23 ديسمبر، 2024 1:50 ص

الأغتراب النفسي بين الناخب والمرشح في الانتخابات البرلمانية العراقية 

الأغتراب النفسي بين الناخب والمرشح في الانتخابات البرلمانية العراقية 

من المعروف أن ارث النظم الفردية و الدكتاتورية الى جانب تجربة خمسة عشر عاما ما بعد 2003 سيئة جدا ولا يمكن الاستهانة بها أو دفع بلائها وإحلال بدائل القيم الديمقراطية وثقافة الانتخاب في مكانها دفعة واحدة, وضمن ثقافة الهيمنة السابقة والإقصاء والتهميش والعبادة الفردية والعقلية القبلية والولاء الهش لدولة الحزب الواحد أو الفرد أو للطائفة أو القومية, حيث تتحول هذه المكنونات القيمية إلى خزين في اللاوعي يتحكم في الكثير من سلوكيات الحاضر, ويتحول إلى موضوعات استثارة مستديمة وخاصة بعد عمليات التغير الجذري صوب صناديق الاقتراع لتقرير مستقبل الشعب واتجاهات تطوره, قد لا يعلم بها الناخب نفسه في أحيان كثيرة, وتتحول بفعل ذلك لحظات التصويت إلى حالات من غيبوبة العقل لا تتأثر بأحداث الحاضر وأزمته في البحث عن بدائل تضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وتفتح الأبواب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة, بل قد تندفع جماهير غفيرة تحت وطأة تأثير تجيشها بالخطابات الانفعالية القوية التي تسرق عقولها قبل عواطفها فتتركها فريسة للانفعالات, كما اعتادت عليها النظم الدكتاتورية والفردية بثقافتها وأغانيها وأهازيجها الممسوخة التي تعزف على أوتار انفعالاتها لتوقظ فيها نزعات الحماس اللاواعي, حيث تعرقل فيه حكمة العقل ومكانته في الخيار الانتخابي الحر, ويترك فيها الناخب مسلوب الإرادة محتكما إلى الهوى والعاطفة والانطباعات الآنية المخيفة وسلطة المزاج التي تعرقل الخيار العقلاني, وخاصة في ظروف أحزاب تمتلك قدرات هائلة من مال حرام وتطفل مذموم على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية واستخدام للماضي الأليم لرسم صورة الحاضر على خلفيته وإثارة النزعات العقلية الانقسامية من دينية وطائفية وقبلية ومناطقية وحتى سلالية وعائلية تعززها الإغراءات المادية والنفعية ذات الفائدة قصيرة الأجل, وخاصة في مجتمع خرج من آتون دكتاتورية وشوفينية عاتية عبثت في المنظومة القيمية وزرعت في أوصاله الجهل والفقر والمرض والتخلف وعدم المساواة, وأعقبتها حقبة عقد ونصف ن الزمن غاب فيها الخطاب الوطني, وهنا نحذر شعبنا من استراتيجيات الشراسة لدى بعض الكيانات الانتخابية في إشاعة الكذب والخداع والوهم والإيهام التي تتدخل بقوة لتصنع رأيا انتخابيا مجافيا للعقل والحكمة مستخدما من العزف على أوتار الماضي الديني والسياسي في ظل مجتمع يعاني من اختلال اقتصادي واجتماعي,فقد تمتلئ أمعاء الناخب بالمال الحرام والهبات ولكنها ستجوع إلى الأبد بعد فرز الأصوات الانتخابية وتتبخر أحلام الناخب البريء وتتجدد دورة الكبت والحرمان والقمع الذاتي.

