23 نوفمبر، 2024 5:56 ص
Search
Close this search box.

الأصول اللغويّة لِلَّهْجةِ العراقيّةِ المعاصرةِ ( 2 )

الأصول اللغويّة لِلَّهْجةِ العراقيّةِ المعاصرةِ ( 2 )

تناولنا في المقالة السابقة المنشورة بتأريخ ( 8/9/2015 ) التأصيل العلميّ اللغوي لطائفة من الألفاظ العامّيّةِ العراقية ، ووجدنا أنَّ لتلك الألفاظ المدروسة ( بَحْبِحها ، والبِرطيل ، وبَسْ ) أصولاً واضحة في العربيّة الفصحى أو أنّها دخلت العربيّة منذ أمدٍ بعيدٍ ، ونستأنف في هذه المقالة – إن شاء الله – دراسةَ طائفة أخرى من الألفاظ مؤصِّلين ، وهي :

1- ( 4 ) بَرْطَم ، و بَراطِم :

تردُ في كلام العراقيين لفظتا ( بَرْطَم ، وبَراطِم ) لدلالتين ليستا متباعدتين .

أ- أمّا الفعلُ ( بَرْطَمَ ) أو ( تِبَرْطَمْ ) فيستعمل للدّلالة على الغضب والسكوت والامتعاض ، كما نصَّ على ذلك الدكتور مجيد القيسي1 ، واللغوي أحمد رضا العاملي ( عند غير العراقيين أيضاً )2 ، والدكتور أمين علي السيد عند تقريره لدلالة معنى ( برطم ) على ( اغتاظ ) في عموم اللغة العامة3.

واستعمال العراقيين لهذا الفعل للدلالة على الامتعاض والغضب له ما يؤيِّده في فصيح الكلام العربي :

* فقد جاء في ( لسان العربِ 12/ 47 ) لابن منظور ( ت 711هـ ) قولُ الراجز :

مُبَرْطِمٌ بَرْطَمَةَ الغضبانِ بشَفَةٍ ليست على الأسنان

* قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : (( البَرْطمةُ : عُبوسٌ في انتفاخٍ وغيظٍ ، تقول : رأيتُهُ مُبَرْطِماً ، وما الذي بَرْطمَهُ ؟ ))4 .

* وقال ابن دريد : (( وبَرْطَمَ الرجل بَرْطَمَةً : إذا قطَّبَ وتغضَّبَ ))5 .

* وقال إسماعيل بن حماد الجوهري ( ت 393هـ ) : (( البَرْطَمَةُ : الانتفاخُ من الغَضَبِ ، وتَبَرطَمَ الرَّجلُ ، أي: تغضَّبَ من كلامٍ ))6 .

وهذا يعني أنَّ هذا الفعل يستعمل للدِّلالة على ما يصاحب الإنسان من شعورٍ تظهر آثاره على الشّفاه ، على نحو ما نجد عند العراقيين ، وليس بعيداً القول إن من تلك التي يقصدها العراقيون من استعمال هذا الفعل هو الدِّلالة على قربِ البكاء ، وهو معنى ليس بعيداً عن المعاني التي قرَّرها اللغويون السابقون .

ب- ويستعمِل العراقيون الجمعَ ( بَراطِم ) للدّلالة على الشِّفاه ( الاسم وليس المعاني النفسية التي تصاحب الإنسان وتظهر أماراتها على الشفاه ) ، وهذه الدّلالة التي ترد عند العراقيين لها أصلٌ مستقرٌّ في الفصحى التي دوّنها علماء اللغة ، وإنْ كانت تدلُّ عندهم على نوعٍ خاصٍّ من الشفاه .

* وقال أبو منصور الأزهري ( ت 370هـ ):((أبو عبيد عن الأمويِّ :البِرْطام : الضَّخْم الشَّفةِ ))7 .

* قال أبو منصور الثعالبي ( ت 429هـ ) : (( البِرْطامُ : الضَّخْمُ الشَّفةِ ))8 .

* وقال ابن سيده الأندلسي ( ت 458هـ ) في المخصَّصِ : (( وشَفَةٌ بِرْطام : ضَخْمَةٌ ))9 .

