يمكن لي ، بادئ ذي بدء ، أن أصنف النقد السياسي للأحداث العالمية ، في كل العصور ، إلى نوعين : القراءة والتحليل . القراءة هي توصيفات عامة غير متعمقة وليس بمقدورها أن تجزأ الحدث إلى عناصره الأولية ، أو إلى المقدمات والنتائج المترتبة عليه . أما التحليل فيستند على قدرة الكاتب على تفكيك الحدث وقراءة عناصره من الداخل ، أو ربط النتائج بالمقدمات والخروج باستنتاج منطقي قد تترتب عليه توصيات محددة .
بناءا على ما تقدم ، فأن القراءات السياسية للأحداث الجارية الآن في منطقة الشرق الأوسط تختلف من كاتب لآخر ، استنادا إلى عدة عوامل : من أبرزها القدرة على التنبؤ في مسيرة الحدث وتداعياته ، بناءا على معطيات عدة . وهناك نوعان من تحليلات المشهد السياسي ، في أي ظرف ، الأول ما يمكن أن أسميه التحليلات البعدية والثاني هو التحليلات القبلية . النوع الأول هو الأكثر شيوعا ، لدى جمهرة من المحللين السياسيين أو المثقفين على وجه العموم ، وهنا يجتر الكاتب (قارئ الحدث) تصريحات ذوي الشأن والمعنيين جدا بصناعته أو تلقي ضرباته ، أو يعيد استنساخ مقولات أو تحليلات غيره ، بشكل لا يمتلك إضافات جديدة . وتستند معطيات التحليل السياسي هنا على النتائج والآثار التي ترتبت على هذا الحدث أو ذاك . أما النوع الثاني المهم هنا ، هو التحليل القبلي : هنا يستطلع الكاتب دقائق الأمور من خلال قراءات متكررة ومتأنية وعميقة ، قبل حصول الحدث ، وبناء توصيفات محددة وشاملة ، والشروع بعد ذلك بدخول منطقة التكهن المنطقي ومحاولة الوصول إلى نتائج واضحة لمقدمات الحدث ، فضلا عن قدرة الكاتب هنا في العثور على العناصر التي تقود إلى ظهور عامل المفاجأة ، ومعرفة أو تشخيص الإجراءات الاستثنائية والمباغتة أو غير المتوقعة . وهنا تكمن قدرة الكاتب العالية في كشف المجهول والتحري عن العناصر المختبئة تحت ستار الحجب المتعمد .
أسوق هذه المقدمة الوافية ، إلى حد ما ، كمحاولة متأنية لقراءة المشهد المتصاعد للأزمة السورية الحالية ، وصراع النظام السوري في مواجهة الغرب وأميركا . ومعروف أن الأزمة السورية الآن هي جزء متتم لما يجري في منطقة الشرق الأوسط من مخطط كبير لتغيير المسار الجيوبولتيكي في المنطقة بدأ منذ ما يقارب ثلاثة عقود منصرمة ، للوصول إلى حدث دراماتيكي كبير قد ينظر إليه بوصفه فصلا كاملا من فصول الحرب الباردة بين أميركا وحلف الناتو من جهة وبين روسيا والصين من جهة أخرى . لذلك فأن القراءة القبلية لمقدمات ونتائج الأزمة السورية الحالية والضربة المتوقعة التي تتهيأ لها أميركا والغرب الآن ، يمكن تلخيصها بما يلي :
1- الأزمة السورية لن تتوقف في الأمد المنظور ، ويبدو أن الهدف منها إحداث خلخلة في التوازن الإستراتيجي للقدرات السورية في المنطقة لصالح قوى أخرى . ولذلك قد تتعرض قدرات النظام السوري الهجومية والدفاعية إلى حالة من المد والجزر مقابل قوى المعارضة المسلحة المدعومة من الخارج .
2- سيستنفذ النظام السوري الاستفادة من كل عوامل الدفاع المساعدة للتشبث بقوة ، كالدعم الروسي والإيراني اللذين لا يمتلكان تلك المطاولة والتي لا تتعدى الدعم السياسي فقط .
3- أميركا غير مترددة في توجيه ضربة قاصمة للنظام السوري ، كما يتمنى عرب الخليج ، وليست بحاجة إلى تغطية تكاليف مالية ، لأن من يدفع موجود ومعروف ، لذلك جاءت التصريحات اليوم بان الحملة العسكرية لأميركا والغرب الآن لا تهدف لإسقاط النظام بل إضعافه فقط .
