24 أبريل، 2024 8:39 ص
Search
Close this search box.

الأسس النظريّة للدولة المدنيّة بينتوما سهوبز و جون لوك

Facebook
Twitter
LinkedIn

«إن السلطة المدنيّة لا ينبغي لها أن تفرض عقائد الإيمان بواسطة القانون المرئي، سواء تعلق الأمر بالعقائد أو بأشكال عبادة الله ».
جون لوك : من كتاب ”رسالة التسامح”

عاشت مختلف القوى والتيّارات الفاعلة في المشهد السياسيّ ونشطاء باقي مكوّنات المجتمع المدني في تونس ودول الربيع العربي، ردها من الزمن،على وقع  تجاذبات أفضت إلى صراعات كانت تخبو حينا وتشتعل أحيانا، وأدّت إلى مزايدات دينيّة وسجالات حماسيّة، ساخنة وصاخبة حول مسالة التنصيص في الدستور القادم من عدمه على إعتماد الشريعة الإسلاميّة كمصدر أساسيّأولعلّه وحيد للتشريع. ولئن كانت هذه السجالات المحتدمة عنوانا بارزاللمناخ الديمقراطي الذي أصبحتتتّسم به الحياة السياسيّة لبلدان الربيع العربي، فإنّ ما يلاحظ في شأنها أنّها مثّلت في تونس حالة انقسام حاد في المجتمعواستقطابا ثنائيّا مابين حركة “النهضة” وما يدور في فلكها من أحزاب وجمعيّات ذات بعد ديني  تتبنّى رؤى تراوح بين الوسطيّة والتطرّف،وتنشغل بالماضي أكثر من اهتمامهابالحاضر أوالمستقبل، وبين بقيّة الأحزاب وخاصة منهاالأحزاب الوطنيّةالتقدّمية والحداثيّة والتحديثيّة،ذات البعداليساري وحتّىالوسطي والليبرالي، التي ترنو إلى المستقبل أكثر ممّا تلتفت إلى الماضي السحيق،بغثّه وسمينه، وانتصاراته وانكساراته، ونجاحاته وإخفاقاته،وحقيقته وأساطيره.
اللّافت في هذا السياقّ أن دول  الربيع الثوري العربي غدت ‘فريسة’ يتصارع عليها ‘الكواسر والجوارح’، والكلّ ينهش الوطن بما تيسّر له من “أنياب”،إن على مستوى الممارسة السياسيّة أوعلى مستوى الطروحات التي  تستأثربالإهتمام وتقترحها أطراف ذات خلفيّة دينيّة، مهوسة، غباءً أو انتهازيّةً، بالحلم بإمكانيّة”تأخير عقارب الساعة”، والعودة إلى”أمجاد” الخلافة التي   إستنفدت كل أغراضها وانتهت صلوحيتها وأصبحت من التاريخ الأليم، بعد فشل مدوّ في الحفاظ على وحدة الأمّة الإسلاميّة،بما جعلها فريسة سائغةللإستعمار.
من هذه الطروحات التي تنمّ عن لبس في المفاهيم أو إزدواجيّة في الخطاب أو مراهقة فكريّة وسياسيّة، طرح خيار الدولة المدنيّةبمرجعيّة دينيّة. وهو طرح لا يستقيم إصطلاحا باعتباره تشويها ومسخا للدولة المدنيّة بما هي مدنيّة تغاير نمط الدولة العسكريّة وتختلف جوهريّا مع الدولة الدينيّةالتيوقراطيّة،بل وتتمايز عنها من حيث هي دولة القانون والمؤسّسات والممارسة الديمقراطيّة والمساواة والعدالة والحقوق والحريّات لكلّ مواطنيها دون تمييز ودون تسييس للدّين،  للنأي به عن التدنيس،  ودون تديين للسياسة، لضمان إبعادها عن التقديس.
