لكي نستطيع أن نفهم لماذا تفجرت الأزمة الروسية الأوكرانية، لابد من العودة إلى تاريخ العلاقات الدولية والصراعات المستدامة في هذه العلاقات، سيما أن التحليل السياسي لهذه العلاقات يطغي عليه الموقع الجغرافي الذي كان ومازال هو سبب الصراع بين شعوب العالم. ولو نراجع التاريخ، أي بالعودة إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر سنرى تغييرات كبيرة على خارطة التحالفات الأوروبية بصورة خاصة، وتحديدا بعد اندلاع الثورة الفرنسية، ولا ننسى بأن خارطة أوروبا الحالية أنتجتها الحرب العالمية الثانية وفقا لمعادلة موازين القوى، وهذه المعادلة فقدت كل مقوماتها وتأثيرها الدولي، بيد أن ثقل موازين الدول يقاس بمقدار قوتها العسكريّة والاقتصادية. وإذا ما استطعنا معرفة أسباب الحوادث نتمكن حينها التنبؤ ليس فقط بما سيحدث في المستقبل بل نستطيع التحكم في الظاهرة أيضا.
في تشخيص الأزمة المفتعلة بين روسيا وأوكرانيا، بلا شك هناك ردود أفعال دولية حولها، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، الصين، الحلف الأطلنطي. حالة توتر، أو صراع، أو تناطح قوى. عليه هناك درجة من التفاعلات الدولية تبدو خطيرة على السلم والأمن الدوليين وعلى مسار العالم ككل. لاسيما أن هذه الأزمة لها انعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط. وربما سيشهد العالم فصلا دراماتيكيّا ساخنا، يتمثل في تحولات كبيرة على سبيل المثال لا الحصر، الصراع بين الصين وتايوان، أما الاتحاد الأوربي فلن يكون بعيدا عن هذه التحولات، ولن يبقى متماسكا مع تأثيرات ما يحدث على ساحة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أيضا، ولا يتوقع بقاء الاتحاد الأوربي لأكثر من عشر سنوات.
ما طبيعة الأزمة؟
كما ذكرنا آنفا هي أزمة مفتعلة امتداد لما يسمى (بالثورات الملونة) والثورات الملونة هي الثورة التي تحاول تغيير النظم التابعة للاتحاد السوفيتي السابق لتكون تلك النظم أقرب إلى الغرب، إضافة إلى تحجيم روسيا وتحرير كل فضاءها ونفوذها، وتقليص النفوذ الروسي ضمن روسيا الاتحادية فقط.
1. الموقف الروسي:
الرئيس الروسي بوتين قال بالنص لرئيس الاتحاد الأوروبي قبل سنوات” لو ترغب روسيا أن تحتل أوكرانيا لأخذتها خلال ساعة”. ولعل الفارق شاسع بين الدولتين من حيث المساحة والقدرات العسكرية، مساحة روسيا 17 مليون كيلو متر مربع، بينما أوكرانيا مساحتها 600 ألف كيلو متر مربع. في الجانب الأخر هناك روابط بينهما، حيث أن مدينة كييف عاصمة أوكرانيا كانت عاصمة روسيا سابقا. في السياق ذاته فإن الكنيسة الأرثدوكسية الأوكرانية كانت تابعة للكنيسة الأرثدوكسية الروسية ولكنها انفصلت عنها مؤخرا في ظل التوتر مع الروس.
أسباب التحرك الروسي اتجاه أوكرانيا:
أولا. الرئيس الروسي بوتين صرح لعدة مرات أن روسيا ترفض وبشدة انضمام أوكرانيا لحلف النيتو، لأنه يمثل تهديدا للأمن القومي الروسي، وستحرم الروس من الخيارات الاستراتيجية، مع العرض أن موضوع انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي ليس مطروحا في الوقت الحالي. أما لماذا روسيا لم تنزعج عندما انضمت بولندا ولاتفيا وغيرها إلى الاتحاد الأوروبي، فهذه المسألة تعود للحظة التاريخية في حينها.
