بين صفحات الجغرافيا، وعمق التاريخ، ومفترقات السياسة، يواصل الأردن أداء أدواره القومية بثبات وهدوء، متكئاً على رؤية قيادية ثابتة تضع مصلحة الأمة العربية في قلب كل خطاب وتحرك. وقد جاءت مشاركة الأردن في القمة العربية الرابعة والثلاثين، التي انعقدت في بغداد في 17 أيار/مايو 2025، لتجدد هذا الحضور السياسي النبيل، وهذه المواقف المبدئية التي لطالما ميّزت الأردن في مختلف المحافل العربية والدولية.
رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان، الذي ترأس الوفد الأردني ممثلاً لجلالة الملك عبدالله الثاني، حمل إلى بغداد سياسية ورؤية متكاملة تنطلق من المبادئ الأردنية الثابتة: دعم الأشقاء، ونصرة القضايا العربية العادلة، والدعوة إلى تماسك الصف العربي في مواجهة ما يعتري المنطقة من أزمات وتحولات.
كلمة رئيس الوزراء الأردني في القمة كانت صريحة، واضحة، خالية من المجاملة. فالحديث عن الحرب المروعة التي تنهش غزة منذ أكثر من عام ونصف، لم يكن خطاباً بروتوكولياً، بل إدانة صريحة لـ “الوحشية المستمرة” التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ودمرت البنية التحتية لحياة شعب بأكمله.
الأردن، وعلى لسان حسان، حدد الهدف الأوّل دون مواربة: وقف الحرب فوراً وإنهاء الكارثة الإنسانية التي تسببت بها. دعا إلى تكاتف الجهود العربية والدولية، لا لمجرد التعاطف، بل للفعل الحقيقي: وقف الانتهاكات، ودعم الشعب الفلسطيني، والمضي في إعادة إعمار غزة، كاستحقاق أخلاقي وإنساني قبل أن يكون سياسياً.
وهنا، تبرز خصوصية الموقف الأردني: فهو لا ينطلق من مزايدات خطابية، بل من فهم معمّق لتشابكات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومعرفة دقيقة بما تمثله القدس من بعد ديني وتاريخي وإنساني، يجعل من وصاية الأردن على مقدساتها الإسلامية والمسيحية مسؤولية وطنية وقومية في آن واحد.
في ظل ما تتعرض له القدس من اعتداءات يومية، يكرر الأردن عبر محافله الرسمية التزامه التاريخي في حماية مقدسات المدينة، ورفضه القاطع لكل الإجراءات الإسرائيلية الأحادية التي تستهدف تغيير الوضع القائم. الوصاية الهاشمية التي يصر الأردن على الدفاع عنها، ليست مجرد ملف سيادي، بل عنوان لشرعية أخلاقية وموقف ثابت في زمن تتناقص فيه الثوابت وتضيع البوصلات.
والرسالة كانت واضحة: لا يمكن الحديث عن أي سلام أو استقرار في المنطقة، ما دامت القدس تُستباح، والضفة تُجرف، والمستوطنات تتمدد فوق أنقاض الحقوق الفلسطينية.
وإلى جانب فلسطين، لم تغب سوريا عن خطاب الأردن في قمة بغداد. فقد جدّد رئيس الوزراء دعم بلاده الكامل لوحدة سوريا وسيادتها، وضرورة عودة اللاجئين إلى وطنهم، في موقف إنساني سياسي يعكس التوازن الذي تتبناه المملكة، بعيداً عن الاصطفافات المؤقتة والمصالح الضيقة.
والأردن يدرك أن استقرار سوريا ليس شأناً سورياً فقط، بل هو مصلحة عربية جماعية. وكل ما يهدد وحدة التراب السوري، هو تهديد مباشر للأمن القومي العربي بأسره.
اللافت أن القمة العربية الرابعة والثلاثين جاءت في سياق إقليمي بالغ الحساسية. فعدوان غزة لم يتوقف، والمشهد السوري عاد إلى الواجهة، والإقليم يشهد تحولات صامتة في علاقات الدول الفاعلة، من إيران إلى تركيا مروراً بأزمات السودان واليمن وليبيا.
في هذا المشهد المربك، لم يكن الحضور الأردني مجرد مشاركة، بل كان مساهمة فاعلة في صياغة مخرجات القمة التي تُوِّجت بـ”إعلان بغداد”، وأعادت وضع قضايا الأمة في أولويات الطاولة العربية، لا سيما القضية الفلسطينية التي حرص الأردن على ألا تكون ملفاً عادياً أو ثانوياً.
وبعيداً عن المجاملات الدبلوماسية، شكّلت مشاركة الأردن في قمة بغداد تأكيداً على خصوصية العلاقة بين عمّان وبغداد. فقد سبقت القمة سلسلة لقاءات ثنائية رفيعة، بحث خلالها الجانبان سبل التنسيق العربي المشترك، ومجالات التعاون الاقتصادي والأمني. وكان لوزيري خارجية البلدين دور بارز في الدفع نحو إنجاح أعمال القمة.
الأردن، الذي لطالما نظر إلى العراق باعتباره رئةً عربيةً حيوية، يرى أن استقرار العراق وعودته لدوره القيادي في محيطه العربي هو رافعة للاستقرار الإقليمي ككل، وهو ما يفسّر دعمه الدائم لاستضافة بغداد للقمة، ومساندته للمبادرات العراقية التي تهدف لتعزيز العمل العربي المشترك.
في كل قمة، وفي كل مفترق عربي، يثبت الأردن أن صغر الجغرافيا لا يقلل من عظمة الدور، فهو البلد الذي يتحدث من منطق الضمير، ويتحرك وفق منطق التوازن، ويدافع عن القضايا العربية دون ضجيج، ولكنه أيضاً دون تردد.
مشاركة الأردن في قمة بغداد ليست حدثاً بروتوكولياً، بل محطة جديدة في سجل من المواقف التي تشهد على مسؤولية وطن لا يكتفي بالحياد، بل يختار الاصطفاف الدائم مع قضايا الحق والعدالة.
وهذا، في زمن الصفقات والرهانات، بات عملة نادرة.