لستُ من دعاةِ ( العامِّيَّةِ ) ولا أرغبُ في يومٍ ما أن تحُلَّ محلَّ ( الفُصْحى ) في المواطنِ الجادَّةِ من القول كالتّأليف ، والمحاضراتِ ، والمناقشاتِ العلميَّةِ ، والمحاورات الإعلاميّةِ الهادفةِ ، ولو لم يكنْ لهذه الفصحى غيرُ هذا التراثِ العربيِّ العظيمِ لكان ذلك كافياً للدّعوةِ من أجل الحفاظِ عليها ، وتعليمها أبناءنا ، واتّخاذها وسيلةً للتعبيرِ عن فكرنا وأدبنا وثقافتنا ، فكيف بها وهي لغة التنزيلِ الكريمِ ، وهي لغةُ حديثِ النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
ولكنَّ الدّرسَ اللغويَّ الجديدَ علّمنا أنْ ننظرَ إلى هذه العامِّيَّةِ بشيءٍ من الموضوعيّة ، فهي إنْ لم تكنْ خيراً خالصاً فهي ليست شيئاً مبذولاً خالصاً أيضاً، ذلك أنّها وسيلة التّعبيرِ في كثيرٍ من شؤوننا اليوميّة ، وحياتِنا العامَّةِ ،وليس بعيداً عنّي وعنك استعمالُها أداةً للتعبيرِ في مساحة واسعةٍ من الوسائل الرّقْميّة المعاصرة ، ولها ما للفُصْحى من أنظِمةٍ صوتيّةٍ وصرفيَّةٍ ونحويَّةٍ ودلاليةٍ ، وعلى الدّارسِ – إنْ أراد أنْ يتَّخذ اللسانيَّات منهجاً – أنْ ينظر إلى هذه العامِّيَّةِ أو تلك على أنّها نظامٌ لغويٌّ يلتجئ إليها المتحدِّث للتعبير عن كثيرٍ من شؤون حياته وتفكيره واتِّصاله بالنَّاسِ .
والعراقُ وإن كانتْ تستفيضُ فيه لهجاتٌ متعدِّدة لا لهجة واحدةٌ فحسْب إلا أنَّ الحقيقةَ العلميّةَ التي يُدْرِكها النَّاظرُ المتأمِّل هي أنَّ العراقيينَ يشتركون في أمرِ لهجتهم العاميّة ذلك أنَّ لهم لهجةً محكيَّةً تميِّزهم من غيرِهِم ، وهم يشتركون في كثيرٍ من الألفاظِ التي عُرِفوا بها ،كما أنَّ لهجتهم المحكيَّة تشارك غيرها من اللهجات العربيّة المحكيّة الأخرى في ألفاظٍ ليست قليلةً ، من أجل ذلك حاولتُ أنْ أتلمّس الألفاظ العامِّيَّة التي يشترك العراقيُّون في استعمالها وأنْ أبحث في أصولها اللغويّة ، حتى يُدرك أبناء هذا الجيلِ أنَّ للهجتهم العراقيَّةِ أصلاً عربيّا فصيحاً قديماً ، أو أصولاً أخرى تعود للُّغات التي كان لها حضورٌ في الأرض العراقيةِ في أزمنة العراق المختلفة البعيدة منها أو ما كان ذا أمدٍ غيرِ بعيدٍ.
وقد كان للعلماء العراقيين المحدثين عنايةٌ ذات شأنٍ بأمر لهجتهم ( او لهجاتهم ) المحليَّة ، وقد كتبوا في ذلك كتباً وأبحاثاً ، وما قدَّمه العلامة محمد رضا الشبيبي والعلامة الدكتور إبراهيم السامرائي – مثلاً – ليس بعيداً عن القارئ المتخصِّصِ ، لكنَّ الذي أحسبُهُ أنَّ الوصول إلى أبحاثهم التي أنجزت منذ عقودٍ طويلة صار ليس متيسِّراً بسبب تناثرِ أبحاثهم في مواضع متفرِّقة ، فضلاً عن اضطراب أمر المكتبات عندنا في العراق ، لذلك أرى أن يُستأنف البحث في تأصيل اللهجة ( أو اللهجات ) العراقية المُعاصرة ، ولا سيّما بعد أنْ ظهرت من مناهج البحث اللغوي المعاصرة ما يسوِّغ الدعوة إلى استئناف الدِّراسة التأصيلية هذه من جديدٍ، فضلاً عما صارت توفِّره التِّقانةُ الحديثةُ من سهولة الوصول إلى مصادر علميّةٍ كثيرة ، وأسلوب بحثٍ إلكتروني دقيق له القدرة على البحث في أوسع المصادر العلمية في زمنٍ وجيزٍ ، وقد وجدت أنَّ هذه الأسباب كلَّها تدعوني للعمل من أجل تأصيل الألفاظ العامية العراقية ، وبيان مرجعياتها اللغويّة التي تعودُ إليها .