* وقال الفيروزآبادي : (( البِرْطامُ : بالكسرِ : الضَّخْمُ الشَّفَةِ كالبُراطِم ، والشَّفَةُ الضّخْمة ))10 .

وأمّا استعمال العراقيين للجمعِ ( براطم ) للدَّلالة على الشفتين وهما مثنى فهو أسلوب عربيٌّ فصيحٌ دوَّنه العلماء منذ زمنٍ ، فقد عقد ابن السِّكِّيت ( ت 244هـ ) باباً مستقلاً في كتابه (الحروف) اسمه ” باب ما جاء مجموعاً وإنما هو اثنان أو واحدٌ في الأصل ” وممّا جاء فيه : (( قالوا : ألقاه في لهوات الليث ، وإنما هو لهاة ، وكذلك : وقع في لهوات الليث .ويقال: رجل عظيم المناكب ، وإنّما له مَنكِبان ))11 .

2- ( 5 ) بَقْبَق

يستعمل العراقيون الفعل ( بَقْبَقَ ) أو ( يِبَقْبُقْ ) لحكاية صوت الماء إذا غلا أو إذا كانت له حركةٌ في قدرٍ أو أنبوب أو غير ذلك ، وكذلك حكاية صوت قنينةٍ ما إذا غُطسَتْ في الماءِ ، وينُصُّ الدكتور مجيد القيسي على أنَّ من دلالات ( بَقْبَقَ ) في العاميّة البغداديّة هو الدِّلالة على كَثْرة الكلام والثَّرْثرة أيضاً12 .

والبحث في أصول اللغة بيبِّنُ أنَّ هذه الدِّلالة التي من أجلها يستعمل العراقيون هذه اللفظة لها أصلٌ مكين في الفصحى ولا سيّما الدّلالة على صوت الماء :

* قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : (( والبَقْبَقَةُ : حكايةُ الصّوت كما يُبَقْبِقُ الكوزُ في الماء))13 .

* وقال ابن دريد :((ويُقال : سَمِعْت بَقْبَقَةَ الماءِ إذا سَمِعْت حَرَكته ، وبَقْبَقتِ القِدْرُ إذا غَلَتْ ))14.

* ويرى نشوان بن سعيد الحميري ( ت 573هـ ) التعميم في استعمال الفعل ( بَقْبَقَ ) ، قال:(( بَقْبَقَ : الكوز في الماءِ ، وكذلك كلُّ صوتٍ يُشبهُه ))15 .

وإذا كان العراقيون يستعملون هذا اللفظ للدلالة على كَثْرةِ الكلام فإنَّ لذلك أصلاً ثابتاً في الفصحى كذلك ، قال ابن دريد : (( البَقْبَقَةُ : كَثْرةُ الكلامِ ))16 .

* وقال الأزهري : (( ويُقال للرجلِ الكثير الكلامِ : بَقْباقٌ ))17 .

وليس بعيداً القول بقرب الدّلالتينِ قال ابن فارس : (( والبَقْبَقةُ : كثْرة الكلام … ومن ذلك : بَقْبَقة الماءِ في حركتِهِ ، والقِدْرِ في غليانها ))18 .

3- ( 6 ) بَقَّ

يدُلُّ الفعلُ ( بقَّ ) في اللهجة العامّيّة العراقيّة على لفظِ الماء بسرعةٍ ( أي : إخراجه ) ، فإنْ قال قائلٌ من العراقيين : بُقَّ الماي ، عنى : أخرج الماء من فمِك بسرعةٍ وبشدّة ، وليس من الصعوبة بمكانٍ تأصيل هذه اللفظةِ مع دِلالتها والعثور على أصلٍ لها في الفصحى.

* قال ابن دريد : (( بقَّتِ السّماءُ بقّاً إذا جاءت بمطرٍ شديدٍ ))19 .

* وقال الجوهريُّ : (( وبَقَّتِ المرأةُ وأبقَّت ،أي : كثُر ولدها،وبقَّتِ السَّماءُ ،أي :جاءت بمطرٍ شديدٍ ))20 .

