كانت (الفكرة) الإسلامية أكثر تنوعاً وأقرب إلى مفاهيم الحياة المباشرة حينها، لقد شملت وهضمت واختزلت جميع المعتقدات والأفكار التي سبقتها، لكن محتوياتها صيغت بطريقة مهدّت لإنتشارها وتبنيها على نطاق أحلّها مكان الأفكار الثلاث الكبرى (الزرداشتية – اليهودية – المسيحية ) مع إختراق مهمّ لقلاع البوذية والكونفوشيوسية في أقصى الشرق ، وإن واجه نبي الدعوة الجديدة (محمد) ذات الصعوبات التي واجهها نبي الفكرة التي سبقته ( المسيح ) حين ناهضته اليهودية دفاعاً عن فكرتها ، فيما دافعت قريش عن (فكرتها ) السابقة هي الأخرى.
كانت قريش تعبد آلهة توفّر لها مكانة كبيرة بين قبائل تعيش على الرعي كنمط حياة ، فكبير آلهتها (هُبل ) ربما كان تجسيداً لهابيل ( كما يذهب كمال الصليبي في كتابه أصل التوراة ) وهو الراعي المختار من ربّ أعلى تقبّل قرابينه ، وبهذا المعتقد ، تحول هابيل (2) إلى الإله المفضّل للقبائل الرعوية -في الجزيرة العربية خاصة – حيث قريش تشغل مكانتها باعتبارها حارسة الهيكل وكهنته – وقد إستمرت بذلك بعد مجىء الإسلام ، رغم تبدل صورة الإله – .
أدخل الإسلام ثلاثة من المستجدات كان من شأنها زيادة قدراته على التوسع: الجهاد والدستور المقدّس والجزية ، فالجهاد جعل من الحرب لنشر الدين واجباً ملزماً لأنه يعمل في سبيل إعلاء كلمة الله بصيغتها الإسلامية كفكرة كبرى ، وهو مالم يظهر في المعتقدات السابقة على الصورة ذاتها، أما الدستور المقدّس، فقد ظهر لأول مرّة بنصوص تفصيلية تحدد أطر البناء في الدولة الإسلامية وموقع الخاضعين إلى سيطرتها ، فقُسّمت المجتمعات بين مجاهدين مؤمنين( المسلمين) ورعايا آمنين (أهل الذمّة) عليهم دفع ضريبة الحماية للدولة الحاكمة .
وفيما إنسحبت المسيحية إلى تمركزاتها جنوباً نحو أفريقيا ، وشمالاً نحو أوروبا ، لم تجد الزرادشتية واليهودية إمتدادات كافية لبقائهما ضمن دائرة التنافس مع القادم الجديد (الإسلام ) فانهارت الأولى وتلاشت ، فيما سقطت آخر ممالك اليهودية في اليمن،قبل أن تتناثر ( الفكرة ) شتاتاً لتظهر من ثم في مكان آخر.
الإسلام في ذروة إندفاعه إخترق قلاع المسيحية في الكثير من مواطنها الأفريقية ، وجزء مهمّ من معاقلها الأوروبية ، قبل أن يبدأ بالتراجع ومن ثم العودة إلى نقاط انطلاقه ، لتلاحقه ( الفكرة ) المنافسة إلى دياره في حرب دينية معلنة في رمزها المقدّس ( الحروب الصليبية) وماتبعها .
الفكرة الكبرى بمقدّساتها وثوابتها ومقولاتها اليقينية، تتميز في الوقت عينه بالغموض والإبهام وتعدد المعاني، ذلك من أهم خصائصها وأقدرها على جذب جموع المؤمنين ، فالإنسان يخشى ما يجهله ، فكيف إذا كان خالقاً أعلى لاحدود لقدرته ، وعلى هذه المعطيات تطرح الأصوليات نفسها باعتبارها مؤتمنة على أسرار كبرى ، لايستطيع العقل البشري بمحدودية قدراته ، إدراك كنهها ، لذا على الإنسان الإيمان وليس التفكير، ولهذا يسمى مؤمناً ، لكن طريق الإيمان يقوده الكهنة ، فيما يتمرد العقل عمّا لا يتقبّله .
