19 ديسمبر، 2024 12:56 ص

الأساس الاجتماعي والثقافي للممارسة الديمقراطية

الأساس الاجتماعي والثقافي للممارسة الديمقراطية

بدأت أغلب أوساط مجتمعنا العراقي بعد 9 / نيسان تتحدث عن الديمقراطية وعن ضرورتها كأساس فعال لحل المشكلات السياسية التي تمور في مجتمع يبدأ انعطافة حاسمة جديدة في حياته . والمعروف أن مجتمع مثل مجتمعنا العراقي مازال يعيش طور العقود الأولى من الثورة الصناعية وطور مجتمع الطبقة المغلقة في الريف وعهد التخلف التجاري ، فمن الصعب قيام تلك العلائق الاجتماعية التي تمليها عملية التطور الاقتصادي والتطور التجاري المؤدي لازدهار الرأسمالية الوطنية كما في المجتمعات المتقدمة . وبعبارة أخرى من الصعب بروز تلك العلائق الاجتماعية التي تنشأ في ظرف تاريخي محدد مهيئة المناخ اللازم لقيام ديمقراطية على غرار الديمقراطيات الغربية . وعليه فأن أي مجتمع يدشن مرحلة مابعد التخلص من الدكتاتورية الشمولية يجابه مشاكل عويصة خارجية وداخلية تفرضها عملية التغيير الآخذة في النمو . ولكي تنجح عملية التغيير والتطوير هذه يجب مواجهة الواقع وتفهمه بالكثير من الجرأة وعدم طمس الحقائق والصعاب في محاولة لإيجاد الحلول السليمة … ومحاولة إيجاد هذه الحلول عملية يقوم بها المجتمع كله بالتعاون مع السلطة الوطنية .
 وترافق عملية التغيير من اجل بناء المجتمع الجديد ، جهود تبذل من قبل بعض الفئات للحيلولة دون بروز هذا المجتمع … وفي غمار عملية الصراع هذه تبرز مفاهيم متضادة متصارعة عما يجب أن يكون عليه هذا المجتمع أو ما لاينبغي أن يكون عليه . كما أن تفاوت المواقع الاجتماعية والثقافية والمصالح الحياتية يشكل حلقات متشابكة معقدة تتطلب القيام بعمل شاق ومثابر من اجل التغلب على العقبات العديدة في سبيل تغيير بنية المجتمع وخلق الإنسان الجديد الذي سيقوم هو بالطبع بعملية التغيير … وبعبارة أخرى ، الوصول بالفرد إلى مرحلة من التطور يمارس فيها مستوى الوعي والمعارف العلمية وثقافة التفكير والسلوك … مؤثرات فعالة لتحريك المجتمع في طريق التطور . وبدون تطوير الإنسان نفسه من جميع النواحي والوصول به إلى مستوى رفيع من الثقافة والتعليم والوعي الاجتماعي والنضج الداخلي والشعور العالي بالمسؤولية ، لا يمكن بل يستحيل بناء المجتمع الجديد .
 وبما أن القيم والتقاليد ونمط الحياة كلها أشياء تعيش داخل الفرد ، فالتغيير يبدأ بمجابهة الموروث الثقافي الحاصل . وكذلك نفض الغبار عن الثوري والتقدمي فيها ونبذ الرجعي والمتخلف الذي ينسج أوهاماً تكبل الفكر وتسد إمامه منافذ التقدم. وباختصار ، خلق الإنسان الذي سيعرف ماذا يريد بالضبط … هل يريد الحرية ؟ هل يريد الديمقراطية ؟ هل يستطيع التعامل مع آراء الآخرين ؟ هل يستطيع احترام الرأي الآخر ؟ هل يستطيع أن يصمد أمام وجهات النظر الأخرى في موضوعية علمية متعاوناً معها في سبيل الأفضل ؟
 إذن ، فبوجود مثل ذلك الفرد في مجتمع وصل مستوى رفيعاً من الثقافة والنشاط الإيديولوجي المتعدد الجوانب والعمل الفكري والتربوي الهادف ، نكون قد أسهمنا أسهاماً كبيراً في خلق الأساس الاجتماعي للممارسة الديمقراطية .