يثار الجدل حول الانتخابات البرلمانية القادمة والتي ستعقد في 12ـ5ـ2018 وما تفرزه من نتائج, وقد لا يكون من باب المفاجئة في عدم إيجاد هيكلية جديدة تختلف عن سابقتها لأشغال السلطتين التشريعية والتنفيذية ” رغم الانحسار الكبير للخطاب الطائفي والأثني وتصدعه سياسيا وفي عقول الناس وكذلك بروز تحالفات نوعية جديدة ذات خطاب وطني جامع نسبيا”, الأمر الذي يؤدي بدوره إلى عدم إحداث نقلة نوعية صوب الديمقراطية الحقة التي تنقل البلاد إلى خيارات واقعية تعزز فيها مكانة الاتجاه العملي ليخرج البلاد من أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية, وقد يحصل بعض التحسن الشكلي للمكونات الجغرافية والطائفية للاندفاع نحو المشاركة في الانتخابات وخاصة المنطقة التي يطلق عليها ” المنطقة الغربية ” وكذلك القوى السياسية التي يطلق عليها بذات ” الأصول البعثية ” نتيجة لإحساسها بعدم جدوى مقاطعة العملية السياسية من منطلق حسابات الربح والخسارة, إلا أن المشكلة لا تكمن في ضعف أو اتساع نطاق المشاركة الشعبية في الانتخابات فقط, بقدر ما يتعلق أيضا بصدق البرامج الانتخابية المعلنة وبحسن النوايا, إلى جانب القناعة المطلقة بالتداول السلمي والديمقراطي للسلطة السياسية, وإلا فالجميع يخسر العراق, وتصبح البرلمانات القادمة حاضنة للإرهاب وأعمال العنف وداعمة له, وخاصة في ظل الاحتماء الجغرافي ـ الطائفي للكتل السياسية الكبيرة وتشددها في الحصول على المزيد من المكاسب والاستئثار بالسلطة المشرعن, يقابله في الجانب الأخر تكهنات أولية مفادها غياب كيانات سياسية عديدة صغيرة عن البرلمان القادم على خلفية صدور قانون الانتخابات الذي أضفى الشرعية في مصادرة أصواتها في حالة عدم فوزها بالنصاب لصالح الفائزين الكبار, وتلتقي سلوكيات الإقصاء هذه مع الكثير من النوايا غير الحسنة في عدم رؤية العراق بلدا آمنا ومستقرا وديمقراطيا.

قد نجد هنا وهناك من تبرير لخيارات الناخب العراقي على خلفية العوامل والاتجاهات الأنفة الذكر,إلا إن الخلاف حول دوافع هذا الخيار أو ذاك في ظروف عدم الاستقرار السياسي, وفي ظل استمرارية وبقاء آثار صدمة الاحتماء, حيث يلجأ الجميع مكرها إلى طائفته أو قوميته أو منطقته الجغرافية للاحتماء في ظل غياب الأمن الشامل, الذي يفترض على الدولة العراقية توفيره, كي تفسح المجال أمام إرادة المواطن الحرة بالانطلاق والنمو بعيدا عن مختلف الضغوطات, بما فيه إرادته في الانتخاب وإدلاء صوته, وضمن هذه التعقيدات المقترنة بظروف الفاقة والفقر وضنك العيش فأن رموز الطوائف والأحزاب على هبة الاستعداد لتحويل أصوات الناخبين من أبنائها إلى مشاريع استشهاد جماعية قبالة صناديق الاقتراع.

وعلى خلفية ذلك فأن الانتخابات العراقية القادمة سوف تؤسس على قاعدة ناخب مستضعف يبحث عن الأمن ولقمة العيش,ومرشح ” ماكر ” في غالبيته يمتلك السلطة والمال ومختلف الإمكانيات للفتك “الرحيم” بالناخب واستلاب صوته, وسوف يقوم المرشح بتجيش الجماهير الغفيرة والفقيرة مستندا إلى الخطابات الطنانة التي تسرق قلوب الكادحين والمعدومين وتوقظ فيهم نزعات الحماس اللاواعي فتعطل لديهم منطق العقل وتطلق لديهم العنان للغرائز الأولى والانفعالات البدائية لكي تكون سيدة الموقف الانتخابي.

وفي غمرة الدعاية الانتخابية التي بدأت قبل موعدها المقرر, فأن المرشح السياسي المبرقع بالطائفية والمذهبية والعرقية سوف يقوم باستخدام كافة الوسائل المتاحة لديه للكذب على الجماهير المستضعفة وإعادة إنتاج الإشاعات والخطابات الممسوخة والوعود الممنوحة, وما يصاحب ذلك من شراء للذمم واستخدام المال الحرام والتطفل الصلف على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية المتعارف عليها في الدول الديمقراطية. وقد اقترنت تلك الدعاية بشتى صنوف التسقيط والتشويه وانتهاك الاخلاق والمحرمات وصولا الى حالات من الاغتيال والتهديد والمداهمات.

أن مرشح يختفي وراء الطائفة والمذهب والمنطقة والعرق سوف تكون رسالته الانتخابية مفعمة بمحتوى ينضح بالتمويه والتضليل والدعاية المبتذلة, فيتظاهر في رحاب المساجد والجوامع وأمكنة الحضور العامة بمظهر المنافق المؤدب والمخادع المهذب ويستحضر ما يتمكن عليه صور من الصراع الإسلامي ـ إسلامي ليدق الآسفين بين مكونات الدين الواحد, ويذرف دموع التماسيح في مناسبات إحياء ذكرى استشهاد الرموز الدينية بعد التأكد إن ضحيته ” ناخبه المرتقب ” قد ذرف الدمع في محبة حقيقية وصادقة وعفوية لرموزه الدينية, إلا إننا نعرف أن التماسيح تذرف الدمع بعد التهام ضحيتها, مستغلا صدق مشاعرها ليضعها في جعبة مشروعه الانتخابي, أنها محاولات لترك انطباعا مشوها لدى محبي الدين مفاده أن السلامة الطائفية أولا وبعدها نتحدث عن دولة القانون والمواطنة إذا كان هناك متسعا من الوقت لذلك, وهكذا تنتعش النزعات العصبية ـ الطائفية لتجر ورائها قبائل وأحزاب ومناطق لتكرس العقلية الانقسامية التي تفعل فعلتها في الحراك الانتخابي, فتكون الحملات الانتخابية فرصا عملية لأضعاف مكانة دولة القانون التي يفترض أن تكون سلوكا عمليا غير قابل للمساومة وقاسما مشتركا لكل القوائم الانتخابية.

