23 ديسمبر، 2024 3:38 ص

الأسباب الحقيقية للعجز عن توفير احتياجات المواطنين من الكهرباء

الأسباب الحقيقية للعجز عن توفير احتياجات المواطنين من الكهرباء

في شهر تشرين الثاني من عام 2006, تم إطلاق الخطة الوطنية للكهرباء لعشرة سنوات قادمة بإشراف البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والبنك الدولي ومؤسسات طاقة عالمية , وهدفها إعادة بناء المنظومة الكهربائية بأسس إستراتيجية وليست ترقيعية وتم تطوير هذه الخطة وتوسيعها لتمتد إلى عام 2030 , واستنادا لهذه الخطة تم توقيع عقود مشاريع محطات إنتاج الطاقة الكهربائية بسعة 15 ألف ميكا واط اعتمادا على المحطات الغازية والغازية المركبة بدلا من المحطات البخارية بسبب شحة المياه في نهري دجلة والفرات , وتطلبت الخطة بناء مشاريع لإنشاء 70 محطة تحويل لشبكات الضغط العالي والفائق وإنشاء 120 محطة لتوزيع الطاقة الكهربائية وإنشاء ثلاث مراكز للسيطرة بتكنولوجيا متقدمة وثلاث مراكز تدريب متخصصة وحديثة لتهيئة كادر وطني مؤهل لتشغيل وصيانة المنظومة الكهربائية الوطنية .

وكانت هذه الخطة التي وضعها الدكتور كريم وحيد الوزير الأسبق للكهرباء كفيلة بمعالجة مشكلات الكهرباء بشكل جذري , وتعد الخطة الثانية للعراق حيث تمت صياغتها بعد مرور 30 سنة على الخطة الأولى التي بدأت سنة 1976 , وتم استعراض تفاصيلها في مجلس الوزراء كما تم عرضها في مجلس النواب في شهر شباط 2007 إذ تمت المصادقة عليها والمباشرة في تنفيذها , وتطلبت هذه الخطة توفير تخصيصات بمقدار 27 مليار دولار منها 18 مليار دولار للأربع سنوات الأولى 2006-2010موزعة على قطاعات الإنتاج والنقل والتوزيع والسيطرة والتدريب , وتم التنسيق مع وزارة النفط بإعداد الخطة الوقودية اللازمة لتجهيز أنواع الوقود لمشاريع إنتاج الطاقة الكهربائية بما يضمن استمرار التشغيل بدون توقفات .

وعلى ضوء خطة وزارة النفط في إنشاء البني التحتية بتوفير الغاز إلى مشاريع محطات إنتاج الطاقة في عام 2014 , تم إعداد التصاميم لمواقع مشاريع المحطات وحسب ما يتوفر من أنواع الوقود المجهز من وزارة النفط لكل موقع وتنصيبها من قبل شركات عالمية متخصصة بتنصيب عقد مشروع شركة GE البالغة 56 وحدة بسعة 125 ميكا واط لكل وحدة وعقد مشروع شركة سيمنز بسعة 165 ميكا واط لكل وحدة لتعمل جميعا على كافة أنواع الوقود ( نفط خام , وقود ثقيل , غاز , زيت الغاز ) , ولتوفر الغاز في حقل الرميلة وكركوك تم تخصيص ست وحدات كبيرة بسعة 270 ميكا واط لكل وحدة من سيمنز تعمل على الغاز وحسب تحديد وزارة النفط لتنصيبها في هذين الموقعين , ولأهمية تامين تشغيل المحطات بإتاحة وكفاءة عاليتين على الغاز الطبيعي قدمت وزارة الكهرباء عدة مقترحات في سنة 2007 بإستثمار حقول المنصورية والسيبة وعكاز الغازية لصالح وزارة الكهرباء .

وكان من المفترض بهذه الخطة أن تحل مشكلات الكهرباء جذريا وبما يضمن توفير الكهرباء للمواطنين وبدون انقطاع , ولكن الصعوبات التي واجهت تنفيذها حالت دون ذلك وتتلخص بثلاثة أسباب هي التمويل والوقود والاستثمار , فلم تستلم وزارة الكهرباء سوى 6,9 مليار دولار من اصل ( 18) مليار دولار للأربع سنوات الأولى بالرغم من توقيع العقود وفتح اعتماداتها بمبالغ محددة حسب حجم المشروع وكلفته , ففي سنة 2009 تم تقليص الموازنة الاستثمارية بشكل كبير مما اضطر للدخول في ماراثون طويل لتوفير بدائل التمويل من خلال إصدار سندات الخزينة المركزية وطلبات اقتراض محلي وتمويل خارجي استغرقت عاما كاملا بين مجلس النواب والمؤسسة المالية , وانعكس على ذلك إعادة جدولة توزيع المحطات , وفسر البعض بان وزارة الكهرباء قد أنفقت مبالغ فلكية , وقد بلغت المبالغ المصروفة فعلا ضمن الخطة الاستثمارية من 2003 ولغاية 31/12/2012 والمثبتة لدى وزارة التخطيط 17 مليار دولار نصفها خصص لمشاريع إنتاج الطاقة لقدرات إنتاج بمقدار 15 ألف ميكا واط والنصف الآخر لمشاريع نقل وتوزيع الطاقة , ويشكل معظم ما يتم التداول بشأنه حول تضخم مصروفات الكهرباء إلى التخصيص التشغيلي في الموازنة من الرواتب والأجور لأعداد غفيرة من الموظفين إضافة إلى نفقات استيراد الوقود الخفيف (الكاز أويل) ولاستيراد المضافات لتحسين نوعية الوقود الثقيل .

