23 نوفمبر، 2024 10:34 ص
Search
Close this search box.

الأصوليات ومستقبل الحضارة – عن الأفكار الكبرى والتمزق الإجتماعي / 1

الأصوليات ومستقبل الحضارة – عن الأفكار الكبرى والتمزق الإجتماعي / 1

تتجه الحضارة إلى منحنيات مجهولة ،ويزداد القلق الإنساني راسماً علامة استفهام حول مصيره القادم ،ذلك ماتنبىء به المؤشرات المتسارعة ، فالأصوليات تكتسح العقل بهستيريا جمعية،والموروث الديني يعاد استحضاره ومن ثم صياغته وزجّه في مفردات يراد لها ان تطغى على حاضر قلق وترسم ملامح مستقبل لاسمات له،فيما يعلو خطاب التشدد لتكون له الكلمة الفصل على حساب دعاوى التسامح وحقّ البشر في الحياة .
تلك هي الصورة في قتامة مشهدها ،لكن ماالذي يدفع الى كلّ ذلك؟ تكاثر البشر وفقد التوازن في الحياة ؟ أم التبشير باقتراب اليوم الموعود كما تنادى به المقولات الدينية؟ ثم متى عرفت البشرية ظاهرة الأصوليات ؟ هل هي مقابل لتوحّش الحضارة كما يذهب البعض ؟ أم مسار موضوعي شهدته البشرية طوال تاريخها ؟ وهل تعود بوجودها واستمرارها إلى منشأ ديني حصراً ؟ أم أنها نتاج إجتماعي ؟ والأهم : هل من إمكان لمعالجتها أوالحدّ من آثارها ؟ أم انها الى مزيد من الانتشار ومن ثم تهديد البشرية في مصائرها وسيرورتها القادمة ؟
كمّ من الأسئلة ، ماتزال إجاباتها ترواح بين الوصف والعرض والتحذير والإدانة والتبرير ، تدور الإجابات حول محورها ،عاجزة عن إيجاد مقاربات موضوعية لمسألة شائكة، ذلك لأن معظمها لم يلامس ( اللب) لما في ذلك من محذورات ، واكتفى بقشرة الظاهرة ، فتلخصت الوصفات بأن الأصوليات منتوج مبعثه أفراد متعصبون لما يرونه حقّاً وحيداً يملك كامل الشرعية في أن يسود فارضاً سيطرته بشتى الوسائل ، ولايترك للآخرين سوى الخضوع أو الموت .
الأصوليات بنظر نفسها(معصومة ) عن الخطأ مادامت تتمسك بالأصل (المقدس ) للعقيدة ، الآخر  هو الخاطئ بما ينتهجه من عقائد فاسدة ،لذا ينبغي إعادته إلى جادّة الصواب ، تلك مهمة موسومة بتكليف إلهي، فالعقائد الفاسدة بمثابة منكر يجب تغييره بالقوة أو الموعظة أو الدعاء (وهو أضعف الإيمان).
 لابد للإصوليات  من (أصل ) مقدس ونصّ متعالٍ مكتمل بذاته ، تلك هي القاعدة الأولى ، وبالتالي فالأصوليات  مفردة مصدرها ديني حصراً  وكلّ المعتقدات الدينية هي أصولية بالضرورة ، الإختلاف بينها يكمن في طريقة إظهارها للأصول أو التعبير عنها ، وليس في جوهرها كمعتقدات ، مادامت تؤمن بالقياس لكلّ عمل وسلوك في تبيان خطأه وصوابه .
منذ أن نشأت الحضارة وتوسعت ، بحثت المجتمعات البشرية عن فكرة مركزية كانت لصيقة بتطور الحضارة  ومنتوجها  في الوقت عينه، أي ان الحضارة والفكرة تبادلتا التأثيرأحداهما بالأخرى .
بدء المدنية من سومر (كما هو متفق عليه) أظهرت معها فكرة الآلهة الموكلة بإدارة الحياة  بقيادة إله أكبر خلق الكون في ستة أيام ثم بنى عرشه على الغمر ليرتاح في اليوم السابع ، تلك هي الفكرة الكبرى الأولى التي ستسير البشرية على تنويعاتها ، ومن ثم غزت حضارة وادي الرافدين كافة الشعوب المجاورة ، بواسطة الفكرة أولاً قبل الجيوش .
