23 ديسمبر، 2024 3:54 م

الأزمة الوجودية لليسار الفرنسي ومعضلة إعادة البناء

الأزمة الوجودية لليسار الفرنسي ومعضلة إعادة البناء

أزمة اليسار العميقة وخاصة اليسار الاشتراكي الديمقراطي تنتج ليس عن عدم وجود بنى أو هياكل، بل عن عدم القدرة على التوفيق بين الليبرالية وكلفة سياسة الرعاية الاجتماعية.

أسفرت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عن نهاية الاستقطاب الثنائي التقليدي بين اليمين تحت قيادة حزب الجمهوريين، واليسار الذي يتمحور حول الحزب الاشتراكي. ونظرا لأهمية باريس في ميدان حرب الأفكار والنظريات، يدلل الانهيار الانتخابي لبونوا هامون- مرشح الاشتراكيين- على أزمة عميقة ليس عند اليسار الفرنسي فحسب، بل عند مجمل اليسار الأوروبي والعالمي الذي فقد قدرته على التأثير والجذب وتقديم البديل عن رأسمالية أقصى ليبرالية وعن أفكار ماركسية أو اشتراكية ديمقراطية لم تتأقلم مع العولمة ولا تتفاعل مع مرحلة تصدع هذه العولمة وتبعاتها.

إذا جمعنا أصوات اليمينية القومية مارين لوبن واليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون نصل إلى أربعين بالمئة من الجسم الانتخابي الفرنسي، وهذا بحد ذاته مقلق ويدق جرس الإنذار بخصوص أزمة بنيوية في المجتمع، وإشارة إلى الانكفاء نحو شعارات السيادة والهوية الخاصة، وتراجع عن منظومة القيم المؤسسة للجمهورية والآتية من فكر التنوير.

وبالرغم من المعركة الصعبة حول الحجم والنفوذ ما بين حزب اليمين التقليدي “الجمهوريين”، وحزب “الجبهة الوطنية” يمكن للحزب الذي دافع عن ألوانه السيء الحظ فرنسوا فيون، يمكن له أن يستعيد وضعه تدريجيا من خلال تغيير في قيادته وبعض أطروحاته.

في المقابل تبدو الأزمة أعقد بكثير بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الذي قاد اليسار منذ أربعـة عقود وأوصله إلى السلطـة مع فرنسوا ميتران في مايو 1981. مع عدم وصول هامون إلى إحراز سبعة بالمئة من أصوات الناخبين عاد هذا الحزب إلى موقعه في نهاية الخمسينات من القرن الماضي لما كان محدود النفوذ بالقياس مع الحزب الشيوعي الفرنسي.

بالطبع لا يبرر التراجع برنامج هامون اليساري المتشدد والبيئي، ولا حصاد فرنسوا هولاند في الإليزيه، ولا طمـوحات رئيس الـوزراء السابق إيمانويل فالس، بل هناك بالإضافة إلى هذه العوامل تراجع عام لليسار الحاكم والمعتدل أمام يسار جديد أقرب إلى أقصى اليسار مع خطاب سيادي مرتبط بالبعد الطبقي ويمثله في فرنسا ميلنشون التروتسكي في بداياته، والذي لم يحقق طموحاته في الحزب الاشتراكي إذ أن عضويته في مجلس الشيوخ كانت أقصى مراتبه، وهكذا انتقل ليؤسس حزبا سماه “حزب اليسار” قبل سعيه إلى بناء تجمع أسماه “فرنسا الأبية” وضع فيه الحزب الشيوعي تحت جناحه وتمكن عبر هذه المناورة وتفاقم المشكلة الاجتماعية من انتزاع 19 بالمئة من أصوات الفرنسيين.

