في الأزمات المستعصية على الحل لعقود يشتد فيها اعادة انتاج خطاب الكراهية للمكونات الاجتماعية القائمة على أسس من الجغرو طائفية وأثنية, وهو خطاب انتجته السلطة السياسية على شكل اسقاط سايكولجي لأزمتها على الآخرين من المكونات الأثنية والدينية والمذهبية في محاولة بائسة منها لتصريف ازمتها وتحميل الآخرين جوهر فشلها في بناء دولة المواطنة التي تسموا خارج الأنتماءات الفرعية, وبالتالي حصر المكونات في دائرة ضيقة وتشديد الخناق عليها في محاولة لدرء خطر أي مطالبة للتسوية الاجتماعية العادلة والاعتراف بأن المجتمعات الانسانية والعراق منها حصرا ليس حكرا على مكون واحد إن كان قوميا أو دينيا او ثنيا ومذهبيا, وبالتالي فأن اللجوء الى تجزئة المجتمع الواحد الى اجزاء متنافرة, قومية ومذهبية وجغرافية هو جوهر الخطاب الرسمي المعلن منه والمخفي لأثارة العدواة والبغضاء بين المكونات المجتمعية.
وقد استخدم هذا الخطاب لعقود النظام الدكتاتوري المنهار في 2003 ومن ثم اعادة انتاجه من قبل نظام المحاصصة الطائفية والاثنية الذي أتى به الاحتلال الامريكي. وكلا الخطابين نتاج للفشل الذريع في بناء دولة المواطنة الآمنة التي تحتضن الجميع الى جانب الفشل في تأمين مستلزمات العيش الكريم. وللأسف الشديد يقوم ” اكاديمين ” و ” اساتذة ” جامعات لترويج هذا الخطاب عبر الاستخدام التعسفي والغبي لبعض الدراسات في علم الاجتماع ومحاولات توظيفها لأضفاء الشرعية في تكريس التجزئة الاجتماعية خدمة لمصالح ابقاء النظم القمعية والاثنوطائفية واعادة انتاج الازمات ورمي مسبباتها على طبيعة المجتمع لا على طبيعة النظام الذي انتجها.
ينتعش اليوم على خلفية الفشل والازمة العامة للبلاد استخدام مصطلح ” الشروكية ” ويتم تداوله في الاوساط الأمية وأشباه الأميين وتحميل ازمة العراق ومحنته وتعليقها برقبة ” الأشروكين ” دون معرفة دقيقية لهذا المفهوم والاستخدام ومن هم الأشروكين وكيف أتوا للعراق واندمجوا فيه بل وشكلوا جزء لا يستهان به من اجهزة النظام السابق القمعية, كقوى الأمن والمخابرات والأقبية السرية, كما يجري خلط جاهل وتعميم سفيه بأن الأشروك هم شيعة والشيعة هم الأشروك. الى جانب كون نعت الشروكية ليست اكتشافا سنيا أريد به وصم الشيعة.
وهذا ما يؤكده علي الوردي في كتابه ” دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” حيث يقول: ” ينبغي ان نذكر ان قبائل الفرات الاوسط تنظر الى قبائل دجلة القاطنة الى الشرق منها نظرة لاتخلوا من احتقار.. وهي تطلق عليها اسم “الشروقيين” نسبة الى الشروق اي الشرق”(ص. ١٦١) و” ان قبائل الفرات الاوسط تنظر الى المعدان مثل نظرتها االى الشروقيين” (ص. ١٦١).. وعلي الوردي يضيف بنظرة قِيَميّة شائعة في كتبه ولا تمت لعلم الاجتماع بصلة لمن يريد قراءة الوردي نقديا وليست نصوصا جاهزة انتقامية :” يبدو ان قبائل الفرات الاوسط لها بعض الحق في احتقار المعدان .. فالمعدان لم يستطيعوا ان يحافظوا على القيم البدوية” ويضيف مستشهداً بالكاتب البريطاني ثيسيغر ان “لهم سمعة واسعة باللصوصية” (ص. ١٦٢). وهنا رغم تفصيل الوردي بالفروقات بمعنى الشروك, فأنه يلغي تأثير تحسين ظروف الحياة وانعكاستها في خلق ظروف افضل للعيش عبر تأصيل تلك السلوكيات سيكوفطريا. ولا اريد الخوض في موجات الهجرة التي أتت لجنوب العراق والاهوار أسوة بكل ما تعرضت له المنطقة تاريخيا من مختلف الهجرات.
