” الثورة قوة تاريخية وليست نتاجا واعيا أي إنها وعي بالحاجة إلى التغيير تدعمه طبقة… تؤلف أغلبية أعضاء المجتمع”[1]
يبدو أن البعض قد فهم السياسة في زمن الثورات على أنها المجال النظري الغريب الذي لا يحدث فيه أي شيء غير الصراعات الإيديولوجية من الهيمنة وإفتكاك المواقع والمناصب وأن تشكيلات جديدة تحركها مصالح حزبية محضة يفترض أن تأخذ المشعل مكان التشكيلات القديمة وتكرار واحد ووحيد للمجادلات العقيمة والنقاشات الفارغة من كل جدية وبناء والبعيدة كل البعد عن التدخل العملي لإنقاذ الموقف وتصحيح المسار. من هذا المنطلق يجدر بالسياسة الثورية أن تكون ممارسة جديدة تجمع أكثر مما تفرق وتهدم قلاع الفساد وتؤسس للصلاح وتغير موقع الخط الذي يفصل بين الأصدقاء والأعداء لتفسح المجال للطاقات الشابة من أجل أن تقرر مصيرها وتصنع مستقبلها وتقوم بإعادة نظر ومراجعة للمقلات القديمة.
ما تقتضيه التجربة التأسيسية الدستورية بالنسبة للجمهورية هو إعادة النظر في مفاهيم الأسرة والمجتمع والدولة وتجديد الصلات الروابط الممكنة بين هذه المكونات الثلاث وتمهيد الطريق نحو إعادة بناء كينونة الإنسان على نحو مخصوص وغير عدواني وإعادة اللحمة إلى الجماعة السياسية بطريقة غير شمولية.
لقد أصيبت الأسرة زمن الاستبداد بأمراض عديدة نتيجة القمع الاجتماعي وفقدان البوصلة السياسي والعمي الحضاري والانحطاط الأخلاقي والتوترات النفسية والحاجيات الاقتصادية المشطة ومجاراة العولمة الاستهلاكية ولعل أبرنها هو التفكك الداخلي وقابلية الانفصال وانطواء الأفراد على ذواتهم والبرود العاطفي وعقوق الوالدين وقلة الاحترام وارتفاع نسب الطلاق وصراع الأجيال والعنف المادي والإقصاء المتبادل والخلط في الأدوار بين الشريكين وتصاعد المشاعر الأنانية وتقلص الشعور بالواجب.
أما المجتمع فحدث ولا حرج فقد عادت العصبيات والنزاعات وتحول الاجتماع الإنساني إلى وضعية الحشد وضاعت آليات الضبط الموضوعي والتلاحم الذاتي وبدأت تتصاعد اللهجة القبلية والانتماءات الطائفية والمذهبية وصار الناس ينظرون إلى بعضهم البعض من زاوية القرابة والتشابه وينفرون عن المغاير والغريب والمختلف والنازح والمهاجر والدخيل والأجنبي ويغيبون الرابطة الوطنية المشترك باعتبارها العروة الوثقى التي ينضوي داخلها الجميع دون استثناء أو تمييز على أساس العرق واللغة والدين والثقافة والعادات والتقاليد وحتمية الرجوع إلى وحدة التاريخ والمصير المشترك.
في حين أن ما يسمى دولة لم يكن موجودا أصلا ولا يمكن التعليق عليه بمنطق النظام والجمهورية والمؤسسة الأولى التي يخول لها القانون الإشراف على تدبير الشأن العام وإنما ما كان قائما هو شكل معين من أشكال الحكم أحيانا تكون إمارة عشائرية وحينا آخر تصبح سلطنة قروسطية وفي بعض الأحيان تتحول إلى محتشد كبير يشرف عليه شخص واحد وبمساعدة فئة قليلة من المقربين ويعزل فيه الأفراد عن بعضهم البعض ولا يتحركون إلا بالإذن وتتغير فيه القوانين والقرارات حسب الأهواء وعند الطلب. ولا يحقق هذا النمط من الحكم وجود الإنسان وإنما يفرط في البؤس والفساد المادي والعطب الروحي.
هل العائلة تمثل البنية الاجتماعية في أكثر أطوارها مباشرة وطبيعية؟ وكيف يمكن أن تكون هي النواة الأولى في تشكل المجتمع؟ وهل المجتمع هو بطبعه مضاد للدولة أو مجتمع اللادولة كما يرى بيار كلاستر؟ ولماذا لم يجد الناس حلا للصراع بين المجتمع والدولة؟ وألا تأتي الدولة دائما من فوق ومن بعيد وتقدم نفسها على أنها في خدمة الأسرة والأفراد ولكنها تقهر المجتمع وتقمع الأفراد باسم إرساء النظام والسلم والأمن؟ وألا يجب من السياسة أن تشرع فوريا وبشكل متدرج في تجربة تنحية وتقليص الأخطاء؟
ماهو مقصود أن قوى إنتاج الثورة الكاملة وعناصرها المادية هي الشعب وليست الطبقة بالمعنى الكلاسيكي وأن الأفراد والأسرة والمجتمع هم الذين يشكلون الجماهير الثورية ويتمتعون بالفعالية الايجابية والتطوير العملي. والدليل على ذلك أنه “إذا كانت الطبقة هي البنية النهائية فإن القوة النهائية التي تقوم بالحث هي الفرد”[2]. كما أن النظام السياسي القائم هو العدو الأكبر لكل هذه المسيرة التاريخية والجهاز المعد سلفا من أجل المحافظة على السائد وخدمة مصالح الطبقة الماسكة بمقاليد الحكم.
لكن هل يجب زحزحة الدولة لاستكمال الثورة والإبقاء على الأسرة وعلى المجتمع في كنف الحرية؟ ألم تعاني الأسرة من التفكك؟ وألم يصب المجتمع داء التناحر؟ وألا يجب أن تمس الثورة كل من الأسرة والمجتمع إذا ما أردت إعادة تأسيس الدولة بالمعنى الشرعي؟ لكن ماهي الأسرة التي تبحث عنها الدولة الثورية؟ وماهو المجتمع الثوري الذي تنبثق منه الدولة الشرعية؟ وماهي الدولة التي تراعي كل هذا؟
يمكن القول أن الدولة هي تأليف جدلي وسيرورة تاريخية ينتقل بمقتضاها الاجتماع البشري من الأسرة إلى المجتمع المدني. وأن هذا الأخير لا يستطيع أن يستمر دون وجود دولة تنظمه وتضيف اليه السياسي. زد على أن الدولة بوصفها وجود عقلي فاعل في التاريخ لا تعامل البشر كجمهور وتتوسط بين الأفراد وتمنحهم موقعا في الحياة وتتحقق كفكرة فعلية في الواقع الاجتماعي وتعود إلى نفسها في الدستور وفي وعي المواطنين أنفسهم بها. لذلك “توجد الدولة على نحو مباشر في العرف والقانون وعلى نحو غير مباشر في الوعي الذاتي للفرد ومعرفته ونشاطه”[3] وهي “التحقق الفعلي للإرادة” والغاية التي تصل فيها “الحرية إلى حقها الأعلى وهي أسمى من الفرد ولذلك واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة”[4].
إن المجتمع الأهلي الواقع الموضوعي المستقل الذي يميز بالتنوع والتشتت ويظهر فيه الكلي متعينا في الأجزاء ويتشكل عن طريق امتداد سلمي للعائلات في الخارج وانصهار بين المجموعات وهو لا يتشكل نتيجة نفوذ حاكم مطلق وإنما هو العالم الظاهر من الحياة الأخلاقية ويرجع إلى تجمع إرادي بحدثه الارتباط في الحاجات وتبادل الإشباع المشترك ويعكس حكم الكلي المجرد على الجزء ويظل التعارض قائما بين الخاص والعام وينظر الفرد على انه مجرد خادم للدولة وأنها شيئا خارجيا عنه وأن أفراد المجتمع المدني يقيمون ذواتهم ويشبعونها عن طريق الآخرين ويسعون الى تحقيق مصالحهم.
هكذا يتكون المجتمع المدني من نظام الحاجات ومن ممارسة العدالة عن طريق القضاء قصد تحقيق الحرية وحماية الملكية بشكل فعلي ورعاية المصالح الجزئية وكأنها مصالح مشتركة بواسطة قوة الارغام والجزاء. هكذا يمثل المجتمع منتهى من كل الحياة الأخلاقية الموضوعية ويعتبر الفلك الذي تدور عليه نسق الحاجات والوقود الحيوي الذي يغذي جميع الهيئات ويشغل كل المؤسسات ويمد يد العون إلى الدولة، ولذلك يجب إذابة الأوهام بشان إسقاطات الإيديولوجية التي يتعرض لها من قبل الدولة وإعطائه كامل الحقوق والحريات دون تقسيط حتى يتحول إلى تأسيس ملموس للفعلي والى إمكانية ايجابية لقيام الدولة الثورية.
في نهاية التحليل تظهر العائلة بوصفها الرحم الأول الذي يترعرع فيه الإنسان ويكتسب كامل إنسانيته ويتزود به في مواجهة الأغيار في المجتمع والسياسة وتظل هي الملاذ من مخاطر البطش العنيف في ظل حكومات تمتلك الرقابة والتعذيب وبالتالي صيانة الأسرة معناه إعداد النواة الصلبة للمجتمع والقوقعة الأصلية بالنسبة للمواطن ويمكن أن يكون تدبير المنزل هو النموذج والفكرة الإجرائية لتدبير المجتمع.
إن التفكير الثوري في الأسرة في مرحلة ما بعد الشمولية لا يفضي إلى استعادة النموذج القديم بحذافيره ولا يعني التخلي عن الركائز الضرورية لتشكل هذه النواة الصلبة والمقاومة في المجتمع والتي تتمثل في مؤسسة الزواج وثروة الأسرة وطريقة حياة الأبناء وإنما تتطلب تغيير في بنية الملكية وطرق التربية ودور الأسرة في المجتمع وترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان داخلها بتفعيل الحوار والتسامح.
على هذا النحو يمثل الزواج ضربة البداية لتشكل الأسرة بصفة فعلية و”مصدر الزواج من الناحية الموضوعية يكمن في القبول الحر للشخصين ولاسيما موافقتهما على أن يجعلا من نفسيهما شخصا واحدا وعلى أن يتخلى كل منهما عن شخصيته الطبيعية والفردية ليتحد مع الآخر في شخصية واحدة”[5].
من المفروض أن تكون الأسرة شخصا واحدا في السراء والضراء وأن تقلل على قدر المستطاع من قابلية التفكك وتعزز فرص النجاح والإرتقاء لأبنائها من خلال التكاتف والتفاهم والتعاون على البر والتقوى وجعل الفضاء العائلي فرصة للتحرر والاستقلالية والشعور بالحب والاتحاد الروحي وتحمل المسؤولية وليس مجال الاغتراب والتبعية والوصاية والخضوع وتبادل مشاعر الكراهية والرغبة في السيطرة.
” إن الزواج لا يمكن أن يكون علاقة تعاقدية إذا نظرنا إلى أساسه الجوهري بل على العكس، فعلى الرغم من أن الزواج يبدأ بعقد فإنه بالضبط عقد يتخطى نقطة التعاقد”[6]. والقصد هنا هو أن أساس استمرارية الأسرة ليس وجود العقد القانوني المؤسس وإنما مشاعر المحبة الروحية ونظر الأفراد إلى أنفسهم على أنهم يشكلون كلا موحدا وقدرتهم الفعلية على توحيد إراداتهم ومصالحهم والوعي بأنهم شخص واحد.
والحق أنه” بالزواج تبرز إلى الوجود أسرة جديدة ذات وجود قائم بذاته ومستقل عن العشائر والبيوت التي خرج منها أعضاؤها”[7]، وبالتالي تكون الأسرة هي الخلية الأبرز في المجتمع التي لها أهلية شرعية وتكون ملكية الثروة مشتركة بين جميع الأفراد ويتمتع الأطفال بحق الإعالة والشريكين بواجب الإنفاق .
لا يتأسس الزواج على الدوافع الجنسية الغريزية بل على الحقوق الطبيعية وعلى العقلانية والحرية وإن الخاتمة الفعلية للزواج ليس تكوين العائلة وإنجاب الأطفال فقد بل استمرار المحبة والالتزام الأخلاقي وتمتين مشاعر الولاء والتوادد وتقليل فرص الانقسام والصراع مع النفس والتوجه نحو الكفاح والعمل. لكن لماذا تشترط الحياة الأخلاقية للجماعة الزواج الواحدي كأحد المبادئ المطلقة التي تقوم عليها؟ وكيف عمل الفكر اليساري الثوري على مراجعة هذا التصور فك نزعة القداسة عن العائلة؟ وماهي مشروعية تغيير نمط التأسيس للعائلة ومراجعة مقولة الزواج ؟ وألا ينعكس ذلك على نظرة المجتمع إلى نفسه وعلى طبيعة الدولة الثورية المزمع تأسيسها؟ وماذا يجب أن يدون بخصوص الأسرة في الدستور؟ وهل الميراث هو الآلية التي تتحول بها الملكة العامة للثروة إلى ملكية خاصة؟
المراجع:
بول ريكور، محاضرات في الايديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة أولى، 2001،
هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، طبعة أولى، القاهرة، 1997.
كاتب فلسفي
[1] بول ريكور، محاضرات في الايديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة أولى، 2001، ص . 157.
[2] بول ريكور، محاضرات في الايديولوجيا واليوتوبيا، ص .164.
[3] هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، طبعة أولى، القاهرة، 1997. ص.497.
[4] هيجل، أصول فلسفة الحق، ص.497.
[5] هيجل، أصول فلسفة الحق، ص. 408.
[6] هيجل، أصول فلسفة الحق، ص.410.
[7] هيجل، أصول فلسفة الحق، ص.417.