* ورأى ابن فارس أنَّ للباء والقاف ( بق ) أصلين عند الخليل وابن دريد ،أحدُهما الدِّلالة على التفتّحِ في الشيءِ في القول والفعل ، ورأى أنَّ من استعمال هذه اللفظةِ هو قول القائل : بقَّ يبُقُّ بقّاً إذا أوسع في العطيّةِ ، وبقّت السّماءُ بقّاً إذا جاءت بمطرٍ شديدٍ21 ، ورأى أنَّ منه قول القائلِ22 :

وَبَسَطَ الخيرَ لنا وبقَّهُ فالخَلْقُ طُرّاً يأكلونَ رِزْقَهُ

ومن نظرَ في ( البقِّ ) الذي يعنيه العراقيون ، وجد أنَّ إخراج الماء بسرعة من الفمِ يكون مع تفرِقةِ هذا الماء وانتشارِهِ ، ومعنى ( التفرِقةِ والانتشار ) له أصلٌ في الفصحى كذلك :

* قال الأزهري : (( وأما قول الراعي :

رَعَتْ من خُفافٍ حينَ بقَّ عِيابَهُ وحلَّ الرَّوايا كل أسْحَمَ ماطِرِ

قال بعضُهم : بقَّ عيابَهُ23 ، أي : نشرها،وبقَّ فلانٌ مالَهُ أي :فرَّقهُ ))24.

ورأى أنَّ منه قول القائل25 :

أم كَتَمَ الفَضلَ الذي قد بَقَّهُ في المسلمينَ جِلَّهُ ودِقَّهُ

وممّا يؤكِّد فصاحة الاستعمال العراقي لهذه اللفظة ودلالتِها هو ما جاء في تسمية الفمِ بما هو مشتقٌّ من مادة ( بق ) ، قال الفيروزآبادي : (( والبَقْباقُ : الفمُ ))26 .

هوامش المقالة ملاحظة : رقما التسلسل اللذان يظهران قبل الكلمة ، يشير أحدهما ( الذي قبل الشارحة ) إلى تسلسل الكلمة في هذه المقالة ، والذي بين القوسين يشير إلى تسلسلها مع الكلمات المدروسة في المقالة السابقة . 1 ينظر : موسوعة اللغة العامية البغداديّة 110 . 2 ينظر : قاموس ردِّ العامّي إلى الفصيح 39 . 3 ينظر : العامي الفصيح في المعجم الوسيط 5 . 4 العين 7/473 . 5 جمهرة اللغة 3/307 ، وينظر : تهذيب اللغة ، لأبي منصور الأزهري ( ت 703هـ ) 14/57 . 6 الصحاح 5/ 1871 ، وينظر : المخصص ، لابن سيده 6/170 ، والقاموس المحيط 3/97 . 7 تهذيب اللغة 14/57 . 8 فقه اللغة 73 ، وينظر : 150 أيضاً. 9 المخصّص 7/ 547 . 10 القاموس المحيط 4/79 ، وينظر :غاية الإحسان في خلق الإنسان ، لجلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ) 221 11 الحروف 111 . 12 ينظر : موسوعة اللغة العامّيّة البغداديّة 119 . 13 العين 5/30 . 14 جمهرة اللغة 1/128 ، وينظر : المخصص 4/459 ( فصل : أصوات الماء ) . 15 شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم 1/412 ، وينظر : القاموس المحيط 3/214 . 16 جمهرة اللغة 1/128 . 17 تهذيب اللغة 8/301 ، وينظر : الصحاح 4/1451 . 18 معجم مقاييس اللغة 1/186 . 19 جمهرة اللغة 1/36 . 20 الصحاح 4/1451 . 21 ينظر : مقاييس اللغة 1/185 . 22 ينظر : لسان العرب 10 / 24 23 كذا في الأصل ، وفي القاموس المحيط ( 3/214 ) : (( وبَقَّ …عِيالَهُ : نَشَرَها )) . 24 تهذيب اللغة 8/301 . 25 ينظر : المصدر نفسه . 26 القاموس المحيط 3/214

أحدث المقالات

أحدث المقالات