إن وزارة النفط رغم أنها عملت جنبا إلى جنب خطط الكهرباء , إلا أنها ركزت في إستراتيجيتها على تطوير قطاع استخراج النفط الخام وزيادة إنتاجه لغرض الوصول إلى أعلى طاقات متاحة من خلال جولات التراخيص الثلاث الأولى وعقود المشاركة في الاستكشاف والتطوير في الجولة الرابعة , باعتبار إن مبيعات النفط هو المصدر الأساسي لإيرادات الموازنة الاتحادية , إلا أنها لم تولي نفس الاهتمام على صناعة المشتقات النفطية مما أثر على توفير احتياجات الكهرباء لتشغيل المحطات , مما أضطر وزارة الكهرباء بإجراء تحوير لمنظومات الوقود للمحطات الغازية لتعمل على الوقود الثقيل الذي كلف مبالغ استثمارية ومبالغ تشغيلية إضافية لاستيراد مضافات كيماوية لمعالجته وتحسين كفاءة التشغيل .

وانعكس ذلك على ارتفاع الكلف النوعية للمحطات الغازية الجديدة لغرض تشغيلها على كافة أنواع الوقود , ولعدم توفر الغاز الكافي للتشغيل فإن الكهرباء تستورد بحدود 3-4 مليون لتر من الكاز أويل يوميا وهذا يخسر البلد بما يعادل 4 مليارات دولار سنويا , وكان من الممكن الاستثمار في المكامن الغازية التي يبلغ الاحتياطي الموثوق فيها 110 مليار قدم مكعب والتي من الممكن أن تنتج 1500 مليون قدم مكعب يوميا لأنها كافية لإنتاج 5 آلاف ميكا واط كما يمكن استخدام الغاز المصاحب الذي يحرق بكميات تصل إلى 1000 مليون قدم مكعب يوميا والذي يكافأ إنتاج 3300 ميكا واط يوميا , وقد باشرت وزارة النفط بعقد اتفاقية مع إيران لاستيراد الغاز لتجهيز محطتي الصدر والمنصورية ومحطات أخرى ولكن مد الأنابيب يتعرض إلى هجمات إرهابية تستهدف العاملين مما أخر تنفيذ هذا المشروع .

وفي مجال الاستثمار فان وزارة الكهرباء قدمت خطتها في النشاط الاستثماري منذ سنة 2009 , إذ توصلت الوزارة مع اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء إلى النموذج الاستثماري الملائم والضمانات لشراء الكهرباء المنتج من قبل المستثمر وتم اختيار أربعة مواقع , ولكن معظم المستثمرين امتنعوا من المشاركة بسبب عدم توفر الغاز وارتفاع تكاليف الاستيراد , رغم إن هذه التجربة نجحت في إقليم كردستان لأنهم لم يعتمدوا السياسة الاستثمارية اعتمادا على قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2009 المعدل , وبموجب تجربة كردستان فان المحطات الغازية فيها تنتج 750 ميكا واط في السليمانية و500 ميكا واط في أربيل وهناك محطة قيد الافتتاح في دهوك , وهذه الطاقات تجهز المواطنين بحدود 20- 22 ساعة يوميا في الصيف .

وبضوء ما تقدم , تتوضح الأسباب الحقيقية لعدم قدرة وزارة الكهرباء في توفير خدماتها الكاملة للمواطنين فالطاقات الإنتاجية الحالية وصلت إلى 15 ألف ميكا واط وسيصل الإنتاج إلى 16 ألف في الأيام القادمة , وهي طاقات جرى بنائها وتنميتها تنفيذا للخطة الوطنية التي ابتدأت منذ 2006 , وإذا لم تعالج المشكلات التي تحول دون التشغيل الأقصى للطاقات الإنتاجية فان المعاناة ستبقى على حالها سيما وان البنى التحتية لتوفير الغاز من المخطط انجازها سنة 2016 بدلا من 2014 , ولعل هناك من يرمي باللوم على اعتماد المحطات الغازية ويعدونه خطئا فظيعا , ولكن ذلك لم يصبح هو السبب بعد تحوير تلك المحطات وتشغيلها على أنواع الوقود سيما بان اعتماد المحطات لم يكون قرارا فرديا وإنما خضع للعديد من المناقشات وحظي بالموافقات , والحلول تكمن في تسهيل توفير الوقود الملائم للمحطات واستيراد الغاز وتوفير المبالغ الكافية للتشغيل والاستثمار وإعادة النظر بقانون الاستثمار لكي يكون جاذبا للمستثمرين في مجال إنتاج الطاقة , نظرا لتنامي الطلب على الكهرباء بمعدلات غير معهودة عالميا لاتتناسب مع التنامي في الطاقات , ودون ذلك ستستمر التظاهرات والاحتجاجات على نقص الكهرباء التي تعبر عن الحاجة ولكنها ليست الوسيلة الناجعة للحلول .