23 ديسمبر، 2024 1:34 م

قبل سنتين بالضبط  آثرني  صديقي  سليم جواد  بأرساله جزءاً أحتوى على مئتين من الصفحات الكبيرة  من روايته الأولى ( ألأشباح والوهق) وكانت غير مطبوعة ، فأطلعت  حالاً على ماأرسله ، وكنا يومها ولانزال تجمعنا  ألفة  التلفون  الطويل والزيارات المتباعدة بين ولايتين في قارة كبيرة والتي   تشدنا اليه أي التلفون أحاديثنا التي  نتبادل  خلالها   كل مايمت للأدب والفن والثقافة والتاريخ  من  صلة ،  عرفت من خلالها أن سليماً  من أدق المتابعين  لعالم الرواية  ومايصدر  عنها  وله  أراء ممتعة  فيها    كأنما قيلت على لسان ناقد خطير  ، هذا أول هاجس  تبادر الى ذهني  وأنا  أمسك تلابيب  مفتتح الرواية ، التي لم تمسك بتلابيبي بادئ ذي بدء ، وأقصد الأفتتاحية فقط  ويبدو لي ان فاتحة الرواية   تشبه بدايات  المسلسل عندنا او  الفلم  ، حيث ينتظر  المشاهدون أياماً تمر بطيئة  حتى  تتبين لهم معالم  الشخصيات أو  أحداث المسلسل الذين يعيشون فيه  كلما تقدموا  في  حلقات  العرض  ، بعدها تراهم  يتلهفون على متابعة  حلقاته  واحدة أثر  واحدة  ، ذلك الأحساس الذي تملكني  وأنا   أطالع  بدايات رواية سليم   الطويلة  ، التي  لم تشدني   صفحاتها الأولى  ، ويمكن القول  أن  الصفحات الأستهلالية في عمل ما  هي  السر أو الوصفة السحرية التي  تجذب القارئ وتأسره الى  الأحداث وتدفعه الى متابعة  القراءة  ، أو تجعله  يلعن سنسفيل أجداد الكاتب الذي  أضاع  وقته سدى وقد أقتطعه  من مشاغل حياته او ملهياتها  ، وهكذا بعد أستغراقي في قراءة الصفحات المئة الأولى  ووقوفي أمامها طويلاً  أحسست أن الرواية  قد  بدأت تجذبني اليها  بقوة مغناطيس  فصرت أتابع بشغف نهاية الفصل الأول الذي لم يقتصر على موضوع واحد  وشغفني  مشهد هجوم  مجموعة السكارى  وثوريي الموائد المهمشين على  فرقة للجيش الشعبي  وأقتياد بعضهم  أسرى  عبر الليل نحو المقبرة  ، وهم  يتراقصون حولهم عراة وينشدون الأشعار   في مشهد يذكرنا برقصات النار في رواية( وليم كولدنغ ) أله الذباب ، دهشت عند قراءتي الأولى للفصل الذي أرسله فلم أبلغه رأيي  ولم أشجعه بل لم يطلب  نفسه الي ذلك  وكانت حجتي  عدم قراءة الرواية كاملة   ، كان سليم في كتابته لايترك شاردة او واردة في  سرده الا وتدخل فيها كنهج  أبتدعه في طرق الكتابة  وآثر  تبيينها في هامش صغير  أسفل الصفحة  أوضح فيه علاقة الكاتب بالحدث أو  طريقة كتابته  و رسم معالمه  أو  حتى تضمن أعتراضاته في  بعض الأحيان على   كاتب الرواية الأصلي وكأنه كان   مؤلفاً  ثانياً  لها أو  مناقشاً  ومقرراً او الصوت المضاد  لمؤلفها الحقيقي الذي  هو   سليم نفسه فهناك سارد هوميروسي مشاهد للأحداث أو شهرزادي خارج عنها   أوسارد يحكي قصته .حتى بلغت التعليقات والهوامش في بعض الصفحات كجزيرة مختلفة من النقد المحاكاتي  الملاحق للأحداث أكثر من السرد الروائي نفسه  كأنها كتابات مختلفة كتبت  في نسق تكويني مستقل وزمن آخر  ، وكأنما  ألحق  المؤلف  كتابه النقدي   حول روايته  مصحوباً  بالنص  الروائي في مشروعين متقاطعين  داخل الكتاب  ذاته  لكنها بقيت في حدود المعالجات السريعة وليست مقاربة  نقدية للنص أو ميزة تأملية ، رغم أنها تلفت الأنتباه الى أهميتها  وغرضها الحقيقي  الذي  أراده لها المؤلف ، كأنها الشروح المصاحبة لقصيدة الأرض الخراب او ألتفاتات فولكنر بعد سبعة عشر عاماً خلف روايته  المعقدة في نظر الناشرين ، لكنني  أزعم  أن شروحاً تشبه هذه قد قللت من تعزيز  قيمة الرواية جمالياً  وأحدثت فيها مايشبه  شرخ الحائط المسرحي  الرابع ، ولاأعتبرها أكتشافاً معززاً  في  التوصيل الروائي الذي أتبعه الكاتب أو مغايرة حداثوية في الأسلوب الكتابي وأن كانت في الوقت نفسه تحرراً من الأساليب الشكلية المعتادة  في طرق  الكتابة ،أو كما يسميها( جيرار جينيت ) عتبات النص وماحوله ،وأعتقد أنه قد وضع ألتباساً  بينه وبين قارئه الضمني  فلم يترك له مجالاً  وفق  حدود مساهمة المتلقي  في بنية النص ،  وفي رأيي أن القصة لاتتعلق الا  بنفسها وبذاتها  وليس بذات كاتبها فألغاء الوهمي  هنا  لم  يخدم  المسار الشكلي  الحكائي  للرواية ، وربما أراد المؤلف من خلالها أن يكون هو  الكاتب والمكتوب لروايته  .