بعد توازن الفكرتين الكبريين ( المسيحية والإسلام) وتمركزهما كلّ في جغرافيته المتجاورة مع الأخرى ، بدأت إمبراطورياتهما بالتآكل من داخلها ، فقد تشققت المسيحية إلى تنويعات دموية على الفكرة الأم فيما سمي (حركة الإصلاح الديني ) ، وتطاحنت الممالك الإسلامية بدورها درجة الإنهاك ، ما أدى إلى ضعف وانهيار خلافتها المركزية ، بعد أن تحول الإسلام بمفهوم الحاكمية ، من عقيدة إيمانية ، إلى عقدة خلافية اتخذت طابعاً تناحرياً .
إنشاقات الكنيسة وماتسببتْ به من مجازر بعد ان إدعّى كلّ منها إمتلاكه لأصول الفكرة الكبرى ، مهدّ لظهور أفكار جديدة خارج الرحم المسيحي الذي أعتبر من العوائق التي ينبغي تجاوزها ، وهكذا ولدت الآيديلوجيات الكبيرة ( العلمانية – الشيوعية – القومية ) التي حقق كلّ منها دولته الخاصة ، ففيما أنشأت العلمانية / الليبرالية ، دولة الرفاه والعقد الإجتماعي مستفيدة من المنجزات العلمية التي شهدها عصر النهضة ، ذهبت العلمانيات الأخرى إلى إقامة دولها الخاصّة ، فأتجهت الشيوعية إلى بناء الدولة الإشتراكية – خاصة في شرق أوروبا وأجزاء من آسيا وأمريكا الجنوبية – فيما أستولت القومية على ألمانيا وايطاليا وأسبانيا وغيرها .
الفارق بين الآيديلوجيات والأصوليات ، ليس في مصدر الفكرة الكبرى وحسب ( الأرضية عند الأولى والسماوية عند الثانية ) بل في النظر إلى الوجود الكليّ بما فيه الإنسان ، فالوجود عند الآيديلوجيات هو مادّة الفعل وليس نتاجه ، ما يعني ان الإنسان يترك بعمله الإرادي الحرّ، تأثيراته على المادّة الموجودة موضوعياً خارج وعيه، ذلك مايخالف نظرة الأصوليات التي ترى ان الوجود نتاج لفعل إلهي يشغل الإنسان حيزاً منه، وبالتالي فهو محكوم بالقدرة الفاعلة المكونة لخالق الوجود(الله) ومايصدر عنه من تعاليم .
كان من سوء حظ البشرية إن تلك الآيديلوجيات نشأت في أمكنة متقاربة ، صحيح إنها لم تعتمد على مقدس متعال ، لكن الفكرة ذاتها إكتسبت قدسيتها بعد أن أصبحت منظومة جامدة على نصوصها في الشيوعية والقومية تحولت الأفكار في كلّ منها إلى آيديلوجيا كهنوتية من نوع جديد ، فكان إن تصادمتا درجة الانهيار ، لتبقى العلمانية/ الليبرالية بمرونتها وقدرتها على التكيف.
حاولت العلمانية أن تؤسس لفكرتها الكبرى ممثلة بالديمقراطية ، وقد حققت نجاحات في وضع يجعلها الفكرة المركزية ، لكن تلك الفكرة تواجه إنبعاثاً حادّاً للإصوليات القديمة المتجددة ( الإسلامية / المسيحية / اليهودية )و بما لهما من تفرعات وامتدادات .
الأصوليات ليست جميعها عنفية بالضرورة ، لكنها جميعاً قمعية ، بمعنى إن لم تستطع إستخدام اليد في تغيير الباطل (وهو الآخر المختلف ) ففي الإعلام والإثارة والحصار والتكفير والتحريض وسواها ، كما إنها وإن عايشت الحاضر ، لكنها تعيش في الماضي ، وتخطط للمستقبل بوحي من ماض واجب التقديس .
