23 ديسمبر، 2024 12:46 ص

الأصل الآرامي لكلمة موسيقى

الأصل الآرامي لكلمة موسيقى

كلمة “موسيقى” من أشهر الكلمات التي تشترك جميع لغات العالم في إعتمادها لوصف فنون الصوت والسكون والنغمات التي تصدر عن المصدر. وفي البحث عن أصل هذه الكلمة ورد أن منشأها  إغريقي، جريا على أن العديد من المفردات العالمية الشائعة وخاصة الكلمات غير المعروفة المصدر التي تشترك لغات عديدة في إعتمادها يتم البحث عنها أولا في اللغة الإغريقية. وأمام كلمة “موسيقى” لا يوجد جذر أو إستخدام لهذه الكلمة بما يفيد المعنى أو ما يقاربه، بل شاع التصريح بأن هذا الإشتقاق من المصدر اليوناني إنما إنسحب من كلمة (ميوسا) بمعنى الملهمة. فالمثولوجيا الإغريقية اعتمدت تسعة (ميوسات) آلاهات ملهمات لكل أنواع الفنون والعلوم يتم التضرع لها طلبا للإلهام، ومنها (ميوسا) آلهة النغم والطرب.
وإعتماد الكلمة الإغريقية (ميوسا) تسمية للموسيقى يصطدم، برأينا، في حصر هذه التسمية على الموسيقى دون غيرها من الفنون والعلوم رغم أن كلا من هذه الفنون والعلوم هو (ميوسا) ومجموعها (ميوسات) أي آلهات لهذه الفنون والعلوم وملهمة لها.واللغة العربية تستخدم كلمة موسيقى أيضا دون وجود تأصيل لها، بل يُرى أنها كلمة معرّبة ولا ينفع أي جذر لغوي لها في “وسق” مثلا حيث يرد هذا الفعل بمعنى الجمع والضم ومن ذاك قوله تعالى “والليل وما وَسَق” الإنشاق/17. ولا استخدام في العربية لفعل (مسق) لكي ينظر في الإشتقاق منه.
وقد وجدنا أنه يرد في اللغة المندائية الآرامية أصل لهذه الكلمة في جذر الفعل الذي هو أساس الإشتقاق. فالمعروف أن عائلة جميع اللغات السامية تعتمد الفعل أصل إشتقاق للكلمات. والكلمات التي لا جذر لها ينظر في أنها أما أن تكون دخيلة أو متشكلة من فعلين في الأصل. والفعل ” زيق” في اللغة المندائية الآرامية يعني عصف، والإسم منه (زيقا) بمعنى: عاصفة، ريح، هواء شديد. والعامية العراقية تحتفظ باستخدام هذه الكلمة المسحوبة من لغة العراقيين القديمة في كلمة “زيك” بعد قلب القاف إلى كاف ثقيلة، والتي تعني العفط وهو الضرط بالشفتين. وما هذه العملية إلا ضغط الشفتين ودفع الهواء بشدة من خلالهما ليحدث الصوت. فالصوت الخارج هو الـ “زيك”. والعاصفة هي الريح الشديدة التي تحدث صوتا مدويا حينما تمر على الأذن، وهي التي تحرك الأشجار والموجودات حينما تصدم بها فينتج عنها مختلف الأصوات، منها الدوي والكثير منها شجي. وقد فطن الإنسان القديم إلى هذه الأصوات وقرن بينها وبين الريح والعواصف (زيقا) التي تسببها أما بصوتها أو بإرتطامها بالأجسام المختلفة وخاصة الأشجار والقصب والبردي في بيئة بلاد ما بين النهرين. وهكذا نرى أن تسمية الريح والعاصفة (زيقا) زحفت على الصوت فصار هذا الصوت الصادر عن الأجسام التي ترتطم بها العواصف على إختلافه هو الـ(زيقا) أيضا.
ومعهود في عائلة اللغات السامية إضافة حرف الميم قبل الفعل ليصبح اسم آلة كما في (برد: مِبرد، كتب: مَكتب، غزل: مِغزل..) وبإضافة حرف الميم أمام كلمة (زيقا) تصبح الكلمة اسم آلة (مزيقا). وكلمة (مزيقا) بلفظها هي المعتمدة في العامية العراقية وخاصة في الجنوب العراقي كتعبير عن الأصوات المنغمة. ومعروف أن الناي من أقدم الأدوات الموسيقية التي ابتكرها الإنسان وتوصل إليها من خلال مشاهدته لما تحدثه الريح في القصب المعروف في بيئته منذ البداية. هكذا عمد إنسان ما بين النهرين إلى النفخ في  قصبة بسيطة مجوفة تقليدا لعملية نفخ الريح في القصب وما يخرج منها من أصوات ونغمات، فحصل على مبتغاه في أصوات ونغمات جميلة، طورها فصارت أشيع الآلات الموسيقية.
وقد إقترنت كلمة موسيقى في اللغة العربية بكلمة معزوفة وتجمع على معزوفات ، فيقال لمن يضرب  بالآلات أنه يعزف الموسيقى والعازف هو الموسيقي أو اللاعب بالأدوات الموسيقية، وتجمع على عازفون وعازفات، وفعل الكلمة (عزف). أما في اللغة الإنكليزية وسواها فالفعل المستخدم هو “يلعب موسيقى”. وفعل عزف يرد في اللغة العربية بمعنيين أحدهما الترك والإنصراف عن الشيء والزهد فيه، والآخر الصوت والدوي. ومما يرد في لسان العرب: وقد عَزَفَتِ الجنُّ تَعْزِفُ بالكسر عَزيفاً. وسحابٌ عزَّافٌ: يُسْمَعُ منه عَزيفُ الرعد، وهو دويُّه. والمَعازفُ: الملاهي. والعَازفُ: اللاعبُ بها والمُغَنِّي. وقد عَزَفَ عَزْفاً. وأيضا العزف ضرب من الطنابير، والمعازف هي المِلاعبُ التي يُضْرب بها، يقولون للواحد منها عَزْف، وعَزْفُ الدُّفِّ: صوتُه. وعَزْفُ الرِّياح: أَصواتها. وكان صوت الرياح في البادية يسمع ليلا كالطبل فقيل عنه توهما أنه عزف الجن!
فالعزف إذاً قد إقترن بالريح وما يصدر عنها وهو إرتباط بكلمة (زيقا) التي ترد آراميا بمعنى العاصفة والعصف هو الصوت الصادر عنها ويلاحظ التقارب بين كلمة عصف وعزف. هكذا نرى أن كلمة موسيقى العالمية هي من أصل لغة بلاد ما بين النهرين في آراميتها التي مازالت محفوظة بالمندائية والكلدانية والسريانية والآشورية وليست من أصل إغريقي، بل ربما أن الإغريق أخذوها ضمن ما أخذوا عن بلاد ما بين النهرين بعد أن قدم الإسكندر المقدوني.