بعد ذلك يجعل القارئ  يمضي  في  رحلة  لاتقود نهايتها الا الى أسهل الحلول طراً على  الكاتبين  فنرى أغلب الشخصيات أما أن تنتحر أو  في  طريقها أو  تفكر بالأنتحار  لأضفاء ميلودرامية على الأحداث حيث يبقى دائباً  في  أفناء الأجل أوفسخ وتشابك  عقود المحبة أو النكوص  لكل من  هب ودب من كائناته الروائية    ، كأنما نزلت عليهم  عقدة كاونتن في  الصخب والعنف، وكان من الممكن  أقتراح  حاضر أو أمكانية لمستقبل جديد  لصمود الشخصيات المأزومة والمهزومة  في نفس  الوقت لمواجهة خيباتها المستمرة  ،على الأقل أن تسعى من أجل  الأستمرار  في  حيواتها ، أو  مصاحبتها في  رحلة  بدائل أو حلول  عيش أخرى ، كما فعل معظم أفراد جيلنا بمواجهة العجز  وقصورهم المستمر  في  أستعادة  حرياتهم وكرامتهم أمام  سلطة غاشمة      ،وهذه الحالة تعطي فرصة للنقد فيما يخص بنية تشكيل الحدث الفني بمواجهة الكتابة وطريقة  السرد  ،وقد أعاب النقاد من قبل  على نجيب محفوظ تخلصه من عائلة عائشة في الثلاثية   بتهدم البيت  وموت أبنة خديجة  ووفاة  زينب  في  مسلسل من الموت المجاني في  روايته الكبيرة .
    وقد قصد الكاتب في سرده أتباع أقصر السبل  في صياغات الجملة وشاعريتها عبر أسلوبه الكتابي الأيحائي المتميز بصدقه وعفويته  ، وفق تدفق سردي وصفي  مقارب لتمثيل الأفكار ومشاعر اللاوعي ، بغير أبتعاد كبير عن آليات المنطق الأرسطوي  ، وان كان الكاتب لم يعط للعقدة مظهراً  حيوياً وضرورياً عبرهذا  الأسلوب السردي  التراكمي أو عملية السرد غير المحددة والتي  كان من الممكن  تشذيب زوائدها  في  أكثر السطور  للمساعدة  على  عدم  تشظي  التركيز القرائي  لدى المتلقي أو الناقد وأطالة الرواية الى هذا الحد غير المعهود  ،لاسيما لجوء الكاتب الى  خطاب شعري في نهايتها  أستعاض به  عن تكملة مشاهد الرواية ، التي لم تتسلسل فيها الأحداث بمستوى كرونولوجي  بل  بشكل  خطابي  محكي في ثلاثة فصول مستقلة وعبر ألحاقه  بكتابات  الشاعر في نهاية الكتاب ، فلم تعط هذه الوسيلة غايتها بوحدة الممائلة في الأسلوب اللفظي والأستعاري بل شكلت حائلاً  بين ان   تتماشى وحدة القراءة  مع أحداث الرواية ، ولم تسندها خيالياً  في خمسين صفحة ملحقة وقد أحتاجت مفاوزها  مقصاً  مثل عزرا باوند .
 والرواية ليست  تأريخية  لكن التأريخ فيها يتشكل  عبر مقومات النص  الداخلية ، فهي تجعلنا  نعيش عبر صفحاتها بأحباط وقنوط  أجواء ثمانينات القرن الماضي دون أن تشير  الى سنة بعينها ، وتحديداً جاءت وقائعها مكملة   الأيام الأخيرة من حرب الثمانين  وقد كتبها كاتبها بحماس شديد متعاملاً مع أبطالها بسوداوية مفجعة  ، مذكراً أيانا  بعهود صلم الأذان  وقطع الأيادي  والغيابات المتواصلة والعذابات  لكل طوائف المجتمع وتفكك البنية الأجتماعية  بين أفراد المجتمع الواحد والضياع والأستلاب الذي  عاشته مختلف الشرائح  . 
أخيراً  يقال أن الوهق هو طرف حبل أنشوطة الدواب ( معجم لاروس) وقيل أنه اللازورد ، يبدو ان الكاتب أراد به أدخال قارئه في مفارقة قاموسية ، نأت بها غرابة المفردة ووقعها عن جماليتها المقصودة ،
 ربما  سيستطيع سليم جواد أن يفرض نفسه بروايته هذه في جزئها الأول والأجزاء التي ستليها   كواحد من   كتاب الرواية العراقية الحاضرين   بلا أدعاء ، فهي تمثيل حقيقي لأدب  الفترة الجديدة في العراق  ومعالجتها   لأحداث زمن الحرب  وحقبتها المظلمة  وانعكاساتها على المجتمع العراقي  والبيئة والنفوس  ، لفترة  تحتاج الى  تغطيتها  بأكثر من عمل  أدبي ، لما أمتازت به من  سنوات نارية  وقهر وأستبداد وحرمان  عاشه المجتمع والفرد العراقي  وقسوة  حروب ضارية  خلفت ظلالها  على أحداث  لاحقة  وأزمان تالية  مازالت النفوس  تعاني  ويلاتها وتئن  من أوجاعها  وستبقى ذكرياتها  لأجيال قادمة أخرى  .

[email protected]