ثانيا. مدينة الدونباس شرق أوكرانيا يتمركز فيها الروس، ووفقا للدستور الروسي، تكون روسيا ملزمة بحماية الروس خارج أراضيها. وبالتالي فإن الحشود الروسية جاءت ردا على الحشود العسكرية الأوكرانية عند حدود الدونباس، فهناك ما يزيد عن 120000 من الجيش الأوكراني، وأيضا هناك عمليات نقل مستمرة للقوات المسلحة الأوكرانية قد تصل في غضون الأيام القادمة إلى 150000، وكل المؤشرات تؤكد على أن أوكرانيا تريد إخضاع مدينة دونيستك إليها. من هنا جاءت الحشود الروسية لمواجهة الجيش الأوكراني فيما إذا تحرك الأخير نحو الدونباس.
ثالثا. الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فجاء التدخل الروسي في أوكرانيا لمحاولة روسيا في إعادة رسم النظام العالمي. وربما الصين أيضا تدخل على خطة الأزمة في هذه اللحظة التاريخية لتعمل مع روسيا في صياغة نظام عالمي جديد.
رابعا. يرى الروس في حالة انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي، سيشكل تهديدا كبيرا وخطرا غير مسبوق عليها، حيث سيتيح للولايات المتحدة الأمريكية إمكانية نشر صواريخ نووية تصل إلى روسيا خلال خمسة دقائق، بمعنى أن الضربة النووية الاستباقية ستكون أمريكية ومنع الروس من إمكانية الرد. كما أن روسيا تطالب الولايات المتحدة الأمريكية بوقف نشر للصواريخ المتوسطة المدى عند شرق أوروبا والتي تصل مداها ما بين 500-5000 كلم، وهذا يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي.
خامسا. استكمالا للفقرة رابعا، أن رد فعل روسيا فيما يتعلق بقضية نشر صواريخ أمريكية في شرق أوروبا، يُعيد في أذهان الروس (أزمة الصواريخ) في عام 1962، في أعقاب عدة عمليات فاشلة للولايات المتحدة لإسقاط النظام الكوبي وغزو خليج الخنازير، حيث شرعت بنشر صواريخ في بريطانيا وفي إيطاليا وتركيا، أصبح بهذا لدى أمريكا المقدرة على ضرب موسكو بأكثر من 100 صاروخ ذي رأس نووي.
وتأسيا لما تقدم فإن روسيا لن تقوم بغزو أوكرانيا لكن أمريكا والغرب يصورون للعالم هذه الحالة.
1. الموقف الأمريكي:
لو عدنا إلى فترة حكم الرئيس ترمب للولايات المتحدة الأمريكية، نلحظ أنه لم يكن هناك حديثا كثيرا عن الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث هدأت هذه الأزمة بشكل كبير، وعاودت مجموعة نورماندي للاجتماع. ومجموعة نورماندي عبارة عن هيئة مباحثات تضم أربع دول، هي ألمانيا وروسيا وأوكرانيا وفرنسا تعمل هذه الهيئة في محاولة لإنهاء الحرب في الدونباس. لكن هناك في العقلية الأمريكية والأوروبية، أن روسيا قامت بغزو جزيرة القرم واستولت عليها، فما الذي يمنع إلا تقوم بمثل هذا الفعل مرة أخرى في أوكرانيا.
السؤال: ما هو شأن الولايات المتحدة الأمريكية في المخاطرة بالجنود والعتاد والأموال في الدفاع عن هذه الدولة الصغيرة والبعيدة عنها آلاف الأميال، وليس هناك علاقات أو اتفاقات تلزم الإدارة الأمريكية بذلك، في الوقت نفسه أن أوكرانيا ليست عضوا في حلف النيتو، بالرغم من أن سبعين بالمئة من الأمريكيين لا يعرفون أين تقع أوكرانيا. بالتالي لا يوجد أي التزام قانوني لأمريكا أو الدول الأوروبية للدفاع عن أوكرانيا؟
الجواب:
أولا. أمريكا تلتزم بسياسة الباب المفتوح وقبول انضمام أي دولة إلى حلف النيتو، ومن حق أي دولة الانضمام إلى هذا الكيان الدفاعي، والدفاع عن أعضائه الثلاثين، حيث تنص المادة الخامسة للحلف، في حالة إذا تعرضت أي دولة عضو لاعتداء خارجي يتعين على بقية الأعضاء الدفاع عن هذه الدولة. إذن في حالة انضمام أوكرانيا إلى هذا الكيان الدفاعي سيقيد أي محاولات روسية للتدخل في أو كرانيا كما حصل في عام 2014 في شبه جزيرة اقرم.