فنظام الدولة-خلافا لما يعتقد هؤلاء-إمّا أن يكون مدنيّ بقيادة مدنيين، أوعسكريّ بقيادة العسكر أو دينيّ بقيادة رجال الدّين. ولا يمكن أن يجمع صفتين في ذات الوقت فيكون مدنيّا ودينيّا او مدنيّا وعسكريّا في آن معا. وهو ما تطالب به بعض الأطراف المحسوبة على الإسلاميين أولعلّهمالإسلامويين، إن أردنا الالتزام بدقّة التعبير المناسب لتوصيفهم.
ولعلّنا نزيل بعضا من هذا اللّبس، بالرجوع إلى ما صاغه الوعي النقدي الغربي حول مفهوم الدولة كظاهرة اجتماعيّة تعود نشأتها الأولى إلى الحضارات القديمة.وذلك بآعتماد نظريّة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبزبآعتباره من أهم المفكّرين السياسيين في التّاريخ الإنساني،لا سيما وهوالمكرّس الحديث لتقليد العقد الاجتماعي المؤسّس لمدنيّة الدولة.إضافة إلىنظريّة جون لوك باعتبارهمن أشهر مؤسّسي الليبراليّةوآخرُ الفلاسفةِ المنظّرينَ للدولةِ المدنيَّةِ بمفهومها الأكثر إنتشارا-راهنا- إذا صرفنا النظر عن نظريّة المفكّر التنويري الفرنسي جون جاك روسو فيما يتعلّق بالعقد الاجتماعي.وقدأعتمد الفيلسوفان الأنجليزيانعلى فكرتين أساسيتين، هما الحالة الطبيعيّة والعقد الاجتماعي، لتوضيح آليات بلوغ الحكم المدني الديمقراطي المنشود.
فأمّا الفكرة الأّساسيّة الأولى، وهي الحالة الطبيعيّة،فهي عندهوبزلا تعدو أن تكون إلّا حالة يسودها الخوف بما تبثّمن رعب في قلوب الجميع،وما يميّزها منصراع الجميع ضد الجميع، لا بل ومن حالة حرب تستشري داخل المجتمع ما دام الإنسان عدوّاً لأخيه الإنسان، ولا يسعى إلّا لتحقيق مصلحته الخاصّة ومنفعته الشخصيّة.فيما هي عند جون لوك ، حالة سلام للجميع ومساواة بين الجميع.وبالتالي فالنّاس جميعالهم الحقّ في الملكيّة التي سعى لوك حثيثا إلى المحافظة عليها في سياق تشكيله للمجتمع المدني وفق ما جاء، إن في كتابه (بحث في الحكومة المدنيّة) أو في كتابه (رسالة في التسامح).
لقد ناضل جون لوك طويلا، لا فقط ضدّ التيوقراطيّة التي تزعمأنّ سلطة الملك إنّما هي سلطة مطلقة، وهي حقّ وتفويض إلهيّ ، بل وكذلك ضدّ الإنجليكانية التي تزعم أنّ سلطة الملك إنّما هي سلطة روحيّة بقدر ما هي زمنيّة/سياسيّة/دنيويّة.وبموجب ذلك فمن حقّ الملك أن يفرض على الشعب معتقداً أو شكلاًعباديّاًدون غيره.
وهنا تقفزإلى الأذهان الصفة المزدوجة للسلطة الحاكمة-بصرف النظر عن طبيعتها الملكيّة أو الجمهوريّة- بآعتبارها سلطة دينيّة وسلطة سياسيّة في ذات الوقت. ممّا يؤدي  بالضرورةإلى الحكم المطلق.ومعلوم أن السلطة المطلقة هي بتعبير “اللورد أكتون”، مفسدة مطلقة.