أن دوافع السلوك الانتخابي ببعديه المرشح والناخب هي دوافع معقدة تتشابك في نسجها العديد من العوامل والخلفيات الواعية واللاواعية, وهي نتاج البيئة السياسية والتنشئة الاجتماعية والأسرية وتراكمات الماضي واستحضار للماضي لمختلف الدوافع والإغراض, وأن التوظيف السيئ لتلك المنظومة من العوامل قادر على حرف الدعاية الانتخابية من سلوك تربوي متقدم لممارسة الديمقراطية إلى ميدان للصراع الطائفي والقبلي والاحتراب الاجتماعي, ولا يمت بصلة لما نسميه باللعبة الديمقراطية, وهكذا يتم حرف سلوك الناخب من حالة التصويت لبرنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي يستهدف أصلاح وإنقاذ مجتمعا وشعبا بالكامل إلى مشروع ولاءات طائفية وقبلية وحزبية ومناطقية ضيقة, يستجيب فيها الناخب البريء إلى ولائم ومآدب العشاء والغداء والتعازي والأفراح والأهازيج ومختلف أشكال الكلام المرتل والمغنى, المبكي منه والمفرح, لتشكل جميعها وسائل نفسية ومادية مغرية وذات نزعة نفعية لا تصمد أمام المشروع الوطني ولا تشكل أي مناعة أخلاقية في ظل مجتمع يعاني من الفقر والجهل والأمية بمختلف مظاهرها الحضارية منها والأبجدية .

أن مرشح انتخابي من هذا النوع سوف يلجأ إلى أعتى الوسائل للاستحواذ على أصوات الجماهير البريئة,أنها عملية افتراس للناخبين بأنياب لطيفة وبيضاء, ما دام الناخب العراقي تتوفر فيه شروط الاختراق والاستلاب والانقياد,لأنه يعيش بظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة لا تؤهله أن يكون حر الإرادة وبمنأى عن أفاعي السياسة الحرباء الذين يجيدون استخدام السلطة الدينية والروحية في اللعب على أوتار العاطفة الدينية والاستنجاد بالرموز الدينية عندما يرون الخسارة تلوح في الأفق, مرورا بسلطة المال والجاه التي تضرب أعناق شعب جاع لعقود خلت .

أن عملية الصراع الشرس بين مختلف الكتل السياسية المتموضعة في مختلف مناطق العراق الجغرا ـ طائفية والاثنية والمؤطرة بنفس الاستحواذ, وليست المنافسة المشروعة المتعارف عليها في تقاليد الممارسة الديمقراطية والقائمة أصلا على مشتركات كثيرة(لعل أبرزها سلامة الوطن وأمنه وتحسين ظروف الحياة العامة), هي من العوامل المعرقلة لبناء سلوك انتخابي موضوعي بهذا القدر أو ذاك لدى الناخب العراقي, فالناخب هنا يفتقد إلى مقومات الناخب ـ الحكم,وسوف يساق إلى الانتخابات القادمة تحت وطأة حمى الاستقطاب الطائفي والمناطقي والاثني والمشحونة بنفس الانتقام وتصفية الحساب في أحيان كثيرة, ونخشى أن لا يكون هذا الاندفاع إلى صناديق الاقتراع واقعا تحت تأثير منطق غرائز الحشود الإنسانية الأولى قبل أن تدجنها الحياة الاجتماعية والسياسية المدنية, حيث يتصرف الإنسان هنا وفقا لانفعالاته الآنية والعاجلة في الزمان والمكان دون حساب دقيق وترتيب لسلم الأولويات, وهي خيارات ينعدم فيها التخطيط وتنعدم فيها الرؤيا للمستقبل وتضعف فيها المسؤولية اتجاه مستقبل البلاد والأجيال القادمة…..والمهم في ذلك كله ليست فرز الأصوات بعد الانتخابات وتحديد الفائز, بل الإتيان بحكومة قادرة على معالجة مختلف الملفات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي لم ترى النور بعد,ولكي لا نعود إلى المربع الأول مع كل دورة انتخابية.