ثانيا. قامت إدارة بايدن والبنتاغون بحشد قوات أمريكية دفاعية في بولندا وألمانيا ودول أخرى، إضافة إلى رفع مستوى التأهب وإرسال 3000 جندي أمريكي مع تأهب 3000 آخرين، باعتبار أن احتمالية التدخل الروسي لغزو أوكرانيا هو تهديد قائم ووشيك وقريب، ربما خلال أسبوعين أو نهاية الشهر القادم من وجهة نظر الأمريكان.
ثالثا. الولايات المتحدة الأمريكية تحاول أن تروج عن قوتها وقدرتها في مساعدتها للأوروبيين.
رابعا. إرسال رسائل إلى كوريا الشمالية والصين وإيران، لاسيما أن هذه الدول تراقب الموقف عن كثب، كما أن الصين تحاول الاستيلاء على جزيرة تايوان.
خامسا. هناك اخفاقات لإدارة بايدن في ملفي السياسة الداخلية والخارجية، فيما يخص الملف الداخلي، مازالت إدارة بايدن عاجزة أمام الانهيار الاقتصادي المستمر، وكذلك فشلها في مواجهة جائحة كورونا وانتشار الوباء بشكل كبير جدا. بالنسبة لملف السياسة الخارجية فالعجز واضح في تعامل البيت الأبيض مع الملف النووي الإيراني، وكذلك في مسألة الإرهاب وعدم القضاء على تنظيم داعش الإرهابي. فنلاحظ الترويج الإعلامي الكبير للعملية الأمريكية الأخيرة الذي قامت بها قوات الكوماندوز ضد داعش في شمال غرب سوريا، حيث تراجعت الحملة الإعلامية الشرسة ضد المواجهة الأمريكية الروسية، وهذا بحد ذاته يعتبر نصر سياسي للأمريكان.
في النهاية واشنطن تريد تحجيم روسيا الاتحادية وتقليم أظافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من خلال فرض الأمر الواقع على روسيا بسحب القوات التي يحشدها الروس عند حدود أوكرانيا.
الموقف الصيني من الأزمة:
مما لا شك فيه هنالك علاقة وطيدة ما بين الأزمة الروسية الأوكرانية وبين قضية الصين وتايوان. بيد أنه ما سيحدث في أوكرانيا سوف يتقرر بنسبة كبيرة في تايوان. في السياق ذاته أن إدارة بايدن منذ وصولها إلى الحكم أعلنت بشكل غير مسبوق إنها ستدعم حق استقلال تايوان عن الصين، وهو الأمر الذي يمثل خط أحمر بالنسبة للصينيين، لأن الصين لديها ما يقارب 54 قومية واختلافات عرقية وثقافية، وهذا سيفتح باب للتفكك في الصين فيما إذا نجحت تايوان بالانفصال نهائيا عن الصين.