لتفادي هذه المفسدة المطلقة التي يفرزها الحكم الفردي الذي دعا إليه توماس هوبز من قبله، نشرجون لوك سنة 1690 أشهر مقالتين سياسيتين فى عصره في كتاب بعنوان “مقالتين عن الحكومة” (TwoTreatises on Government). وكان من ضمن الآراء التي وردت فيه، أنّ الوظيفة العليا للدولة إنّما هي حماية الثروة والحريّة.ونتيجة لذلك يصبح من واجب الشعب تغيير الحكومة القائمة أو تبديلها بأخرى، فيما إذا لمتحفظ حقوقه وحريّته. مما يعني أن جون لوك قد جعل القانون هو الذي يقرّ السلطة ، التي باتتمقيّدة بحكم الأغلبية ولم تعد مطلقة اليدين كما نظّر لها هوبز، ومن قبله أرسطو وأفلاطون الرافض للنظام الديمقراطي. علاوة على أنّ رأس الدولة، عند لوك، هو غير معني بمعتقدات رعاياه -مواطنيه بالمفهوم الحديث-طالما لم تتعارض على مستوىالممارسة مع أيّ من أهداف ًالمجتمع السياسيّ.
وهذا الطرح الديمقراطي لجون لوك يناقض جوهريّا ما نادى به توماس هوبزالذيأسّس للحكومة المطلقة القائمة على حكم فرد، أو مجموعة أفراد تتوفّرعلى حقوق مطلقة، وتلتزم بها الرعيّة/المواطنون، وجوبا.وليس للمواطنين الحق في تغييرها، بالمقاومة،إلّافيصورةماإذاأخفقالحاكمفيتوفيرالأمنلهم.وهناتبرزضرورةتوفّرقوّةالسلطةفينظريّة هوبز التييعتبرهاالمبرّرالوحيدلشرعيّةالحكم.ورغمنبلغايةتوماسهوبز من ذلك، حيث كان يرميإلى حماية الفرد،وتوفير الإطمئنان له و ضمان ملكيّته وحريّته، وحفظ أمنه وسلامته واستقرارالنظامفي ظلّ الدولة الرأسماليّة التي أسّس لها، وسط صراعات دينيّة وسياسيّة واقتصاديّة واضطرابات وتوتّر إجتماعي. إلاّ أنّ هذه الرؤية، رغم أنّ لها ما يبرّرها على أرض الواقع في حينه، فإنّهاتنصهر، بداهة رغم ذلك، في منطق و تمشّ لا يختلفان كثيرا عمّا دعا إليه ونصح به الفيلسوف الإيطالي ما كيافلّي، في كتابه الصادم”الأمير”، خدمة للملوك والأمراء، حتّى يطيلوا في مدّة حكمهم.
أمّا رؤية جون لوك التي جاءت للحدّ من السلطة المطلقة للحاكمفي اتّجاه منحهاتدريجيّا للشعبأو المواطن/ الإنسان، فإنّها تتّفق مع ما سيدعو إليه الفيلسوف الألمانينيتشة لاحقا في غير السياق السياسي بل في سياق فكري محض.وخلاصته أنّه “من أجل التسليم بسلطة الإنسان المطلقة فإنّه لابد من إزاحة الإله أو الحكم عليه بالموت”. ويجدرفهم الإله هنا، على انّه كل سلطة أقوى من الإنسان، ومن ضمنها الحكومة وخاصّة تلك التي تتوفّرعلى نفوذ مطلق بمواصفات توماسهوبز،ولا تختلف كثيرا عن الحكومة الدينيّة. وهي الحكومة التي إكتوت شعوب كثيرة-أغلبها عربيّة- بنارحكمها الشمولي السلطوي والقمعي الفاشي الذي يعتمد على الدوام الهراوة الغليظة وسلاسل السجون  بدل العصا و الجزرة، وذلك لعدائها التاريخي للديمقراطيّةبآعتبارها، نتاجا للحضارة الغربيّة. وانطلاقا من هذه الرؤية المزعومة، فإنّه لا يجوز إسقاط الديمقراطيّة كآليّة للحكم،على حضارتنا العربيّة الإسلاميّة،لتكون بديلاعن اعتماد الشورى والبيعة.وهو زعم خاطئ وواهمويتموقع خارج مسارالتاريخوصانعيه في كل زمان ومكان.