وقد أحاطَ الدَّرسُ اللغويُّ الجديدُ اللهجاتِ العامّيَّةَ بسلسلةٍ من الدِّراساتِ تتناول جوانبَ نحوِها وصرفها وأصواتها فضلاً عن دلالاتها ، وسأحول في مقالتي هذه ( أو مقالاتي القادمة ) إنْ شاء اللهُ أنْ أتتبّع الأصول اللُّغويّة للهجة العراقيّة المعاصرة ، وغرضي أنْ أُثبتَ للقارئِ أنَّ كثيراً من الألفاظِ التي يستعملها العراقيّون في لهجتهم المحلِّية ( أو لهجاتهم ) لها أصلٌ ثابتٌ في العربيَّةِ الفصحى ، أو أنّها دخلتِ العامِّيَّةَ في العراقِ من لغاتٍ أخرى منذ أمَدٍ بعيدٍ أو غيرِ بعيدٍ ، ولكنّي أودُّ أن أبيِّن في ختام هذه المقدِّمةِ أنّني لن أتناول الألفاظ التي يمكن وصفها بالمبتذلة ، كالتي قد تُستعمل للتعبير عن التذكّرِ أو المناداة أو تلك التي قد لا يتجاوز استعمالها مساحة جغرافيَّةً محدودة . وسأتناول تلك الألفاظ التي اخترتها في سلسلةٍ من المقالات العلميّة المتتابعة إن شاء الله تعالى.
1- بَحْبِحْها
يستعمل العراقيون لفظة ( بَحْبَحْها : بالماضي ) أو ( بَحْبِحْها : بالأمر ) أو غير ذلك للدّلالة على التوسّعِ في النّفقةِ ، فيقولون – مثلاً – : بَحْبِحْها شْويَّهْ ، أي : زِدْ من المالِ الذي تعطيه شيئاً قليلاً ، وقد تُستعمل للدّلالةِ على التوسُّع في كلِّ أمرٍ.
وهذه اللفظةُ فصيحةٌ عريقةٌ في الفصاحةِ ، قال ابن دريد ( ت 321هـ ) : (( بَحْبَحَ الرَّجلُ وتَبَحْبَحَ – إذا اتّسعَ ، والبَحْبَحةُ : الاتِّساعُ ، ومنه قولهم : بُحْبُوحةُ الدَّارِ ، أي : ساحتُها )) ( جمهرة اللغة 1/125 ) .
وقال اللغويُّ المعروف أحمد رضا – بعد أن أورد استعمالات العامّةِ المختلفة لهذه المادة اللغويّة ومتصرَّفاتِها – : (( وكلُّ هذا صحيحٌ فصيحٌ )) ( قاموس ردِّ العامّيِّ إلى الفصيحِ 26 ) .
2- البِرْطيل
تُسْتعملُ لفظةُ بِرطيل ( بكسر الباء ) في اللهجة العراقية للدّلالة على الرّشوة ، وقد ذهب الدكتور مجيد القيسي إلى أنَّ هذه اللفظةَ تركيّةُ الأصلِ ،(ينظر:اللغة العامية البغدادية 110 )
ولكنَّ النظرَ العلميَّ الدقيق يدعو إلى إثبات غير هذا الأصل ، إذ إنَّ المصادر العلميّة تثبت أنَّ هذه اللفظةَ عربيَّةُ الأصلِ ، أما دلالتها على الرِّشوة فيبدو أنَّ إثبات ذلك يحتاج إلى بحثٍ وتفصيلٍ .
أمّا ما يُثبِت أنَّ هذه اللفظةَ عربيَّةُ الأصل :
فقد قال كعب بن زهير:(ينظر:شرح ديوان كعب بن زهير،لأبي سعيد السكري 12)
كأنَّ ما فات عينيها ومَذْبَحَها من خطْمها ومن اللَّحْييْنِ بِرْطيلُ
وقد وردت هذه اللفظة لهذا المعنى في أشعارٍ كثيرةٍ ، والرجوع إلى معاجم اللغة المختلفة يثبت ذلك .
* وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي : (( البِرْطيل : حَجَرٌ أو حديدٌ فيه طولٌ ، يُنْقَرُ به الرَّحى )) ( العين 7/ 471 ) .
* وقال ابن دريد : (( والبِرْطيل حجرٌ مستطيلٌ قليل العَرْضِ يكون طولُهُ ذراعاً وأكثر ، والجمع : براطيل )) ( جمهرة اللغة 3/307 ) .
* ويبدو أنَّ العربيّة في القرن الثالث الهجري كانت على موعدٍ مع استعمال لفظة ( بِرطيل ) للدّلالة على الرِّشوة ، ذلك أنّي وجدتُ أنَّ أوّل من وردت في كلامه
هذه اللفظة لهذه الدلالة هو البحتري ( ت 284 هـ )،حين قال( ينظر:ديوانه 3/1841 )
وَرَحَضْتَ قِنَّسْريْنَ حتَّى أُنْقِيَتْ جَنَباتُها من ذلكَ البِرْطِيْلِ
وقد نصَّ أبو العلاء المعرّي ( ت 449هـ) على أنَّ البحتري أراد بالبِرطيلِ الرِّشوة ، ولكنّه أكّد عامِّيتها ، وأنَّ الكلام العربيَّ القديمَ كان خالياً من هذه الدّلالة ، قال – بعد أن أورد بيت البحتريِّ المذكور سالفاً – : (( البِرْطيل الذي تستعمله العامّةُ في معنى الرِّشوة لا يُعْرف في الكلامِ القديمِ ، ولا شكَّ أنَّ أبا عُبادةَ لم يعنِ إلا الكلمة العامّيَّةَ ، والبِرْطيلُ في كلامِ العربِ حجرٌ مستطيلٌ … وقولُ العامّةِ:( بِرْطيل) يجب أنْ يكون مأخوذاً من هذا اللفظِ ، يريدون أنَّ الرِّشْوةَ حجرٌ قد رُميَ بها من يُخاصِمون )) ( عبث الوليد 436 – 437 ) .
* وبعد بيتِ البحتريِّ بدأت دلالة لفظ ( بِرْطيل ) على تدخل المعاجم العربيّة ، وممّن ذكر ذلك أبو القاسم الزمخشري ( ت 538هـ ) حين قال : (( ومنه ألقَمَهُ البِرْطيل وهو الرِّشوة ( بضمِّ الراء وكسرها ) ،وإنَّ البراطيل تنصُرُ الأباطيلَ ،وبُرْطِل فلانٌ : رُشِيَ )) ( أساس البلاغة 1/42 ) .
* وقال أحمد بن محمد الفيّومي ( ت 770هـ ) : (( البِرْطيلُ : بكسرِ الباء : الرِّشوة ، وفي المثل : البراطِيلُ تنْصُرُ الأباطيلَ ، كأنَّه مأخوذٌ من ( البِرْطيل ، الذي هو المِعْوَلُ ، لأنّه يُسْتخرجُ به ما اسْتَتَرَ ، وفتحُ الباءِ عامّيٌ لفقدِ فَعْليلٍ بالفتحِ ) ( المصباح المنير 1/42 ) .
ولنصِّ الفيّوميِّ هذا أهميّةٌ واضحةٌ ، إذ يدُلُّ على أنَّ المعجم العربيَّ صار ينظر إلى دلالة هذه اللفظةِ على الرِّشوة على أنّها دلالة فصيحةٌ ، وأنَّ ما كان منها مفتوح الباء ( أي : بَرْطيل ) هو العامّيُّ .
* وقال الفيروزآبادي ( ت 817هـ ): (( والبِرْطيل بالكسر حجرٌ أو حديدٌ طويلٌ صُلبٌ خِلْقةً يُنقرُ به الرَّحى ، والمِعولُ ، والرِّشوة ))(القاموس المحيط 3/334 )
* وقال الشهاب الخفاجي ( ت 1069هـ ) : (( بِرْطيل : بكسر الباء بمعنى الرشوة ، وهو في اللغة حجر مستطيل … وقيل أصله : أنَّ رجلاً وعد آخر بحجر إذا قضى حاجته ، فلمّا قضاها أتاه بحجرٍ ، ثم قيلَ لكلِّ رِشوة )) ( شفاء الغليل 92 ) .