من هنا فإن الصين تتابع عن كثب شديد ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، ذلك لأن الصين لديها أزمة مماثلة إلى حد كبير وهي تايوان. باختصار شديد أن تايوان جزيرة منشقة عن الوطن الأم الصين منذ نشأت الدولة الشيوعية الصينية عام 1949. وبعد أن اعترف العالم بشرعية النظام الشيوعي في الصين عام 1971، أصبحت تايوان إقليم مستقل من وجهة نظر الصينيين ويجب أن تعود مستقبلا وبشكل تدريجي إلى الوطن الأم بشكل أو بآخر. وعلى هذا الأساس فقد دعمت الصين روسيا في حربها ضد أوكرانيا، بل اعترفت الصين بشكل كبير في حق روسيا اتجاه أوكرانيا، حيث ترى الصين أن التحرك العسكري الروسي اتجاه اوكرانيا ضمن حدودها الاقليمية، وذلك شأن داخلي روسي، ومن حق روسيا الحفاظ على أمنها القومي وعدم توسع نفوذ حلف الناتو في أوروبا، ورفضت الصين بشكل قاطع انضمام أوكرانيا إلى هذا الحلف. وبما أن الصين عضو دائم في مجلس الأمن، فإنها ستساند روسيا في مواجهة العقوبات الأمريكية والغربية ضد روسيا.
في النهاية الولايات المتحدة الأمريكية لن ترسل جندي واحد للدفاع عن تايوان، لكنها محاولة أمريكا لخلق أزمات في العالم تستدرج فيها روسيا والصين.
ما هي مآلات الأزمة الروسية الأوكرانية على الاتحاد الاوروبي؟
أولا. الضغط الروسي مع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتقلص النفوذ الأمريكي دوليا، سيُعجل من تفكك الاتحاد الأوروبي.
ثانيا. تعتبر ألمانيا (مارد) أوروبا السياسي والاقتصادي، وكلما تزداد ألمانيا قوة تضعف فرنسا وتضطرب سياسيا. تاريخيا هناك صراع جيوسياسي بين ألمانيا وفرنسا يتمحور حول موضوع مقاطعتي (الألزاس واللورين).
ثالثا. باعتبار ألمانيا شريان أوروبا الاقتصادي، لا يوجد تناسب بين قوتها الاقتصادية وقوتها العسكرية. هذا الخلل سيظهر في حالة تفكك الاتحاد الأوربي، لاسيما أن ألمانيا تحقق توازن قوى بين قوتها الاقتصادية وقوة الاتحاد الأوربي عسكريا. وفي حالة تفكك الاتحاد الأوربي ستكون ألمانيا مجبرة على مد يدها إلى روسيا في تحالف عسكري أو اتفاق سلام يضمن استقرارها ويحقق مصالحها.
رابعا. فرنسا ستفقد تأثيرها على أوربا وتزداد ضعفا بعد أن انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوربي، سيما أن فرنسا تعتبر بريطانيا حائط الاستناد القوي لها. في الوقت نفسه أن بريطانيا لم تعد قوة عظمى وكذلك فرنسا، مقابل دول أخرى برزت على الساحة الدولية وأصبحت رقم صعبا في النظام السياسي الدولي والعلاقات الدولية.
خامسا. اسبانيا ووضعها المضطرب بجوار فرنسا، حيث أن وجود اسبانيا داخل الاتحاد الأوربي هو الذي يمنع انقسام المقاطعات الاسبانية، وان أي ضعف في الاتحاد الأوربي سيؤدي إلى تقسيم اسبانيا.
سادسا. روسيا تنظر بعين الطمع إلى جميع الدول التي كانت تنضوي تحت مظلة الاتحاد السوفيتي سابقا (دول حلف وارشو).
سابعا. الخلافات المتنامية بين دول الاتحاد الأوربي حول موضوع الهجرة. حيث لم يستبعد بعض من قادة دول الاتحاد الأوربي انهيار وتفكك الاتحاد بسبب المشاكل المتفاقمة للهجرة غير الشرعية.
الدبلوماسية الدولية اتجاه الأزمة:
أولا. زيارة رئيس وزراء المجر إلى روسيا في 3 فبراير.
ثانيا. زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى كييف ومحاولة طرح بعض السبل الدبلوماسية لتقريب وجهات النظر.
ثالثا. هناك زيارة للمستشار الألماني إلى موسكو الشهر الجاري.
أما في حالة اندلاع حرب في أوكرانيا، سوف يساعد على انتشار صراعات وحروب في مناطق كثيرة في العالم، مثل تايوان وكوريا والشمالية وإيران.