4- العامل المهم هنا هو عدم أمكانية الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على تهيئة وضبط الترتيبات العامة والخاصة للحملة العسكرية بنسبة عالية جدا ، يفترض أن تكون 100% لكي تأتي النتائج غير معاكسة ومتطابقة مع الهدف المنشود .
5- وهنا يأتي دور العوامل المفاجأة واللاخطية وغير المتوقعة الموجودة لدى النظام وحلفائه ، حتى وأن جاءت بنسبة 1% من مكونات المشهد وتحضيراته . حيث تكمن هنا خطورة تعامل التفكير المنظم القائم على القياسات مع تفكير فوضوي مليء بالعناصر المفاجأة وغير المتوقعة لدى النظام . وهذا ما صرح به وزير الخارجية السوري وليد المعلم بأنهم سيفاجئون العالم بطريقة الدفاع ضد أي حملة عسكرية لأميركا والغرب . ربما يتصور البعض أن مثل هذه التصريحات سبق وان قالها صدام والقذافي ، وهي ليست جديدة ، وهي طريقة عربية معهودة في دفاع اليائسين . القضية لا تقرأ هكذا ، فربما ينطوي كلام المعلم على خفايا غير معلنة تمتلك عنصرا مهما للمفاجأة لا يمكن الاستهانة به .
6- التوضيح الروسي بأن تدخلهم عند حصول الضربة العسكرية سيكون بشكل غير مباشر يدفع إلى الاعتقاد بوجود عنصر مختفي مهم ، وقد يلجأ النظام السوري وحلفائه روسيا وإيران إلى فتح جبهات جديدة تعتمد على مبدأ تغذية الصراعات الطائفية هذه المرة من قبلهم في مناطق أخرى كالعراق ولبنان ، والى أقل حد في الخليج أيضا ، بأسلوب لا يمكن اكتشافه بسهولة ، على سبيل المثال القيام بتوجيه صواريخ سورية مدمرة للمراقد الدينية المهمة في دمشق أو غيرها لحظة وقوع الهجوم الأميركي المفترض على سوريا ، لكي يختلط الحابل بالنابل كما يقال ، ويوجه الاتهام المباشر لأميركا بالدليل القاطع والملموس ، الأمر الذي قد يفجر وضعا مزدوجا في العراق ولبنان ، يدفع بالطائفة الشيعية إلى جنون الانتقام ، مع محاولة دفع الطائفة السنية في العراق المتربصة لإسقاط الحكومة والانقضاض عليها .
7- النتيجة المتوقعة هنا ، والقائمة على أساس ضغط جماهيري واسع ، هي قد تلجأ الحكومتان الإيرانية والعراقية إلى إيقاف تصدير النفط لفترة محددة ، بحيث تتفجر أزمة اقتصادية عالمية شديدة ، وبذلك تنعكس النتائج المنتظرة من الحملة الأميركية وتكون وبالا لا يحمد عقباه .
8- وهنا يلتقط النظام السوري أنفاسه ، ويلملم جراحاته ، ناقلا المعركة إلى مكان آخر ، وربما تندفع ألته العسكرية مدعومة من قبل حزب الله ومؤيدي النظام من الداخل إلى شن حملة عسكرية برية ضد المسلحين وإجبارهم على التراجع بالاستفادة من الشحن الطائفي نتيجة تعرض مقدساتهم إلى الضرر الجسيم .
9- لذلك فأن تكتيك الضربة الأميركية المحتملة يحمل وجهين : مثمر وغير مثمر . إن جاء مثمرا فهو يغذي الإستراتيجية الثابتة في خلخلة توازن النظام السوري في المنطقة ، وإن جاء غير مثمر فربما يجر المنطقة إلى أزمة جديدة مباغتة لم يتم قراءتها بشكل جيد .
10- العامل المهم هنا هو وصول طرفي النزاع إلى نقطة اللاعودة ، بغض النظر عن القصدية والتخطيط ، والضربة أن حصلت ستكون بداية لضربات لاحقة مع الاحتفاظ بمبدأ استهداف البنية التحتية للنظام أكثر من التركيز على رأسه .
نستنج مما سبق أن عنصر المفاجأة التي يتضمنها نمط التفكير اللاخطي تشكل عامل تصعيد مباغت ينبغي أن يقرأ بشكله الصحيح بغية الوصول إلى تحليل واقعي وقراءة دقيقة لواقع الأحداث في المنطقة .