يتعين في عصر الثورة الرقمية التفتيش عن أجوبة يستنبطها جيل الإنترنت ولا يمتلكها حنين أوصياء يتبعون وصفات القرنين السالفين

وتبرز أزمة اليسار الفرنسي الحائر والمفتت مع موقف جان لوك ميلنشون (الخطيب المفوّه، الطموح جدا والمحلق عاليا في سماء الديماغوجية والذي يشبه نفسه بمتشدد الثورة الفرنسية ماكسميليان روبسبيير وليس بخطيبها الكونت دي ميرابو) الملتبس والذي لم يصدق عدم تأهله للدورة الثانية ورفض حتى الآن إعطاء توصية بالتصويت ضد مرشحة اليمين المتطرف. أما الحزب الاشتراكي فسرعان ما اصطف خلف إيمانويل ماكرون كي يتم قطع الطريق على لوبان وليؤمّن بالتالي وجود مجموعته في البرلمان كونه ماكينة سياسية متجذّرة لها مصالحها ومنتخبوها.

هذه المناورات لا تعفي اليسار الفرنسي من التفكير مليا في أزمته وتموضعه. ومن دون شك إذا حصل الزلزال ووصلت لوبان سيسهل ذلك مهمة ميلانشون في الحفاظ على غلبته. وبدوره سيشهد الحزب الاشتراكي في مطلق الأحوال معركة تصفية حسابـات بين فريق هـولاند ومجمـوعة هامون والمتحلّقين حول فالس وغيرهم من الأقطاب مع خشية التصدع وذهـاب هامون مع الخضر لتأسيس حزب يساري وبيئي جديد.

فيما يتعدى الساحة الفرنسية، بعد البريكست وتهديد الفكرة الأوروبية، وبعد وصول دونالد ترامب وصعود التطرّف وخطاب القطيعة وفِي مواجهة أزمة العولمة، يمكن أن يتحقق المثل القائل “رب ضارة نافعة” وربما يتيح تضافر هذه المظاهر السلبية خلق فرصة لنشأة يسار متجدد أو جديد.

يراود الأمل بعض المفكرين الفرنسيين أن يؤدي صعود أقصى اليمين وأقصى اليسار (وقبل ذلك فوز ترامب) إلى يقظة عند اليسار ليفكر وينبعث من جديد، لكن العودة إلى نفس النمط من الردود الأيديولوجية لا تبدو قادرة على الإحاطة بإشكاليات حقبة العودة إلى الهويات القومية ودون الوطنية وصعود البعد الديني في الصراعات. ومن هنا يتوجب التنبّه إلى أهمية التسامح بين الثقافات للخروج من مأزق الانعزال أو الصراع الحتمي.

يصل الأمر عند بعض المنظّرين إلى طرح قيام أممية جديدة للوقوف في وجه تغول الرأسمـالية الشمولية أو حيال تصدع العولمة. لكن أزمة اليسار العميقة وخاصة اليسار الاشتراكي الديمقراطي تنتج ليس عن عدم وجود بنى أو هياكل، بل عن عدم القدرة على التوفيق بين الليبرالية وكلفة سياسة الرعاية الاجتماعية. وهذا الفشل في بلورة نموذج تتماشى فيه الحرية والعدالة، استفحل في حقبة الشمولية وبدا اليسار فيها من دون بوصلة ومن دون منظومة قيم تخصه وبإمكانه تطويرها، وكان الأدهى في هذا المسـار استفادة الشعبويين والعبثيين من نقد العولمة وتحطيمها. وما تجربة البرازيل تحت قيادة لولا دا سيلفا وديلما روسيف أو تجربـة فنزويلا مع هوغو شافيز (المثل الأعلى لميلنشون) إلا أمثلـة صارخة على فشل نماذج سلطوية بثياب يسارية وتقدمية.

من هنا يفترض إطلاق دينامكية خلاقة في انبعاث مختلف لليسار أو للاشتراكية ذات الوجه الإنساني. يبرز من الاختبار الفـرنسي وغيره مـن التجـارب أننـا في مرحلة مخاض فكـري مفتـوح الأفـق، وإذا كـان مرفوضا الانحدار نحو الهويات “الهدامة” أو “القاتلة” للاحتماء من تداعيات الشمولية على الإنسان والاقتصاد والبيئة، يظهر أن الرهان على تكوّن سريع ليسار جديد فيه قدر كبير من الطوباوية، بينما يتعين في عصر الثورة الرقمية التفتيش عن أجوبة يستنبطها جيل الإنترنت ولا يمتلكها حنين أوصياء يتبعون وصفات القرنين السالفين.
نقلا عن العرب