لإن تعترف البشريّة جمعاء، بأنّ مجموعة كتب الفيلسوف أرسطو الموسومة ب “الأورغانون”(Organon)، لها فضل الريادة في تعليم الإنسان التفكير العلمي، تأسيسا على ما يسمّيه أرسطو “القياس والبرهان” * (Le syllogisme et la démonstration) للوصول إلى الصواب و الإقتراب من الحقيقة النسبيّة، لا المطلقة – المجرّدة والثابتة- التي لا وجود لها على هذه الأرض. بما هي حقيقة جدليّة تباينت حولها الآراء. ولإن ضاعفت الإنسانية قاطبة، هذا الإعتراف المستحقّ بالمعلّم الأوّل و وفيلسوف المعرفة، عندما اعتبرت مصنّفاته حول “المنطق” و” البلاغة” و “اللغويات ” و”الجدل” و” الخطابة” وفنون “الشعر” و”المسرح” و”الموسيقى” من أهمّ المراجع، لا بل من المصادر الأساسيّة التي لا غنى عنها في هذه المجالات ذات الصلة بالإبداع، فيما هو فكري وثقافي عموما . وهي مجالات ذات مضامين عميقة لا تقتصر على تهذيب النفس وحسب، بل لها أثرها في بثّ الوعي في النّاس، و إيقاظ ذائقتهم الفنية لتوجيه إهتمامهم إلى التعبيرات الفنيّة الراقية على اختلاف أصنافها، بهدف تغيير نظرتهم إلى الحياة والعالم نحو نواحي الجمال فيهما وصرف النظر عمّا دونها. فإنّ الإنسانية تعترف كذلك، ولو بدرجة أقلّ، وتدين بالفضل أيضا لغير أرسطو في مجالات علميّة وفكريّة كثيرة كالفيزياء والطبّ والأدب والفلسفة ونحو ذلك من صنوف الإبداع والإبتكار والتفرّد والبروز، إن على المستوى العالمي أو الإقليمي أو المحلّي أو ما دون ذلك، بحكم طبيعة المجال، أحيانا، ومحدوديّة التحرّك في إطاره. وبديهي أنّ العبرة ليست في سعة الإنتشار الجغرافي والشهرة، بقدر ما هي في قوّة تأثير الأشخاص المؤثّرين -في أي مجال كان- على الآخرين من حولهم.
وفق هذا الإطار المفهومي ومحدّداته، يتنزّل حديثنا عن الراحل عن الوجود الأستاذ محمود القرامي باعتباره كان متعدّد المواهب والخَصَلات والمشاغل والنجاحات. لا بل ومتعدّد المهمّات التي تقلّدها باقتدار ونجاح ثمّ غادرها، تاركا وراءه في كلّ مرّة أطيب الأثر وأبلغه. تماما كما يفعل الكبار، حيث ما يحلّ بهم الترحال بين المهن والمهمّات .
ففي بداية ونهاية مسيرته المهنيّة، إشتغل الأستاذ محمود القرامي بالمحاماة، وخاصة منها ما يتعلّق بالمال والأعمال. فكان محام بليغ الخطاب، فصيح اللسان، قويّ الحجّة والبيان، مفوّه، يحرّك أوتار القلوب و تصل كلماته إلى الأعماق. و كان صوته -وهو “صوت الحقّ”- عاليّا ومدويّا، في مرافعاته الدفاعيّة المرتكزة على إستيفاء المستندات و الأدلّة، والحجج والبراهين الدّامغة التي يصعب على القضاة تفنيدها. فهي لا تقبل، في الأغلب الأعمّ، لا الطعن ولا حتّى الشكّ. وبذلك نجح الأستاذ القرامي في دفاعه المستميت عن المظلومين- حتّى ولو كانوا، عموما، من أصحاب المال والأعمال من البورجوازيتين الصغيرة والكبيرة، بما تمثّلانه من نخبة الرأسمالية. وهو ما جعله يحتلّ مكانة مرموقة ضمن الصفّ الأمامي في مجال المحاماة. بل إنّه دأب على النجاح في كل ميدان إقتحمه خلال أربع عشريّات من القرن الماضي، بدْءا من السبعينات، بل وقبل ذلك بسنوات قليلة. ومن المحاماة إستقطبه الميدان البنكي لينتقل بين عدّة بنوك، ولينتهي به المطاف لإدارة البنك التونسي الفرنسي. وهي الخطّة التي بوّأته، بالنظر إلى شخصيّته الكاريزماتيّة الجذّابة، وبما أجرى الله على لسانه من سحر الكلام وفكر راق مستنير، يشدّ إليه الإنتباه، في مداخلاته الخطابيّة الناريّة ذات الوقع على الحضور، والتأثير الحيني على من حوله في محيطه المهني، أن يكون الكاتب العام لجامعة للبنوك والمؤسّسات الماليّة التي تحوّلت اليوم إلى جمعيّة مهنيّة. بما أكسبه خبرة ومهارة في التواصل الجيّد مع منظوريه، مكّنتاه من فرض حضور دائم ومقبوليّة، ليس فقط في المشهد النقابي والبنكي وادارة الأعمال، بل وكذلك، وهو الأهمّ، في وسائل الإعلام التونسيّة المختلفة، لا سيّما في العهد البورقيبي الإستبدادي، الذي أهتمّ بتنمية مسقط رأس “الزعيم” على حساب باقي جهات البلاد. فضلا عن أنّه أدّى، لإهتزازات كثيرة وصدامات بين السلطة و المركزية النقابيّة، لعلّ أهمّها ما حدث في 26 جانفي 1978 وسمّي بالخميس الأسود. وكان أن سيق نتيجته مئات النقابيين إلى السجون ليتعرّضوا إلى التعذيب الشديد حتّى الموت أحيانا، كما حدث للقيادي النّقابي حسين الكوكي أحد منظوري الجامعة العامّة التي يرأسها أستاذنا محمود القرامي الذي كاد هو الآخر، أن يزجّ به في السجن، لولا علاقاته الجيّدة مع بعض الوجوه الفاعلة ضمن دائرة صنّاع القرار.
