21 ديسمبر، 2024 5:06 ص

الأدب بين الإسهاب والإطناب.. والتكثيف والإيجاز

الأدب بين الإسهاب والإطناب.. والتكثيف والإيجاز

لاشك أن الحياة، بما هي في مفهومها الشامل، إنسان، ومكان، وزمان، في حالة حركة مستمرة، وصيرورة متواصلة ، لا تتوقف ، وبالتالي فأن الحال بأشكاله المختلفة ، اجتماعياً، والإقتصاديا ، وتنمويا، ومكانيا، في حالة تغير دائم، وتطور مستمر، ولا يقف عند هيئة معينة بذاتها ، ليستقر عليها إلى الأبد.

ولا ريب أن تداعيات حركة الحياة، بسلبها، وايجابها، لابد لها أن تنعكس على حياة الإنسان، وصيرورتها باعتباره، الكائن المعني بالتعايش، والإعمار، والمستفيد المباشر، من كل إيجابيات حركة التطور، على النحو الذي يواكب حاجاته المتجددة، ويمكنه من إشباعها، والتماشي مع جدلية علاقته بالوجود، وبكائناته المحيطة به .

ولما كان الإنسان كائناً مرهف الحس، خصب الخيال،شجي الوجدان،فإن تعامله مع حركة الحياة، بجدلية متشابكة، أمر لامناص منه ، حيث تتجسد تلك الجدلية، من بين الكثير من تجلياتها ، بالشعر، والأدب، والفنون بشكل خاص ، والتي لا يمكن
لفيوضات تلك التجليات الإنسانية،أن تكون شيئا جامدا، ومنفصلا، عن ارتباط الوجود الإنساني بالحياة أبدا .

ومادام الإنسان يعبر عن تفاعله مع واقع حركة الحياة، من خلال معايشته تحولات مرئياتها ، بالشكل الذي ما فتئ يهز وجدانه، ويوقد مخيلته، فإنه لابد له أن يعبر عن هذا التفاعل المتألق، بإبداعاته الأدبية بصور شتى، شعرا، او نثرا، حزنا، او سرورا، ترحا او مرحا، أو غير ذلك من أوجه التعبير السايكولوجية، او الإجتماعية .

وما دام الأمر كذلك، فلا ريب أن اتجاهات الأدب، تتغير هي الأخرى، بتغير توجهات الإنسان طبقاً لشكل رابطة العلاقة بينه وبين بيئة حياته ،حيث غالباً ما يكون الأدب وسيلة تعبير عن مشاعره في تفاعلاتها الوجدانية، مع لحظة حركة الحياة .ولأن الإنسان يحرص دائماً، على أن يكون التطور في الحياة لصالحه، فلابد أنه يحرص على توظيف الأدب لصالحه، ووضعه في خدمة المجتمع أيضاً ، وبالتالي فإن الأدب لن يكون أدبا محضا، متجردا من جمال الفن المحسوس، أو المستقرأ،في كل مشاهد حركة الحياة، وشواخصها،ولاسيما عندما يتفاعل معه الحس المرهف في اللحظة .

وربما يتمظهر هذا المعطى، وبمثل هذه الكيفية ، بشكل أكثر وضوحاً، بالتحولات المعاصرة في حياة إنسان اليوم، وذلك بفعل التطور التقني، والعلمي، والصناعي، والرقمي الراهن، المتسارع، والهائل، الأمر الذي جعل إنسان العصر يعيش في دوامة اضطرابات نفسية، واجتماعية، وثقافية، بعد ان غادر حياة الفطرة ،والعفوية،والبساطة، وابتعد عن نقاء البادية، وفضاءات الطبيعة،إلى صخب المدينة، وضوضائها، بل إنه بات يعيش أعباء اكتضاض تداعيات التطور، حتى في بيئة بؤر المجمعات السكنية الريفية الكبرى، الأمر الذي إختزل عنده روح التأمل، وعطل عنده إلى حد ما، حس التفاعل مع بهاء المكان، وايحاءات الطبيعة، وفرض عليه التكيف قسراً، مع مستجدات العصرنة، بأفقها المفتوح في كل الاتجاهات.

ولعلنا لا نجافي الحقيقة، عندما نقول ، ان المتلقي اليوم، لم يعد لديه الوقت الكافي، ولا الرغبة اللازمة، لتلقي النصوص المسهبة، ولذلك فإنه بات يفضل تلقي المقالات المختصرة، والكتابات الموجزة، ما دامت تمده بنفس المعلومة، وتفي بالغرض، حيث يلاحظ من خلال الاطلاع على مقالات الكتاب في الجرائد، والمجلات، والمواقع الإلكترونية، ومنشورات المتصفحين في الفيسبوك، جنوحهم بشكل واضح نحو الاختزال، والإيجاز، والتكثيف، في كتابة، وإبداع النصوص، التي يقومون بنشرها في أغلب الأحيان.

كما يلاحظ في ذات الوقت، ان المتصفحين من المستخدمين، أخذوا نفس المنحى في التكثيف والاختزال، في الرد، والتعليق على نصوص تلك المنشورات، عندما أصبحت غالبيتهم ، تميل إلى مجرد الإعجاب، او التفاعل فقط، باستخدام ايقونات الإعجاب، بأشكالها المعروفة، تاركين خلفهم أساليب الإطناب، والإسهاب.

ومع أن الإيجاز من أساليب البلاغة في اللغة العربية، التي تعكس الإبداع، والتميز ، بما يعنيه من قلة الألفاظ، الدالة على معاني كثيرة، حيث حاز الأسلوب على الثناء، ونال الإعجاب، باعتباره مناط اقتدار الكاتب في ابداع نصوصه ، حتى قيل في ذلك المنحى ،(خير الكلام ما قل و دل)، إلا أن قصر الإبداع عليه، وإبطال استخدام الاطناب، والإسهاب، او الإقلال من استعماله بشكل ملحوظ، ربما يعكس نضوبا واضحاً، وقصورا بائنا، في قدرات الكاتب على الإبداع.

وإذا كان هذا الأمر قد انعكس سلبا على مختلف جوانب حياة الإنسان المعاصرة، الثقافية، والاجتماعية، ليتخلى بالتدريج عن إبداع، وقراءة النصوص المسهبة، بما يمكن أن تتضمنه من صور متعددة ، ومعاني مضافة، وليكتفي بإنشاء، وتلقي، النصوص الأدبية، والمقالات القصيرة،فإنه يبدو ان هذا الملحظ، قد أصبح بشيوعه، وموضوعيته، ثقافة عصر .