23 ديسمبر، 2024 3:45 ص

الأرملة لازالت تنتحب

الأرملة لازالت تنتحب

 

في حرب الثمانينات حينما كنتُ أرافق الصحافة الأجنبية إلى مساحات الوطن الممتدة من الشمال إلى أقصى الجنوب لتسجيل ملاحظاتهم عن تلك الحرب الطاحنة بين جارين وشعبين تربطهما وشائج كثيرة وكلاهما يعتنقان الإسلام الجميل . كان احد الصحفيين يرسل نظراتهِ إلى المسافات البعيدة ويكتب أشياء دون أن ينظر إلى الورقة .

حاولت أن أتحـــــدث إليه لكنه توســـــــل إلي أن اتركه في تلك اللحـــــــــظة لأنه يعمل عن طريق النظر.

ظلت تلك الحادثة تصول وتجول في ذاكرتي وأتساءل مع ذاتي : كيف يكتب دون أن ينظر إلى الورقة ؟ وماذا يكتب؟

بالنسبة لي كانت المساحات الشاسعة لا تعني لي شيء . لم أجد شيئاً يستحق الكتابة.. مجرد – تلول – أو تلال مترامية الأطراف ومن بعيد تنفذ نحو الفضاء سحابات دخان متفرقة وأصوات مدافع مكتومة تصدر عن الطرفان المتنازعان وجثث قليلة ملقاة على جانبي الطريق ومستنقعات مياه راكدة تزكم الأنفس .

بعد عدة رحلات مع الصحفيين الأجانب عرفت وأدركت أهمية تلك المشاهد بالنسبة لأصحاب الأقلام العالمية وكيف يكتبون عنها وكأنهم يرسمون لوحات فنية- بغض النظر عن ايجابية أو سلبية تلك الكتابات . اليوم وبعد أكثر من ثلاثين عاما مرت كلمح البصر تزور تلك الصور ذاكرتي المرهقة وأنا أقف عند باب الدار لاستقل سيارة أجرة إلى المستوصف القريب نسبيا من البيت.

 

سائق سيارة الأجرة يكبرني بخمس سنوات ، ينفث دخان سيكارته إلى داخل فضاء العجلة الداخلي وهو يردد – ” كنا نختنق أحيانا بسبب الدخان المتصاعد من اهوار القصب والبردي ونحن نختبئ في الملاجئ المحصنة خوفا من القصف المدفعي الرهيب ” .

جرنا الحديث إلى اشد المعارك ضراوة في تلك السنوات العجاف وكيف أن – بنته – الأرملة لازالت تبكي منذ عام 1986 حتى هذه اللحظة على فقدان زوجها الذي كانت تعشقه ، كان قد اختفى في معارك نهر جاسم.. وحدثته عن صديقي العزيز إبراهيم مهندس الميكانيك وعن شقيقي الصغير عامر وعن ابن عمي كريم الذين تلاشوا مع الريح في تلك المعارك الشرسة .

لانعرف لماذا بدأت تــــلك الحرب ولماذا مات كل هؤلاء الشباب والرجال. حقا أن الحكايات تأتي من خارج الدار .

عدت إلى البيت بعد فحص الدم وأغمضتُ عيناي وأنا استعيد كل حكاية أو كلمة رددها سائق السيارة وراحت أفكاري تسافر إلى ذكرياتي مع صديقي إبراهيم وشقيقي الصغير عامر وابن عمي كريم وكيف تمزقت أجسادهم هناك وراحت عيناي تسبحان في بحيرة من دموع لن تجف طالما كانت هناك حــــــياة على هذه الأرض . الحكايات تتوارد إلى مخـــــــــيلتنا من أمام الدار حقا . بعد كل هذه السنوات وتلك الاحداث المرعبة لازال الوطن يحترق كل يوم بحكايات وقصص مؤلمة تجعلنا نحن الذين عاصرنا حرب الثمانينات نشعر اننا لازلنا نخوض في حرب عالمية لايمكن ان تنتهي مهما تقدم الزمن ..ومات – القائد الضرورة – وترك خلفه هذا الكم الهائل من الارامل والايتام بسبب عنجهية كانت تجول في عقله المريض وكان بأمكانه ان يتجنب ويجنبنا كل هذه الحكايات المأساوية…لانعرف ان نذمه بعد كل تلك السنوات المرعبه ام ان تركه في يد خالق الكون ليقرر مايراه مناسباً للجميع…سلاما ايها العراق الجريح وسلاما ايتها الارامل البائسات في كل زمان ومكان وسلاما لكل يتيم يتحرق شوقا لرؤية شيء بسيط من جسد والده المتروك هناك عند التلال البعيدة.