الأدب … بين الأحقية الأصلية , والترجيح لغايات اخرى

الأدب … بين الأحقية الأصلية , والترجيح لغايات اخرى

وانا ممهور بالتجوال في كل يوم جمعة , وبخاصة في السوق الذي يحمل هذا الأسم الجميل , صوّبت نظري الى طاولة , ميز , لماكنة سنجر قديمة ذكّرتني بأهلها الطيبين الأولين وبخاصة السيدان البير وكرابيت اللذان كانا من اشهر المشتغلين على صيانتها وبيعها في العشار , مركز مدينة البصرة , معروضة للبيع , وكانت بلا ماكنة  , فإستحسنتها تكون طاولة افترش عليها غطاء مزخرف , ثم اضع بعض التحفيات الصغيرة فوقها , لتأخذ مكانها الجديد في غرفة الجلوس كأني اضع السيدين الكريمين أمامي لما بقي من العمر .

وعلى الفور قفزت الى ذهني  فكرة ان هناك شيئآ يُصنع بأحقية لغرض محدد , وهناك ترجيحية أو افضلية Preference   اخرىتخالف الغاية الأصلية  , أي  انها ترى الأحقية        Original purpose في توظيف الطاولة لتكون مكانآ لماكنة      خياطة  , تنتهي ومعها  وظيفتها المحددة ( لماكنة الخياطة ) عبر الزمن وتغيّر احوال الناس من ناحية , فضلآ عن إنتهاء حق صانعها لتصبح من حق المشتري ان يرجّح لها او يفضّل لها توظيفآ آخر بغايةتخالفها على قدر ما يشاء ولو بعد ساعات من صنعها احيانآ من ناحية اخرى .

بهاتين الفكرتين; الأحقية والترجيحية ( الأفضلية ) , رجعت الى حالة الأدب الذي يجمع الناس على استحسانه , لأجد ان انواعه عندماتقرأ بشروط القاريء البالغ سن الرشد ,  ليتوصل الى المبتغىالذي يدعو اليه الكاتب وخاصة في الشعر , ان المبتغى يبقى للشاعر الذي كتبه بذائقة نفسه وحواسه الشعرية , بإستخدامه للألفاظ والمعاني الخاصة بالمدح والرثاء  والحماسة والغزل كأحقية لتلك الغايات الأربعة .

ولكن نظرآ لتحوّل احوال الناس وتغيّرها  بمرور الزمن , تحتَّم  ان تتغيّر استخدامات الألفاظ والمعاني  لتتحول مثلما تحولت الموشحات الأندلسية من الغناء , كأحقية , الى ادب رصين ومستقل , كترجيحية او افضلية , وهذا ما فعله ابو نؤاس في تبديل الغرض الشعري الخاص بالفخر والحماسة والنسيب والبطولات , كأحقية , الى أحقية المتعة بالخمر واللذة , كترجيحية او افضلية منه , والمتنبيكذلك , رجّح ( فضَّلَ ) الفخر الذاتي على المديح العام ( كأحقية ) ,

إذن من حق القاريء ان يُرجّح غاية غير الغاية التي حددها الشاعر او الكاتب والتزم بها بذائقته الشعرية وحاجته عند الكتابة , وخاصة في النصوص الدينية والأخلاقية , وهو بهذا لايعني ان من حقه تأويل غاية الشاعر كما اعتاد فحسب , بل من حقه ان يفضّل بالنص غاية أخرى مغايرة لغايته الأصلية ليصنع بها ادبآ مستقلآ ( بأحقية لنوع ادبي آخر ) , مثلما فعلنا بطاولة ماكنة  السنجر القديمة , مع الإبقاء على النص الديني والأدبي كما هو .

من هنا تحوّلت ايضآ , وعلى يد الشاعر الأردني امجد ناصر قصيدة الشعر الى قصيدة نثر عندما سنحت لها ظروفآ جديدة , فكتبها في مجموعته النثرية الأخيرة ( حياة كسرد متقطع )عام 2004 , على الرغم من رفضها في باديء الأمر من قبل العديد من الشعراء ولحد الآن , إلا ان الرافضين لها عدلوا , عبر الزمن , عن ذلك واقرّوا لشرعيتها وصار المرجّح , الأفضل , ان تقرأ كقصيدةمستقلة رغم خروجها عن الشكل التقليدي , ولنزار قباني وادونيس  وغسان كنفاني ومحمود درويش , حصة في الفكرتين الآنفة بالذكر , إذ انهم عمدوا الى ذلك كلآ الى مبتغاه واهدافه في الحياة سواء كانت سياسية او اجتماعية أو دينية ,

فالقباني حوّل قصيدة الغزل بغاية العفة والتلميح الأصلية   الى خطاب  علني وجريء , والحب تحوّل عنده الى ثورة على التقاليد الإجتماعية , وليس مجرد علاقة شخصية , وادونيس حوّل القصيدة الى طائر حر , والشعر حوّله الى بحث روحي وفلسفي , وغسان كنفاني في رواية ( رجال في الشمس )  جعل من السرد الروائي اداة لمقاومة المحتل , ومحمود درويش حوّلَ القصيدة من  نص وجداني ( كأحقية ) الى خطاب سياسي ووطني وثقافي ( افضلية ) من دون ان يختفي لونها الفني .

وبمفهوم مشابه لهاتين الفكرتين , طرح الفيلسوف الأسكتلندي وليم بارت فكرة ” موت المؤلف ” ليبدأ النص المكتوب حياة اخرى جديدة حسب تأويل القاريء ولكن ليس بالترجيحية أو الأفضلية , أي لا يوظف للنص احقية جديدة وبنوع آخر من الأدب .  لذلك , فالقاريء مرة يعيد تأويل النص الى غاية تبتعد عن نيّة الكاتب  , ومرة يعيد كتابته بغاية ادبية جديدة  او سياسية او لاهوتية , كما يريد ان يراها  تمامآ مثلما يعيد قراءة اللاهوت الى قراءة ادبية , وهذا مافعله ادوارد سعيد وهارولد بلوم وادونيس ,

وما فعله البعض من القراء بالترجيحية الذين فسروا رواية  ” الغريب ” لألبير كامو ,  كتمرد سياسي او نقد للإستعمار الفرنسي  , أما نيّة الكاتب فلم تكن  كذلك بالضرورة , وبعض القراء فسروا قصيدة ” انشودة المطر ” للشاعر بدر شاكر السياب , انها نبوءة عن ثورة وتحرر من الإستعمار , رغم ان السياب كان يعيش صراعات داخلية في نفسه شخصيآ .

ختامآ  , لم تعد الأحقية في كل  حقول الأدب وحدها تتحكم  بالوظيفة والمعنى , بل ان الأرجحية , التفضيلية , غدت هي التي تتحكم بالأشياء المادية والمعنوية  من ناحية , وبالنصوص الأدبية تمامآ  مثلما تحكّمنا  ( بأفضلية )  ان تكون طاولة ماكنة السنجربأحقية وظيفة اخرى في غرفة الجلوس من ناحية اخرى , ولولا الأرجحية أو التفضيلية في تغيير احقية وظيفة الأدب الى ادب جديد , لما انجب كبار النقاد والمبدعين  , ولولا تغيير الوظيفة والمعنىلكرسي المسؤولية , مثلآ ,   لما وجدت الثورات والإنتفاضات في الجوانب السياسية والثقافية والعلمية للحياة  .

أحدث المقالات

أحدث المقالات