات مكوكية تبشيرية، من أجل الحصول على مباركة هذه العواصم لاقامة إقليم الأنبار، وكذا الأمر في صلاح الدين التي يبدو ان المتاجرين باقليمها أكثر حرصا على سرية تحركاتهم.

بالأمس، إستمعت الى أحد فرسان الأقلمة، وهو محافظ وبرلماني سابق، يصرح من على إحدى القنوات الفضائية حول المظلومية التي وقعت على البصريين نتيجة إهمال المركز لمطالبهم، مستشهدا بتعثر المشاريع الاستثمارية في المحافظة نتيجة تلكأ الحكومة الاتحادية في منح موافقاتها على تلك المشاريع التي تقدم بها مستثمرون كويتيون، توجهوا الى إقليم كردستان بعد معاناتهم من مماطلة بغداد حول استثماراتهم في البصرة. ووسط صمت مقصود أو إهمال من المكتب الاعلامي للحكومة، المعني بتفنيد مثل هذه الطروحات، وددت لو ان مقدم البرنامج طرح على ضيفه أسئلة حول عقد تنظيف المدينة مع شركة كويتية بمبلغ 200 مليون دولار، وهل رفعت هذه الشركة كيسا واحدا من نفايات المدينة رغم إستلامها كامل مبلغ العقد ومنذ فترة طويلة؟. وودت لو انه سأل ضيفه عن النفط المهرب من آبار البصرة منذ عام 2003 لمصلحة مافيات تابعة لاحزاب سياسية مسيطرة على المحافظة، وودت أيضا لو سأله عن الميزانيات الفلكية التي إستلمتها المحافظة من المركز خلال السنوات الماضية، أين أنفقت..؟ وماهو حجم الاعمار والتنمية البشرية والاقتصادية الفعلية في المحافظة على مدى هذه السنوات..؟.

ينطلق بعض الداعين الى الاقلمة والفدرلة من مصالحهم الشخصية، وهم قلائل، فيما ينطلق السواد الاعظم منهم من منطلق تنفيذ أجندات إقليمية ودولية تهدف لتقسيم العراق تقسيما ناعما تحت هذه الدعاوى التي تبدو في شكلها دستورية، مع تحفظي على الدستور النافذ، وفي جوهرها نسفا وخرقا لذات الدستور. وقد يبدو الاتفاق الهش بين المركز والاقليم، بقصد أو بدونه، بداية لتطبيق هذا التقسيم الناعم.