وأمّا الفكرة الاساسية الثانية وهي فكرةنظريّةالعقد الاجتماعي، التي حلّت محلّ نظريّة الحقّ الإلهي في العصور الوسطى،.فقد تبلورت وأكتست شكلها الحديث عند مفكري القرن السابع عشر والثامن عشر، وخاصة عند الثلاثي توماس هوبز ثم جون لوك وأخيرا جون جاك روسو. وخلاصتها أن الدولة قد أوجدها الإنسان ولم تنشأ إلّا كحتميّة لإرادة الأفراد التعاقديّة.ويبقى الإختلاف فيما بينهم منحصرا فحسب، في ماهيّة العقد الإجتماعي.
فهوعند توماس هوبز يترجم، في جوهره، عنالتعاقد بين الأفراد فيما بينهم وليس بين الأفراد والحاكم .بما يجعلهميفوّضونأمرهم نهائيّاً إلى سلطة مطلقة هي سلطة الحاكم. وبموجب ذلك يتنازلون عن أيّحقّ وأيّة حريّة قد تلحق ضرراً بالأمن العام.وهو مايعني في نهاية التحليل،أنّالحاكم غير مقيّد بأيّ التزام.وبفضل هذا العقد الإجتماعي ينتقل النّاس مباشرة من حياة الطبيعة التي هي حالة من الفوضى العارمة و العامة والحرب الشاملة التي يشنّها الكلّضدّ الكلّ، إلى الحياة المطمئنّةفي مجتمع سياسي، يخضع لسلطة عليا ويتّسم بالسلم والأمن والإستقرار. ويخضع فيه الدّين وجوباوبشكل تامإلى سلطان القانون وسلطة الحاكم وليس العكس.
اللّافت هنا أن نظريّة توماس هوبز قد  اختصرت المجتمع في الحاكم وتجاهلتحقوق الأفراد وجعلت كامل السلطة بيد فرد واحد.وهو مايتعارض مع فكر أرسطو الذي لا يؤمن بالحكم المطلق أيّاً كانت صفات الحاكم، ولا يثق به حتّى ولو كانت السلطة بيد حاكم فيلسوف كما يقول.حيث يرى أنّ القانون هو الضامن الوحيد لنظام الحكم الصالح.
أمّا مفهوم العقد الإجتماعي عند جون لوك، فهوإتفاق ثنائي،طرفاه الأفراد؛وقد تعاقدوا مع بعضهم البعض، من ناحية، و الحاكم الذي اتفقوا على أختياره طوعا،من ناحية ثانية. بما يعني التزام الحاكمبقيود تعاقديّة،وما يؤدّي بالنتيجة إلى تقييد سلطة الدولة حتّى لا تكون مطلقة. وذلك لضمان المحافظة على مصالح النّاس وحقوقهم وحرّياتهم؛عبرتطبيقالقانون،الذي يكون وثيق الصلة بالدولة وليس بالإيمان.ولذلك فقد أكّد لوك على وجوب الفصل بين السلطة الدينيّة والسلطة المدنيّة ، لحماية حقوق النّاس ممّن يسلّطون عليهم ظلما وقهرا باسم الدين.
لعلّي بهذه العجالة حولمسارمفهوم الدولة عند جهابذة الفكر السياسي، من أفلاطون إلى جون لوك، مرورا بالفيلسوف أرسطو والمفكّرالإجتماعي توماس هوبز،قد رفعت بعض اللّبس القائمفي ما يتعلّقبزعم مدنيّة الدولة بمرجعيّة دينيّةمن حيث هي صيغة هجينة، تتعارض مع الفكر السياسي والإجتماعي عموما، ولا سيما منه، الفكر السياسي الحديث.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب