ترجمة ومراجعة / د.حارث محمد حسن و د.باسم علي خريسان
ربما كان ((ونستون تشرشل ))هو القائل بأن الديمقراطية الليبرالية الأمريكية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء الأشكال الأخرى جميعاً .. الديمقراطية الليبرالية الأمريكية لم تعد اليوم على ما كانت عليه عندما قال تشرشل هذه العبارة ،فقد تغير الكثير في أمريكا منذ ذلك الحين.. عندئذ كانت الحياة الأمريكية فعلاً ليبرالية وديمقراطية ورأسمالية لكنها لم تكن تعددية ،كانت بيضاء ،غربية، مسيحية قائمة على الرؤية الإنجيلية ، بروتستانتية أساسا،أنها لم تكن طريقة الحياة العلمانية، المسيسة ،الذاتية، الشهوانية الموجودة اليوم عن طريق (( تفكيكها)) للعلم، والميتافيزيقا واللاهوت ،والفن في المجتمع الذي ندعو اليوم بالمجتمع ((ما بعد الحداثي)).
ان المسيحيين الأرثوذكس في أمريكا الشمالية وأوربا الغربية وأجزاء من الشرق الأوسط واستراليا واليابان يعيشون بدرجات متفاوتة في العالم التعددي ما بعد الحداثي الجديد الذي يستمد جذوره من الديمقراطية الليبرالية الأمريكية الحديثة. وأولئك الموجودون في أوربا الشرقية يتجهون الى نفس الوضع بنوع من الحتمية التي لايمكن إنكارها. أولئك الذين يعيشون في ما كان يعرف بـ((العالم الثالث)) قد تأثروا أصلا من خلال طرق كثيرة جداً يصعب حصرها وتوضيحها.
بعض منا نحن الأرثوذكس يقول،اقتباساً من الواعظ ،انه فعلياً(( لا جديد تحت الشمس)). وذلك صحيح بشكل ما. فالولادة والموت،السرور والحزن،الصواب والخطاء،السلم والحرب، وتغير الفصول، هي جميعها أشياء كانت ومازالت وستبقى،لكن الذي يتغير بشكل متواصل هو نظرة الناس إلى هذه الحقائق الدائمة.
العديد من الأرثوذكس ما زالوا يعتقدون بأن شيئاً لم يتغير لان الأرثوذكس لازالوا أقلية مضطهده كما كانوا دائماً .. غير ان الأرثوذكسية هي للمرة الأولى في التاريخ تجد نفسها في ((قرية عالمية)) يتحرك شعوبها بدرجات متفاوتة وطرق مختلفة نحو طريقة جديدة للحياة.
هذه الطريقة هي التعددية الليبرالية الديمقراطية الرأسمالية ( ما بعد الحديثة وما بعد المسيحية) الأمريكية. انها طريقة الحياة التي كانت تسود في ما كان يعرف بـ((العالم الأول)) بقايا العالم ((الحداثي)) ، القديم مازالت موجودة في أمريكا المعاصرة ،وتبقى كذلك في العالم الحالي الذي تتجته أمريكا والذي تظل أنموذجاً له، وهذه البقايا قد ترفض وتقاوم العالم الجديد. فمثلاً مازالت قضايا التسامح الديني ، والمساواة العرقية، وحقوق الأقليات تحظى باهتمام رئيسي في أمريكا وفي أي مكان أخر في المجال السياسي. ومازال حق العمل وفرص العمل المتساوية وظروف العمل الآمنة والأجور العادلة أهدافاً يسعى ويناضل لأجلها الكثيرون في المجال الاقتصادي. ومازال التعليم الشامل والرعاية الصحية والإسكان المناسب والسياسات المتعاطفة مع المهاجرين، قضايا ذات أهمية في المجال الاجتماعي.ومازالت الأصعدة الدينية والفلسفية والعلمية تشهد طرح قضايا العلاقة بين الأيمان والعقل والعلم واللاهوت ، والتفكير النقدي والأصولية، والحرية والسلطة والوعي الفردي والأحلاف التقليدية ، الأرثوذكسية والهرطقة.لكن هذه القضايا لم تعد تطرح وتفسر كما كان الأمر في السابق.حيث ينظر إليها في المجتمعات التعددية ما بعد الحداثية بطريقة جديدة تماماً،وفي أطار جديد تماماً ، وبأجندة جديدة للعمل.
وهذا العالم الجديد في أبعاده الفكرية والخطابية والسلوكية هو النتيجة المباشرة لما قام به المجتمع الحداثي العلماني من اختزال للمسيحية حولها الى ديانة شخصية مقسمة الى أجزاء منفصلة نقده الكسندر (شميمان)، الذي لازالت كتاباته مقروعة باهتمام لاسيما في المجتمعات ما بعد الماركسية.انه تحول للمنظور وللتجربة اليهودية-المسيحية بعيداً حتى عن أي شيء تصوره ((جورج فلورفسكي )) وآخرون في نقده للـ(( أشكال الخادعة)) للأرثوذكسية.في المجتمع العلماني الحديث ،ظلت اللغة والبنى والرموز والطقوس المسيحية الكلاسيكية قائمة ،الا ان محتواها ومعناها قد تغيرا بشكل جذري ، وبلغ (( التفكيك)) ما بعد الحداثي للمنظور الحداثي –عن طريق الوجودية الشخصية والثقافية الراديكالية ، والثورة الجنسية، والنزعة الصوفية، وتسييس للاهوت والأخلاق، وانفجار مذهب المتعة وحب الاكتساب المادي والروحي واللغة التقليدية،والبنى والرموز والطقوس التقليدية النقطة التي أصبح فيها المحتوى والمعنى الأصلي غير موجود أصلا، لكنها استبدلت بإعادة تفكيك جديدة شاملة للواقع.
في العالم التعددي ما بعد الحداثي ،ليس هناك حقيقة،وحق، وخير وجمال بشكل يمكن لكل البشر ان يكتشفوه،ويعرفوه،ويؤمنوا به، ويطبقوه قولاً وفعلاً، ويحترموه ويتمتعوا به، وان يشكروا الله عليه.ليس هناك معنى وهدف واحد يشمل كل من خلقهم الله. بل هناك أشكال كثيرة من الصور الكاذبة للحقيقة ، تنتجها الارادات الذاتية للإفراد والأحزاب وجماعات المصالح في أطار السياسة والسلطة والخلق الذاتي،والتساهل .لقد أصبحت مقولات الديمقراطية الليبرالية الحداثية اليوم موضوعات للتبجيل وغايات قائمة بذاتها في عالم مسيس وغارق في اللذه.الحرية تصبح ترخيصاً ، الاكتساب أصبح حقاً،الاختلافات تلقى التعظيم،والسعادة ،التي باتت تفهم كمتعة مادية وروحية-مزيفه،تصبح لازمة للجميع.
واذا كان بامكان ((ريتشارد بنبور)) ان يقول –قبل أكثر من نصف قرن- انه في البروتستانتية الليبرالية الأمريكية الحديثة ((هناك اله لا يقوم بالعقاب يدفع أنسانا بدون خطيئة الى مملكة بدون مذهب سائد عن طريق خدمات كهنوتية لمسيح بلا صليب))،يمكن الان ان يقال بأنه في العصر الجديد للتعددية ما بعد – الحداثية فان الهاً بدون سيادة يدفع أناسا بدون تبجيل الى عصر بدون مسؤولية من خلال استغلال اله او آلهة باختيارك بدون تراجيديا..
ان المسيحيون الأرثوذكس يجب ان لا يستجيبوا للتعددية ما بعد الحداثية من خلال التصور ان بامكاننا ان نرفض العالم المعاصر من خلال اللجوء الى عالم من صنعنا..ان بامكاننا ان نخلق حقائقنا الخاصة بنا من خلال الأمر الذاتي يجب ان نعامل الواقع كما هو كائن ونتولى مسؤوليتنا أمام الله ويجب ان نعيش في العالم الذي أرادته العناية الإلهية لنا…..
في البداية علينا ان نضع المسيح ،والمسيح فقط (الى جانب أنجيله) في مركز اهتماماتنا. يجب ان لا نقوم الا بما يبدو جيداً للروح المقدسة ولنا)) وفقاً لـ((فكر المسيح)) يجب ان نعمل على تقويم عالمنا سوية لنجد فكراً مشتركاً وخطة عمل مشتركة. ولا يعني ان ذلك إنجازا في العالم التعددي ما بعد الحداثي المعاصر الذي يجبرنا على تشكيل رؤانا الخاصة للحقيقة والتاريخ على أساس رغباتنا واهتماماتنا وحاجاتنا التي نقررها بذاتنا.
يجب ان يتخلى الأرثوذكس مرة واحدة عن الكذبة القائلة بان بامكاننا وبامكان كنائسنا ان نعيش بانجيل المسيح ونظل ننقح كل ثروات وأمجاد ثقافاتنا وهوياتنا الوطنية ، من خلال استخدام الأرثوذكسية نفسها لهذا الغرض-وهو أي مضلل بقينا نتعامل معه. ان حقائقنا المحزنة السائدة تكشف نتائج مثل هذا السلوك والاعتقاد الخاطئ.اننا نحن الأرثوذكس في أمريكا الشمالية وأوربا الغربية قطنا شوطاً طويلاً نحو فقدان معتقدنا وثقافتنا من خلال ربطهما سوية وكأنهما شي واحد….