إثر هذه المحنة العصيبة، حوّل الأستاذ محمود القرامي وجهته إلى القطاع الإقتصادي فأشرف على إدارة عدّة شركات ذات نشاطات صناعية وخدماتية مختلفة منها النقل وصناعة السفن والقوارب الترفيهية وغيرها. وكان سعيه دائم لا ينقطع، لتطوير هذه الشركات وتحسين إنتاجها وإنتاجيتها لتكون أكثر إشعاعا في مجالاتها، خدمة للإقتصاد الوطني وللعاملين فيها في آن معا. وعلى إثر إحالته على التقاعد، عاد الأستاذ القرامي إلى مهنته الأصليّة، كما يعود الدرّ إلى معدنه، وبقي يباشر إلى سنّ متقدّمة، لا فقط كمحام، بل وكذلك كعضو بمجلس الهيئة الوطنيّة للمحامين.
لقد حظيت بشرف الالتقاء بالأستاذ محمود القرامي قبيل فترة الشباب، وكنت لم أزل مكبّلا بالأفكار الرجعيّة، التقليدية المحنّطة، التي تكلّس الفكر وتعطّله. وهي أفكار عفا عليها الزمن، إلّا أنّي كنت أعتقد بقوّة في صحّتها. فإذا بهذا الرجل يصحّح لي بعض المفاهيم حولها، لتكون لاحقا محلّ سجال ونقاش جادّ، وتتحوّل بالنهاية إلى موضع مساءلة وشكوك. واللّافت أن يحدث كلّ ذلك، قبل أن تتاح لي فرصة التعرّف إلى مدارس الفلسفة والفكر الإسلامي بفرقه وملله ونحله ومذاهبه وطوائفه العديدة و المتعدّدة. بما جعلني أبذل جهداً فكريّاً هائلاً لتجاوز الحيرة الناجمة عن وجاهة أطروحة كلّ مذهب في بعض أبعاده ومقارباته. وبداهة، قبل إطلاعي على الفلسفة الغربيّة، و منها على وجه الخصوص، ما أنتجه فلاسفة الإغريق و فلاسفة ألمانيا وفرنسا، و بدرجة أقلّ، فلاسفة بريطانيا. وبهذا ساهم، هذا الرجل بما له من تأثير، وبما لمست لديه، من رجاحة عقل و فكر راق مستنير بفكر فلاسفة الأنوار، في تشكيل بنيتي الفكريّة كإحدى أهمّ مقوّمات تكويني. حيث تزعزعت لديّ بعض الوثوقيّات القطعيّة الشائعة والمزعومة. وذلك قبل أن أمارس الشكّ بمفهومه الفلسفي، أسوة بالغزالي وديكارت ومن سبقهما إلى ذلك وأغفلته مناهج تدريس الفلسفة، بل و حتّى بعض كتب تاريخ الفكر الفلسفي، ألا وهو القديس أوغستان** (saint Augustinn) أحد أرباب المسيحيّة الكاثوليكيّة وأعظم آباء الكنيسة اللاتينية الأربعة، بل وأحد الركائز البارزة للأرثوذكسية. بما يعني أنّه أحد أكبر المؤثّرين على البشريّة جمعاء، كما كان الشأن بالنسبة لأرسطو، ولسقراط رغم أنّه لم يترك مطلقا آثارا مكتوبة. ومثلما كان أوغستان ، أوّل من تطرّق إلى الشكّ، كقاعدة للوصول إلى الحقيقة وزعزعة اليقينيّات الوهميّة التي كان الإعتقاد فيها بوثوقيّة شديدة على المستوى الكوني، فقد كان الأستاذ القرامي هو الآخر، أوّل من فعل ذلك بالنسبة لكاتب هذه الورقة العجلى، التي لا تعدو إلّا أن تكون مجرّد لمسة وفاء لروحه الطاهرة، و اعترافااً بجهده ودوره في المساهمة في تحفيز، كل من حوله، للانصراف إلى بناء المجتمع، كلّ من موقعه، مهما كانت ضآلة أهمّيته. وهو ما يجعلني أقرّ بعجزي عن إستيفاء، الحدّ الأدنى، من الخصال الحميدة التي كان يتحلّى بها أستاذنا الكبير محمود القرامي. فهي عديدة جدّا ومتعدّدة، و من العسير الاحاطة بها كليّة. ولكنّي حاولت أن استجمع ما بقي منها حاضرا في الذاكرة، ولم تمحه الأيّام، من مواقف ونضالات ومهمّات عديدة ومتعدّدة، قلّ وندر أن اجتمعت في شخص واحد. بما يعني، دون مبالغة، أنّ الأستاذ محمود القرامي، إنّما هو فرد بصيغة الجمع. بل هو “رجل بألف رجل” في محيطه المهني، وفي دائرة كلّ من حظي بمعرفته عن قرب. لذلك فسيظلّ فوق النسيان ولن ينتزع أثره من الوجدان، لدى كلّ من عايشوه ولمسوا جدّيته ونزعته الإنسانيّة، رغم تساميه في غير ما تكبّر ولا تعالي.
المهندس فتحي الحبّوبي
—————
مصادر وهوامش:
* القياس الأرسطي، لا علاقة له بالقياس عند الفقهاء.
** تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط/ يوسف كرم. نشر مؤسسة هنداوي للتعليم والنشر. الفصل الثاني، صفحة 25 وما بعدها.