أنه خطاب كراهية أنتعش في ظروف انتكاسة و يمكن القول ان الكراهية خطاب ذو طاقة انفعالية سلبية تلغي مكانة العقل وقدرته على التحكم منطقيا في الاحداث التي تجري في البيئة القريبة او البعيدة, وهو خطاب رافض للآخر ويسقط كل السلبيات على المختلف ويدعي لنفسه كل الايجابيات وهو يدافع عن العنف الذي يمارسه ضد الآخر ويرفض كل محاولات الدفاع عن النفس من قبل الآخر. وللتفصيل سأضع التعريف الآتي لخطاب الكراهية من عدة مراجع:
كل ما يشتمل إساءة أو إهانة أو تحقيراً لشخص أو جماعة من منطلق انتمائه أو انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو بسبب اللون أو اللغة أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء الإقليمي أو الجغرافي أو المهنة أو المظهر أو الإعاقة هو خطاب كراهية ، وكل ما يشتمل تحريضاً أو قولبة لجماعة في إطار يثير التهكم والسخرية أو تقليلاً من قدر جماعة واتهاماً لها بالنقص والدونية وكذلك كل تبرير للعنف ضد جماعة ما وكل تعبير عن التميز والتفوق على الآخرين لأسبابٍ عرقية أو ما شابهها, وكل ما يشتمل معاداة للمهاجرين أو الأقليات أو تحريضاً على منعهم من الإقامة في مدن أو أقاليم بعينها وكل ما يشتمل اقتباسات وإحالات وإشارات فيها ازدراء أو تقبيح لجماعة عرقيّة أو جغرافيّة أو دينية، وكل تزييف أو تزوير أو تحريف للحقائق وكل استعارة أو تعبير مهين, وكل خطاب يفرق ولا يجمع, لا يصل بل يقطع هو خطاب كراهية.
ولعل ابرز ما يستخدم اليوم بين صراع مكونات المجتمع العراقي هو مفاهيم تأصل العنف في الشخصية العراقية دون غيرها, وازدواجيتها الأبدية في التعامل اليومي والسياسي, وفطرية العداوة بين العرب والكرد وبين الوسط والجنوب وبين مكونات الوسط والجنوب نفسه الغير قابلة للحل إلا عبر اجتثاث الآخر ونفيه والخلاص منه. ونظرا لتعقد الخلافات الأثنو قومية والجغرو طائفية عبر تاريخ الدولة العراقية ومنذ تأسيسها, وعدم العثور على الحلول الانسانية والناتجة اصلا من غياب البنية السياسية والاقتصادية الحاضنة للمكونات, أصبح من السهل التعميم واللجوء الى الدراسات التي تأصل المشكلة وتبتعد عن الحل. وهو بالتأكيد عجز فكري ومنهجي لفهم السلوك الانساني. السلوك الانساني في معظمه نتاج الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وأن التأصل النسبي فيه هو ناتج من تأصل الظروف التي انتجته تاريخيا وحاضرا.
وكما أن السلوك الفردي قابل للتعديل ويخضع للقياس والتجريب عبر التحكم في الظروف التي انتجته, فأن السلوك المجتمعي والمكوناتي هو الآخر قابل للتحكم فيه واعادة ضبطه وانتاجه أو تغيره عبر التحكم بمجمل الظروف التي تنتج مختلف انماط السلوك.
وعلى نسق الدراسات السيكولوجية التي تجري لدراسة الوحدات الانسانية المتماثلة بيولوجيا ولكنها تعيش في ظروف متباينة, والتي تؤكد ان حتى التوأم المتطابق والمتماثل عند عزلهما في ظروف مختلفة انتجت لنا سلوكيات وشخصيات متباينة, ولم يجمعها مشترك الا بعض الملامح العامة ذات الطابع الجسمي, وعلى نسق ذلك لو اخذنا توأم كردي أو غير توأم احدهما عاش في المناطق العربية وغير العربية, والآخر بقى في بيئته الأم, فعلى ماذا سنحصل من نتائج لاحقا, وبالمقابل لو فعلنا ذلك مع اطفال عرب وتركناهم يترعرعوا في بيئة كردية مثلا, عن ماذا سنحصل. نتائج ذلك هي التي تدفعنا للتدقيق بعوامل الاختلاف سواء على المستويات الفردية والاجتماعية.
ويشكل تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأسباب القوية في زرع الكراهية والمناطقية والعنف في البنية المجتمعية, فانتشار الفقر وتدني مستوى الحياة وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وخدمات عامة, وكذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والحضارية بين مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة منها, واستشراء الفساد بمختلف مظاهره الإدارية والمالية والأخلاقية, وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واستئثار الحكم وحاشيته بالثروة الوطنية, جميعها عوامل تأسس للكراهية والحقد والعنف بين مكونات المجتمع.
أن العنف والكراهية الناتجة من الأسباب المجتمعة و المذكورة أعلاه تفضي إلى اضطراب في منهجية التفكير النقدي البناء وقصور في الفكر الجدلي الذي تجسده حالة العجز في الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة, والعجز في الجمع بين المميزات والعيوب لمسألة ما سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية وسيطرة المستوى السطحي من التفكير الذي يشكل قناعا يخفي الحقيقة, وإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل, وطغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية والعودة إلى المستوى الخرافي, والى الحلول السحرية والغيبية, والى الإرهاب باعتباره واجبا ” مقدسا ” أو حلا قسريا للأزمة النفسية والسياسية.