كوارث اتفاقية أوسلو على الشعب العربي الفلسطيني، وقضيته، أكثر من أن تحصى، مثل الداء الذي استفحل بالجسم، فلم يعد المريض قادراً على التمييز بين الأعراض والنتائج، أو ملاحقة تدهور الحال وانتشار المرض. سلسله متوالية من الأخطاء والكوارث بدأت منذ اللحظة الأولى للمفاوضات حول الاتفاق. بعيد عن كل منطق وتفكير سليم أن تعترف بعدوك، بحقه في الوجود على أرضك، بأمنه وسلامته، في مقابل أن يعترف هو بإطار تمثيلي للشعب الفلسطيني ممثل لهذا الشعب في أي مفاوضات لاحقة، أي يوافق أنه سيفاوض هذا بدلاً من ذاك. ومن دون إدراك أي نتائج أو أهداف، وكأننا رضينا بحكم عدونا في اختيار من سيمثل الشعب الفلسطيني. هذا التمثيل الذي سبق وأن انتزعناه من العالم كله عبر فوهات البنادق والكفاح المسلح.
يضمن الاتفاق لإسرائيل كل ما تريد، من دون أن تقدم شيئاً سوى استمرار احتلالها، فقد توالت تنازلاتنا للالتزام بحصتنا المقيتة منه، من تعديل للميثاق الوطني، وهل يوجد شعب يعدل في تاريخه وآماله وأمانيه؟! إلى اتفاق باريس الاقتصادي، إلى التنسيق الأمني، إلى مفاوضاتٍ لا تنتهي، وتغوّل في الاستيطان ابتلع القدس، ويكاد يبتلع الضفة، وإطلاق يد العدو في الحرب ضد شعبنا في غزة، واعتقال المزيد من أبنائه في الضفة، والفصل الكامل ما بين الأرض المحتلة 1967 والشتات وإخوتنا الذين صمدوا على أرضهم منذ حرب 1948.
أغفل المفاوض الفلسطيني في أوسلو الأسرى في الاتفاق، كما أغفل نقاطاً أخرى عديدة. لا أعرف كيف لم يدرك أن الأسرى في سجون الاحتلال هم ثمرة النضال الفلسطيني الطويل وقادته الأوائل. في تاريخ كل الحروب، عندما يتم توقيع اتفاق سلام (ألم يقدم أوسلو لنا باعتباره اتفاق سلام حاز موقّعوه على جوائز نوبل) تنتهي معاناة الشعوب المتحاربة. وتعود الجيوش إلى ثكناتها، والأسرى إلى بيوتهم، إذ تنص اتفاقية جنيف الثالثة، في البند 118 منها، على الإفراج الفوري عن “أسرى الحرب، ويعودون إلى أوطانهم من دون إبطاء، بعد انتهاء الأعمال العدائية”. لكن، غيب اتفاق أوسلو، تماماً، أي مركز قانوني لوضع الأسرى في سجون الاحتلال.
“العدد الأكبر من الأسرى، بمن فيهم الذين أوقعوا خسائر عالية في صفوف العدو، تم إطلاق سراحهم فقط في عمليات التبادل مع أسرى إسرائيليين لدى المقاومة.
”
ولم يوافق الجانب الإسرائيلي، بعد ذلك، على اعتبار الأسرى أسرى حرب وصراع طويل، واستمر في اعتبارهم مجرمين ارتكبوا جرائم على الأرض الإسرائيلية أو تلك المتنازع عليها. وفي المفاوضات اللاحقة، أصبحت معايير إطلاق سراحهم في يد الحكومة الإسرائيلية التي رفعت شعار عدم إطلاق الأيدي الملطخة بالدم، أي استثناء أي أسير تسبب في قتل أو جرح أي إسرائيلي. وجرى استثناء كل الأسرى من عرب الداخل (1948) وسكان القدس. واستمر الاحتلال في وضع عقبات أمام إطلاق سراح الباقين، كاشتراط قضاء مدة محددة، أو العمر أو المرض. وعلى الرغم من توقيع اتفاقية في شرم الشيخ لاحقاً، في سنة 1999، نصت على إطلاق سراح جميع الأسرى الذين اعتقلوا قبل مايو/ أيار 1994، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث.
اشترطت السلطة الفلسطينية، قبل الدخول في المفاوضات الأخيرة، إطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو، والذين كان قد تبقى منهم 104 مئة وأربعة مناضلين داخل السجون. ولأن مبدأ التفاوض على هذه القضية ينطلق من مقدماتٍ خاطئةٍ، تقر، ضمناً، بأنهم يمضون أحكامهم في داخل السجون، ولا تطلب معاملتهم أسرى حرب، وافقت القيادة الفلسطينية على الدخول في المفاوضات، على أن يتم إطلاق سراحهم على أربع دفعات، ومن دون التطرق لأوضاع الآلاف من باقي الأسرى. وكالعادة، تحول إطلاق الدفعات أداة مساومة سياسية. وتم إدراج أبناء القدس والـ 48 في الدفعة الأخيرة، التي لم يتم إطلاق سراحها بعد توقف المفاوضات. والملاحظ أن العدد الأكبر من الأسرى، بمن فيهم الذين أوقعوا خسائر عالية في صفوف العدو، تم إطلاق سراحهم فقط في عمليات التبادل مع أسرى إسرائيليين لدى المقاومة، أما العملية السياسية فقد فشلت فشلاً ذريعاً في إنجاز صفقات ذات قيمة فعلية.
نحو مليون فلسطيني دخلوا سجون الاحتلال منذ 1967، استشهد مئتان، وبحسب إحصاء لنادي الأسير الفلسطيني، فإن عدد الأسرى، الآن، يتجاوز 7000، بينهم 32 نائباً من المجلس التشريعي. ودور الأسرى مشهود له في تاريخ النضال الفلسطيني، سواء في المهمات التي قاموا بها قبل أسرهم، أو في تحويلهم المعتقلات إلى نماذج ومدارس ثورية متقدمة، تساهم في شتى صنوف العمل الفلسطيني. ولعل الوثيقة السياسية الوحيدة التى حازت، وفي ظروف الانقسام، على إجماع فلسطيني، هي التي عرفت بوثيقة الأسرى في 2006.
ولن تحل قضية الأسرى في سجون الاحتلال إلا بإعادة الاعتبار إليهم كأسرى حرب، وليس كمعتقلين، واعتبار المعتقلين بعد “أوسلو” أيضا أسرى ومختطفين من مناطق السلطة الفلسطينية، والمطالبة بمعاملتهم أسرى حرب، وإطلاق سراحهم فوراً، وقبل الدخول في أي عملية سياسية، واعتبار قضيتهم رئيسية للشعب الفلسطيني بأسره، وفي كل المحافل والميادين. لماذا لا نعتبر اليوم، وبعد الفشل الذريع في السنوات الماضية، أن مفتاح الحديث في الموضوع الفلسطيني بيد مروان البرغوثي وأحمد سعادات وعباس السيد وزملائهم، وأن إعادة الاعتبار للأسرى وقضيتهم هي مدخل أي مبادرة، وأن حق شعبنا في أسر الجنود الصهاينة مقدس، ومدخل صحيح، وربما وحيد لتحرير أسرانا.