العنف الناتج عن الأصوليات ، يتحول إلى ظاهرة إجتماعية تُعدّ بمثابة تصريف لطاقة مختزنة ، أن الأرض تنفث من أماكن رخوة ، طاقتها الكامنة على شكل براكين وزلازل مخلفّة الدمار والكوارث ، لكنها مهمة في الوقت عينه للحفاظ على توازن الأرض ، وكلما اكتسبت الأرض طاقة أكبر ، كلما نفثت ( غضباً ) أكثر قد يصل في النهاية إلى (يوم قيامة ) أي انفجار كلّي ، ذلك ما تفعله المجتمعات في نقاطها الرخوة على شكل تعصبّ ديني ينتج عنفاً متفجراً قد يؤدي إلى تقليل خسائر الأرض بزيادة خسائر البشر، فالأصوليات إما أن تتبادل الإفناء فتخفف بمآله الضغط على الأرض، أو تتبادل العيش ، فتخفف كذلك من ضغطها المتأت بمعظمه من محاولات كلّ منها اكتساب المزيد من وسائل الدمار .
المؤسسات الدينية ستبقى هي المصدر الأساس للأصوليات ، وبهذا النوع ، قد تشكّل الديمقراطية ، الفكرة الأخيرة المتبقية أمام البشرية لتجنب المعركة الكبرى بين الأصوليتين وأنصارهما كما تذهب المقولات في كلا الجانبين ( معركة هرمجدّون ) عند المسيحية / اليهودية ، وحتمية إنتصار الإسلام بظهور المهدي أو إعادة إنبعاث دولة الخلافة أو ماشابه ، عند المسلمين .
في كلّ تلك ( التحضيرات) بقيت البوذية بمعزل نسبي عمّا يجري ، وبالتالي فقد تتهيأ لها الفرصة أن تتقدم لتكون الفكرة الكبرى البديلة التي تتبعها البشرية بعد كوارث التصادم بين الأصوليتين الكبريين ، وكما أبرزت الحرب الكونية الثانية ، قوّة جديدة تسلمت قيادة العالم ( أمريكا) ، تبدو إحتمالات التقدم متوافرة للقوّة المتنامية لمعاقل البوذية ( الصين – الهند – اليابان – كوريا – جنوب شرق آسيا ) ، إذا استطاعت الأصوليات الإسلامية صد ّ أو إستيعاب (هجوم ) الديمقراطية وراعيها الأمريكي/ الأطلسي، باعتبارها سلاحاً بيد الأصولية الأخرى ( الصليبية ) حسب تعبير بعض الإسلاميين ، خاصة مع محاولات كلّ من الأصوليتين – اليمين المسيحي في الغرب ،والحركات الإسلامية في الشرق – الإستيلاء على الديمقراطية لاستخدامها كسلاح في الصراع.
لكن الديمقراطية تتجدد بدورها ، وأهم جديدها ، إنها لم تعد عقداً قانونياً بين المواطن والدولة ، كما كانت عليه دولة الرفاه ، بل قد تصبح تعاقداً حرّاً بين مجتمعيات مستقلّة في بلد واحد ، ذلك لأن سعادة الشعوب لم تعد في حجمها ، بل في إنسجامها وقدرتها على التعاون.
الخلاصة : ان الأصوليات(الآيديلوجية ) تستند على نصّ مقدّس مصدره السماء ، فيما تستند الآيديلوجيات (الأصولية )على مقولات (مقدسة ) مصدرها الإنسان ، وهو مايقود الى الحديث عن الماركسية باعتبارها من أبرز الآيدلوجيات التي ظهرت في القرن العشرين
وتر كت تأثيراتها اللاحقة على الحركتين الفكرية والسياسة في العالم .
(1) تتكرر حالات التعاطف مع أصحاب الرسالات : الإمبراطور الروماني أدريان مع رسل المسيح ، النجاشي ملك الحبشة مع وفد المسلمين المهاجرين.
(2) للمزيد راجع : ( صراع الأمة والدولة في العراق – هابيل يبعث حيّاً- ص 152-) للمؤلف.