في الجانب الآخر من العالم القديم ، ظهرت الكونفوشيوسية في الصين كفكرة مركزية جمعت حولها أمماً وشعوب لتبني بدورها حضارة مستقلّة كان لها أثر فاعل في تطور (فكرة ) الحضارة  ببعدها الإنساني، وقريب منها في بلاد الهند وماحولها ، ظهرت البوذية التي أدخلت جديدها في الوصول إلى الحقيقة الإلهية ( النيرفانا )  فتخطّت الكونفوشيوسية بسعة انتشارها ، لكنها توقفت عند حدود فارس التي أنشأت فكرتها الخاصة ( الزرادشتية ) مكّنتها لاحقاً من إقامة إمبراطورية كبرى أخضعت الشعوب المجاورة عسكرياً ،لكنها تلاقحت معها في أفكارها التأسيسية عن بدء الخلق ، مع إدخال مساهماتها الجديدة عن ثنائية الأله / الشيطان التي ستصبح بدورها جزءاً من الفكرة الكبرى اللاحقة ،أما نشوء الزرادشتية ذاتها، فقد تكون مستمدّة من التأثيرات المباشرة للنار، ذلك الإكتشاف الذي ساهم في تكوين الجماعات لتتطور لاحقاً إلى مجتمعات .
 لقد وفّرت النار للإنسان الضياء في الليل والدفء من البرد والصيد بعد إنضاجه،ولما كانت طريقة إشعال النار بحاجة إلى جهد عضلي ووقت طويل حيث لاتستجيب الحجارة أو الأغصان بسهولة لإعطاء الشرارة الأولى ، لذا كان  ينبغي إبقاء النيران مشتعلة بشكل دائم ، لكن فعل ذلك في كلّ بيت لم يكن متيسراً، ما أدىّ إلى أن يوضع  موقد النار في مكان مخصصّ ومن ثم تكليف أشخاص يتفرغون لإدامتها والسهر عليها، وكانت حصيلة ذلك إن تحولت الممارسة إلى موروث ديني سيتخذ شكلاً قدسياً ، فيتحول المكان بدوره إلى معبد وحراس النار إلى كهنة (مجوس حسب المصطلح الإغريقي) ومن مجموع  تأملاتهم  وحواراتهم – خاصة بعد ظهور زرادشت –  تكونّت الفكرة عن إله الضياء الطبيعي (أهورا مزدا ) بجماله وسنائه ،  وإله النار الحارقة بدخانها وشكله الغريب ، فكان (هيرمان ) الذي أطلق عليه في الديانات السماوية اللاحقة (الشيطان) ومن ثم رُسمت صورته على شكلّ مخلوق مشوّه لايختلف كثيراً عن الأشكال التي يتخذها الدخان الأسود  المنبعث عن المواقد في الليالي المظلمة  .    
 لقد تراكم المنتوج الحضاري من الأفكار الكبرى في السيرورة البشرية، ليختزل من ثم في الأسفار اليهودية التي تقدمت  بإعتبارها (فكرة ) مقدسة كاملة إحتوت ماقبلها وتفاعلت معها ، بما فيها فكرة (الإصطفاء) التي كانت قد عُرفت لأول مرة  في إسطورة (إيرا) إله الدمار البابلي الذي يمنح عهده لشعبه المختار ( الأكديين ) ولعاصمتهم الجبّارة بابل ((قرية قرية ، ومدينة مدينة ، سينهض الأكاديون فيخضعونهم جميعاً،وسيقدم ملوك الأرض أتاواتهم الى بابل ، وستسود بابل في الأرض طويلاً )) – راجع :(مغامرة العقل الأولى – فراس السواح  – ص215.
انتقت اليهودية إلهاً واحداً كلّي القدرة (يهوه ) كمعادل للإله البابلي (مردوخ)  الكلّي القدرة بدوره ، ثم أعادت صياغة الفكرة البابلية في أهم ماجاءت به من أسفار (التكوين – الطوفان – أيوب –  الوصايا – الخ ) فخرجت مشذّبة متماسكة يمكن لها أن تكون فكرة كبرى بديلة لمجمّع الآلهة بتراتبياتها ومراتبها ومعابدها وكهنتها الذين احتفظوا بوظيفتهم كوسيط بين الإله والبشر ، لكن الرواية عن وجودهم إتخذت وجهة أخرى ، فقد ذُكر لأول مرة أن وظيفة الكهنة بادىء الأمر كانت خداع الإنسان الأول (آدم ) وزوجته حواء،كي لايهتديا الى شجرة  المعرفة وشجرة الحياة في الجنّة  فيأكلا منهما وينالا حكمة الإله وخلوده فيناظراه في مكانته ، أي إن مهنة الكهنة بدأت بتكليف إلهي، لئلا يتعامل الإله مباشرة مع الإنسان فيساويه بذاته  .
كانت تلك القصة بمثابة إسقاط رمزي لوظيفة أساس شغلتها المؤسسة (الكهنوتية )التي إستمرت طوال المسار التاريخي للبشرية ، ويتلخص جوهرها في محاربة المعرفة  وأحكام العقل ،على اختلاف المعتقدات وتوالي العصور.
لقد لجأ كهنة المعابد في الحضارات القديمة ، إلى الخدعة في إنطاق الوثن (الإله ) بصوت مرعد مبهم ، أو إطلاق  البخار من منخريه كناية عن غضبه لطلب المزيد من نذور تذهب بطبيعتها إلى الكهنة، وكانت الأوثان للآلهة الكبرى ، بالغة الضخامة جهمة الشكل كجزء من الخدعة في إيهام جموع  ( المؤمنين) بعظمة الإله المجسّد  في الوثن ، ولزيادة في التأثير ، إتخذ الكهنة لباساً خاصّاً يميزهم عن بقية البشر، وهو ما انتقل إلى جميع المعتقدات الدينية  ،من البوذية والهندوسية حيث يمثل الكهنة طبقة عليا في المجتمع ، إلى الزرداشتية التي أوكلت للكهنة حراسة النار المقدسة  وقيادة طقوس العبادة ، مروراً باليهودية والمسيحية والإسلام ، وفي كلّ ذلك ، كانت مؤسسات (الكهنة ) تلعب الدور ذاته في إطلاق (الإصوليات ) وزرع الإحتقان في نفوس البشر، بعد إختيارها مناطق رخوة من التعاليم الدينية وتضخيم الخاصّ الديني ، على حساب العامّ الإنساني  .
لقد حاربت المعتقدات الرافدينية ، المعتقد المتجدد الذي انبثق بين ظهرانيها واعتبرته تهديداً لتفوقها ، فكان إن هدمت ماحاول الدين الجديد إقامته من ممالك كي لايصبح فكرة كبرى ، لكن  بعض معتنقي هذه ( الفكرة )  كان قد هاجر بها الى مصر (حسب الموروث الديني )  فتعاطف معهم فرعونها (إخناتون- 1) ليطلق فكرة تقاربها ( التوحيد ) وإن لم يتبن الفكرة الوافدة  ليجعل منها فكرة مركزية ، ربما بسبب تفضيلها لجنس بعينه.
التعاطف الفرعوني تجلّى في دعم تمردات الممالك اليهودية على الآشورين ومن ثم البابليين ، لكن ذلك لم يحل دون القضاء على ماحاولت الفكرة ( اليهودية ) إنشاءه  من أمكنة إنطلاق ، فُهدمت هياكلها وسبي دعاتها ومعتنقوها ، لكنها بعد ذلك بقرون ، وجدت من يتعاطف معها مرّة أخرى ممثلاً بقورش ملك الإمبراطورية الفارسية الذي منح اليهود حقّ إعادة بناء هياكلهم وممارسة طقوسهم ، بعد ان قضى على الإمبراطوريات المنافسة ، لكن محاولاتهم لجعل فكرتهم  الكبرى  مركزية ، كانت قد أصابها الوهن .
كان لابد من تجديد آخر ، يجعل الفكّرة أكثر قبولاً وقدرة ، وأهم مافيها أن تتجاوز التقوقع الذي ساهم في محدودية أنتشار اليهودية ، ويقدم نفسه من ثم كفكرة كبرى للبشرية كلّها ، لذا أجتمعت فيه من الحضارة الرافدينية والإغريقية والرومانية فكرة (إبن الله ) أو نصف الإله كما سبقها في جلجامش وأخيل وهرقل على التوالي ، ومن المصرية فكرة البعث من الموت في اليوم الثالث (أوزوريس وأمه إيزيس )ومن اليهودية وصاياها وأسفارها ، ومن المجوسية ثنائيتها ( الإله / الشيطان) لكن الفكرة إصطدمت بنوعين من المضادات المانعة ، اليهودية القديمة  وهي تواجه خطراً في مواقعها ، والوثنية الرومانية التي شعرت بالتهديد لمجموع آلهتها وكبيرهم جوبيتر، وهكذا لم ينج  قائد الدعوة ( المسيح ) الذي أرسل (لخراف إسرائيل الضالّة ) من الصلب بيد تلك (الخراف) ذاتها ، لكن الفكرة إنتشرت رغم ذلك بعد ان تبنتها الإمبراطورية الرومانية لتصبح من ثم فكرة مركزية ، وإن واجهت  كذلك تحدّياً من فكرة كبرى مجاورة (الزرادشتية ) تعتنقها إمبراطورية منافسة ( الفارسية) .
التوازن مابين فكرتين كبريين ، جعل كلّ منهما تعيش ضعفاً وتآكلاً بعد أن أنهكتا قواهما في صراع متكافىء لم تحسم فيه الغلبة لأحداهما، إذ لم  تستطع المسيحية التغلغل بكثافة في مواقع (الزرادشتية ) كما ان الأخيرة  إقتصرت بدورها على جغرافية محددة لم تتجاوزها الى غيرها ، وهكذا راوحت الفكرتان مكانهما ، الأمر الذي مهدّ لظهور فكرة كبرى سرعان ما احتلت موقعها في قيادة البشرية .
(*) – تتناول هذه الدراسة في أربع حلقات، كل من الإصوليات التالية :
1-  الدينية (المسيحية – اليهودية )
2- الدينية الإسلامية
 3- العلمانية ( الشيوعية )
4- الإعلامية .
على أن نلحقها بحلقة خامسة عن الإصولية القومية .

أحدث المقالات

أحدث المقالات