 فالحديث عن الديمقراطية لاينفصل عن الحديث عن الثقافة الشاملة الواعية، لأنه لايمكن إسقاط أثر الفكر والثقافة عاملاً حياً ومؤثراً في عملية التطوير الديمقراطي للمجتمع . ولأن العنصر متغير ومتدخل ومؤثر ، فأن ما يبدو في نظر البعض فرصة مثلاً وإغراء لايكون كذلك في نظر الآخرين . وبعبارة أخرى فالثقافة العامة الشاملة تعني امتلاك الوعي بالواقع المعاش وبالتأثيرات المتعددة التي تتقاذفه والوضع الاجتماعي والسياسي العام .. تعني امتلاك الوعي بالخريطة السياسية للعالم والتي نمثل فيها جزء لايتجزأ من مسار النزاعات والصراعات الإيديولوجية التي تمور فيه .. تعني امتلاك الوعي بإمكانياتنا الذاتية الحقيقية وحجم المشاكل والصعاب وقدراتنا على العمل في سبيل تذليلها .. تعني امتلاك الوعي بالخارطة السياسية في بلدنا والقدرة على اكتساب الخبرة واستخلاص التجارب والعبر والدروس .. لأن القيم وقوانين السلوك يعزوها المرء إلى الأفكار السائدة على نطاق واسع والمتوارثة ، وهي ليست متماثلة كلية عند تماثل الظروف لأن رد الفعل عند الأفراد مبني على مختلف الاحتياجات والتطلعات وغير ذلك من الأفكار المستحدثة من الماضي . وباختصار نرى أن نشر الثقافة وفتح النوافذ وتبادل الأفكار وممارسة التنافس الصحي والتدريب على احترام آراء الآخرين ومختلف وجهات نظرهم سيعمل بلا شك على خلق وعي متجانس نوعاً لإمكانية ممارسة الديمقراطية السياسية التي تبدو مستحيلة بدون وجود الديمقراطية الاجتماعية . وتبقى الديمقراطية سراباً إذا لم يحدث التغيير الاجتماعي اللازم .
والديمقراطية ليست لفظاً أجوفاً أو حقاً نحلله لأنفسنا ونحرمه على الآخرين، كما إنها ليست احتكاراً متطرفاً للعمل السياسي .. لكنها إتاحة الفرص المتكافئة في الظروف الملائمة من اجل التنافس الصحي الأخلاقي الشريف .. إنها ممارسة بعيدة عن التهور العاطفي وعن المواقف الجدية التي تتخذ لأتفه الأسباب . وتختلف مفاهيم الديمقراطية من مجتمع لآخر ، مفهومها في إنكلترا غيره في فرنسا، ومفهومها في فرنسا غيره في ألمانيا وغيره في أمريكا أو في الديمقراطيات الشرقية أو الآسيوية … وكل هذه المفاهيم تليها مرحلة التطور الاجتماعي في الظرف التاريخي المعين ، وفي اختلاف المفهوم الاقتصادي للحرية ومعايير التقدم… وفي مجتمعنا العراقي ستظل الديمقراطية صورية وسراباً إذا لم يحدث التغيير الاجتماعي اللازم . كما أن ممارسة أحزابنا السياسية المختلفة للديمقراطية سيكون شيئاً جزئياً لا أساس له في أعماق المجتمع .
 أما الصراع سيدور دائماً حول الديمقراطية طالما أن المجتمع في تغير مستمر ، كما أن القوى المنتجة ومختلف فئات الشعب العامل تستخدمها ، في الوقت الذي تستخدمه فيها الطبقات والفئات الحاكمة . والكل يستخدمها للدفاع عن مصالح فئوية أو طبقية أو اقتصادية أو سياسية …
 إن الديمقراطية بمعناها الغربي إنما تعبر عن موقف اجتماعي معين جاءت إلينا مع سيل الأفكار والثقافات . وقبولها بشكلها الغربي سيكون غريباً جداً في مجتمع غير صناعي وغير رأسمالي متطور ، حيث لم تتحدد بعد الخطوط الواضحة فيه بين الطبقات الاجتماعية وعدم وضوح المصالح الطبقية والاقتصادية لمختلف الفئات المتصارعة . وأنها أن طبقت ستكون ديمقراطية أحادية الجانب تمثلها وتمارسها فئات انتمت في فترة النضال السياسي إلى تيارات مختلفة ولكنها لاتعبر في الواقع تعبيراً واقعياً ملموساً عن مصالح هذه الطبقة أو تلك . فأزمة الديمقراطية في مجتمعنا العراقي نشأت من كونها بدأت من قمة الهرم ، أي إنها بدأت ديمقراطية سياسية وليست اجتماعية ، آخذة بعض سمات الديمقراطية الغربية بصرف النظر عن الظروف التاريخية والاجتماعية في هذا البلد أو ذاك . فالمعلوم أن الديمقراطية الغربية ازدهرت في مواكبتها لازدهار الرأسمالية وانفصال المصالح وتضاربها . وفي مجتمعات مختلفة كانت مستعمرة تابعة يصعب ازدهار الرأسمالية لتصل إلى مرحلة تصدير رؤوس الأموال وبالتالي فمن العسير استخدام نفس الأسلوب .