* وقال المرتضى الزَّبيديّ ( ت 1205هـ ) : (( واخْتلفوا في البِرْطيل بمعنى ( الرِّشوة ) فظاهر سِياق المصنّف ( أي : الفيروزآبادي ) أنّه عَربيٌّ )) (تاج العروس 28/ 74 )
وهذه النُّصوصُ تثبتُ أنَّ لفظة بِرْطيل عربيَّةُ الأصلِ ، وأنَّ دلالتها على الرِّشوة قد دخل العربيِّة قبل نهاية القرن الثالث للهجرةِ ، وأنَّ علماء اللغة أدخلوا هذه الدِّلالة في المعاجم بعد ذلك ، ومال المتأخرون منهم إلى فصاحة هذه الدِّلالة ، وأنَّ العراقيين المُعاصرين يستعملونها على النحو الذي رآه اللغويون فصيحاً وهو : بكسر الباء : بِرْطيل .
3- بَسْ
يستعمل العراقيون لفظة ( بَسْ ) لمعانٍ عِدَّةٍ وهي : الأمر بالسكوت ، فقد يقول أحدهم لآخرَ وهو يتكلم : بَسْ ، ويعني : اسْكُتْ أو : حسْبُكَ ،وبمعنى : لكن ، كأنْ نقول : محمد زين بس أخوه ضعيف ، أي : لكنْ ، وتستعمل أيضاً عندهم بمعنى : حَسْب أو فقطْ ،كأنْ يقول قائلُهم : قريتْ كتاب واحد بَسْ ، أو : قريتْ بَسْ كتاب ، ويعني : قرأتُ كتاباً واحداً فقطْ .
ويبدو أنَّ استعمال ( بَسْ ) بمعنى ( حَسْب ) أو ( فقطْ ) له أصلٌ قديمٌ في العربيّة دخل إليها من الفارسيّة :
* قال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ )– في نصٍّ نقله السيوطي( ت 911هـ ) ولم أجده في كتاب العين – : (( بَسْ : بمعنى حَسْب )) ( المزهر 1/ 309 ) .
* وقال محمد بن المعلّى الأزدي – وهو ممن روى عن ابن دريد – : (( في اللغة العامة تقول لحديثٍ يستطال : بَسْ )) ( المزهر 1/309 ) .
* وقال أبو بكر الزُّبيدي ( ت 379هـ ) : (( بَسْ بمعنى حَسْب غير عربية )) ( المزهر 1/309 ) .
* وقال ابن الجوزيِّ ( ت 597هـ ) : (( وتقول : أفعل هذا فحَسْبُ ، بتسكين السين ، والعامة تقول : هذا وبَسْ ))(المدخل إلى تقويم اللسان 115 تحقيق . مطر )
* وقال شهاب الدين الخفاجي ( ت 1069هـ ) : (( بَسْ : بمعنى حسْب …ليست عربية )) ( شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل 87 ) .
* قال العلامة محمود محمد شاكر : (( بَسْ بمعنى : حَسْب و فقط ، مستعملةٌ في العامية ، ولكنّها قديمةٌ جداً ، ويقال إنَّ أصلها فارسيٌّ ) .
” المتنبي – رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 70 حـ : 1 ” .
* وقال الدكتور أمين علي السيد : (( بَسْ بمعنى : حَسْب ، فارسية )) ” العامي الفصيح في المعجم الوسيط 5 ” وينظر : ” موسوعة اللغة العامية البغدادية ، د. مجيد القيسي 115 “
* وإذا كان ( محمد بن المعلّى الأزديُّ ) و ( ابن الجوزيِّ ) قد نصّا على أنّ ( بَسْ ) من استعمالات العامّة ، فلعلَّ هذا هو الذي يفسِّر غيابها من لغة الأدباء ، وأحسَبُ أنّها غائبةٌ عندهم تماماً ، إلا ما وجدته من استعمالٍ لها عند الأديب والمحقِّق المصري ( محمود محمد شاكر ) حين قال : (( أي أنّه إنَّما تعلَّم لغةً أجنبيّةً عنه وبَسْ ))(المتنبي – رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 70 ) ، ثم قال في الحاشية ما ذكرناه آنفاً عنه … والله أعلم بالصواب .