ان المنظور التعددي ما بعد الحداثي وخطابه يشجعان القناعة القائلة بان الأشكال المختلفة من الأديان والحركات والثقافات يمكن ، بل ويجب ، ان يؤدي الى ان ينتج كل واحد منها حقائقه الخاصة به. ان هذه الأديان والحركات والثقافات لابد ان تخلق أخلاقها الخاصة بها ، وفنها الخاص بها، وتكتب تاريخها وفقاً لمصالحها وأهدافها، وكما انه ليس هناك أشياء من قبل التاريخ النسائي أو الفن اللوطي أو الأخلاق البوذية أو الروحانية الإسلامية تمتلك الحق ليس فقط في البقاء بدون تحدي من قبل أولئك الموجودين خارج مجتمعاتها،بل وتصر على استحسانها الشامل باعتبارها أشياء ملائمة ومشروعة لأعضاء المجتمع ، كذلك ليس هناك شيء من قبيل الأرثوذكسية للأرثوذكس فقط.هناك حقيقة متاحة للجميع ،قيم لكل الشعوب، تاريخ يمتلك فيه الجميع مكانهم الخاص ، فن يبتهج به الجميع،وروحانية يشارك بها الجميع… ليس لأي منها حق في البقاء بعيداً عن تساؤلات وانتقادات الآخرين والمجتمع الإنساني ككل،وعليهما جميعاً واجب الانفتاح على اختيارات الآخرين لمصداقيتها ومشروعيتها لكل الناس والأرثوذكسية ليس استثناءاً عن هذه القاعدة . ان علينا ان نكون مستهدين لوضع ادعاءاتنا في موضع المساءلة والتحقيق…
على العكس من ادعاءات الدعاة ما بعد الحديثة، لا تحتاج القناعات الأرثوذكسية بالضرورة إلى هيمنة إمبريالية يمارسها ((المسيحيون الفاشيون)) الذين يجبرون الآخرين على القبول بقناعاتهم وأخلاقهم ورؤيتهم للتاريخ عن طريق الهيمنة العسكرية والاقتصادية والثقافية.. يجب أن يكون الأرثوذكس مستعدين اليوم للتسامح تجاه أي خطا أو إثم في الوقت الذي يقومون بكشفه.. يجب أن نقوم بتبشير وخدمة كل الناس بدون هيمنة أو تمييز وشروط ،بل وبدون حتى رغبة للهدية والإصلاح ،التي هي وظيفة الله لا وظيفتنا.
ولنكون مؤمنين بما اخترنا لأجله ودعينا للقيام به، يجب ان نكون نحن الأرثوذكس أحرارا ، ونحترم حرية الآخرين. وربما لا يوجد شيء أكثر مثالية او تعرضاَ للأفكار الخاطئة في مجتمعات ما بعد الحداثة والحداثة كالحرية.. وليس هناك شيء أسيء فهمه واستخدامه كالحرية. وليست الديمقراطية وحدها مستحيلة بدون حرية، بل المسيحية كذلك.. وطالما ظلت (((التجربة الأمريكية)) متجذرة في التراب المسيحي،فأنها ستواصل عملها.ان تحول الديمقراطية الليبرالية الأمريكية الى خليط تعددي ما بعد حداثي من جماعات المصالح المتعادية ،وبعضها يحمل اسم ((المسيحية)) كان حتمياً،وكذلك حركتها نحو ما دعاه البابا ((جون باول الثاني)) بـ(( ثقافة الموت))، ان الموت ،وليس الحياة ، هو ما تتعامل معه تعددية ما بعد الحداثة، انها ماهيته ونحن نتحدث هنا ليس فقط عن موت العقل والروح،بل موت النفس والجسد، والمجتمع البشري نفسه. وقد كشف ((دويستوفسكي)) جذور هذا الجنون عن عرضه الراديكالي للـ(( حداثة)).
ان الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة في أشكالها ما بعد الحداثية ((المفككة)) هما مهلكان بمعنى الكلمة…. نحن لا نحتاج سوى ان نتفحص الواقع السياسي والعسكري والاقتصادي والجنسي لـ((العالم الأول)) ،نشاط وسائل الأعلام، وسائل الترفيه المعاصرة والفن المعاصر، وأزمة الإيدز والإجهاض، وحركات القتل الرحيم((حق الموت))…. وفي أكثر تعبيراتها راديكالية وتقدماً،لم تكتفِ((ثقافة الموت)) بالسماح للناس بالحق للبرهنة عن حريتهم من خلال الانتحار الروحي أو الفيزيائي، بل أنها تضمن لهم أيضا حرية قتل الآخرين أيضاً ويجب ان لا يسعى مسيح الأرثوذكس اليوم الى العمل فقط على تأكيد الحياة في مواجهة الموت ، بل وعلى التأكيد في ان الموت في شكله الصحيح كـ((عدو نهائي)) لابد من مواجهته وتدميره. انه يدمر ليس من خلال الخطاب الذي يؤكد على الحياة، والتفكير الايجابي والموقف المتفائل في ((أتباع السعادة))… ان بالا مكان تجاوزه ودحره وتدميره من خلال الحقيقة والعدالة والحب.