 وقبل أن نتحدث عن الديمقراطية والدخول في مناقشات عقيمة … علينا أن ننظر إلى واقعنا بجرأة وبصدق وألا نتحدث عن أي نظام سياسي قائم أو محتمل دونما الوعي تماماً بأساسه الاجتماعي . فالأفكار السياسية وهي تنبع من الواقع عليها كذلك تغيير الواقع أو يغيرها الواقع … ووجود الديمقراطية يعني إنها يجب أن تنبع من الواقع وان تعمل على تغييره في نفس الوقت ، فالعلاقات المتبادلة بينهما معقدة متشابكة …
 وعلينا أن نتساءل :- ماذا نريد بالديمقراطية ؟ وماذا تعني لنا ؟ أن الديمقراطية تعني حرية الفكر ، حرية الإبداع ، حرية الرأي ، حرية الإطلاع على إخبار العالم المحيط بنا … أن الديمقراطية تعني غياب الرقابة الغبية ووجود الرقابة الواعية المسؤولة . إن الديمقراطية تعني تربية المجتمع على ممارسة الحرية الملتزمة في حياته اليومية ، والوعي بها وعلى احترام حرية الآخرين في أبداء الرأي ، ولا وجود لهذه الحريات جميعاً بدون حرية المواطن التي ترتبط بها هذه الحرية . ويجرنا الحديث عن حرية المواطن إلى الحديث عن الصحة النفسية للمواطن البعيد عن عمليات الترهيب والتخويف المبهمة وغير المدروسة وخارج نطاق القانون وفوق الدستور وفوق كل القيم . إن الديمقراطية تعني الوعي بجميع الإخطار التي تتحدى أمن البلاد ، ويأتي ذلك بتربية المواطن على الوعي بمحيطه وبالمخاطر المحدقة بالبلاد وتجريده من الخوف الدائم الذي يلازمه على حياته وأسرته وعلى أمنه ومستقبله ، لأن مثل هذا المواطن هو الذي سيعرف متى وكيف سيمارس حقه الديمقراطي ، متى وكيف سيمارس حريته .. فهو من يسمح بأن يتسرب إلى التنظيمات الشعبية من لايمثله ، كما انه سيعمل على الحد من احتراف ممارسة القيادة لمثل تلك التنظيمات .
 إن الديمقراطية تعني تخفيف الرقابة المتزمتة والإعلامية على الصحف والمجلات والكتب ، وعلى انتقال الأفكار وسيل تدفق الأخبار ، وتعني بالتالي حرية البحث العلمي والفكري والقيام بالدراسات الإنسانية والتي تشكل الوجه الحضاري الحقيقي للدولة …
 والحديث عن الديمقراطية يجرنا قصداً إلى الحديث عن الأعلام غير المدروس الذي يمكن أن يحاصر المواطن ويكبل تفكيره ويشل إبداعاته ويحتل عواطفه متحولاً إلى أداة دعائية تعمل على إفساد الذوق العام ، كما تعمل على إحداث انكماش خطير في المناخ الثقافي ومؤسسات المجتمع المدني .. والتي بدونها جميعاً تستحيل تهيئة المواطن الواعي ، الإنسان الجديد عماد المستقبل ومصدر قوة الدولة وعنوان تقدمها .
[email protected]