أنبهرتُ وأنا أطالع فصول من كتاب (الغربال الجديد ) للأديب العربي ” ميخائيل نعيمه” وهومفكر وواحد من الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية للأدب العربي ، تعرض لمنجزات أدباء الشرق والغرب بنقد ذاتي بجرأة أديب متمكن لهُ أكثر من 34 منجز أدبي ، يقول في مكسيم غوركي أنهُ مؤسس المدرسة الواقعية الأشتراكية وناشط ثوري من خلال رواية الأم والقاع.
مسرحية غوركي ( في القاع ) تعتبر أول دراما في الأدب الروسي بمعالجة القضايا الأجتماعية والفلسفية ، فوجدته في الفصل الثاني من كتابه القاع أو الحضيض في نشوب الأختلافات والمناكفات بين سكان الطابق السفلي حول ( الضمير والشرف ) فيتدخل غوركي على لسان بطل المسرحية ( بافل ) تهدئة الضجيج بشعار ( الآتي أجمل ) بأنتظار الأمل بأشراقة الغد ، فهو الأديب الحالم بحل لغز الصراع الطبقي بين اللبراليين المنحرفين وبين المثقفين الحقيقين الصامدين هم الذين ينورون طريق التحرر والذي هو سيمياء عنوان مقالتي في أيحاءات مكسيم غوركي عن ماهية الأديب وموقعهُ في التغيير القادم .
أن مسرحية غوركي (في القاع أو الحضيض ) جاءت تحدياً وفاضحاً للنظام القيصري الأستبدادي الأقطاعي ، وثمة قطارٍ يقودهُ أرعن يسحق الناس ويشوّه أرواحهم ، بلغ غوركي فيها الذروة لا تقل عن رواية الأم ، أختار للمسرحية قبواً قذراً رطباً منعزلاً ضيقاً أستعمل كمبيت تمتلكهُ أمرأة جشعة شرسة متهالكة على المال ، يأوي خليطاً غير متجانساً من البشر فكراً ونزواتاً وطباعاً تكوّن نفايات بشرية ميتة حيّة ذات نزواتٍ مختلفة ، فكانت رمزية غوركي في رواية ( بالقاع ) جغرافية روسيا ، أما الكائنات الحية الميتة الشعب الروسي المستلب والمسحوق ، لذلك مُنعتْ من قبل الحكومة القيصرية بعد أن عُرضتْ أكثر من ثلاثين مرّة .
وفي رسالة للينين إلى مكسيم في 16-11-1909 {بودي أن أشد على يدك بقوة فقد عادت موهبتك الأدبية على الطبقة العاملة الروسية وغير الروسية بالنفع العظيم ، ولدي أمل أننا نلتقي معاً —- لن نلتقي كأعداء بل كرفاق في الكفاح ، وبدلالة شهادة أخرى من ستالين الذي يبدو أنهُ متأثراً بمسرحية غوركي ( بالقاع ) أستوحى منها ” أن الأدباء مهندسو النفوس البشرية ( يقصد مكسيم ) .
مكسيم غوركي Maksim Gorky
1868 – 1936 أديب روسي وناشط سياسي ماركسي ، مؤسس الواقعية الأشتراكية التي تجسّدْ النظرة الماركسية للأدب ، حيث يرى ” أن الأدب مبني على النشاط الأقتصادي ” في نشأته ونموه وتطوره ، وأنهُ يؤثر في المجتمع لذا ينبغي توظيفهُ في خدمة المجتمع ، وهو في طليعة أدباء عصره في أستقراء وتبني هذا الرأي كنظرية علمية في عالم الأدب والثقافة .
فهو قصصي وكاتب وناشط سياسي ماركسي الهوى والأنتماء ، عارض علناً النظام القيصري وأعتُقل مرات عديدة ، وسُجن أكثر من مرّة إلى أن بزغتْ ثورة أكتوبر 1917 المظفرة ، فأعطاها كل ما يملك من عبقرية وحيوية ، وكرس نضالهُ الثوري ما تبقى من عمره حتى سقط مغدوراً بيد أحد التروتسكيين في 18 حزيران 1936 ، وقربه وصداقته لرموز الدولة السوفيتية مثل لينين الذي أصبح الصديق الشخصي له ، وستالين ومن قادة الحرب والدولة ، ووقف إلى جانب حزب البلاشفة ومن مؤيدي الحركة الأشتراكية الديمقراطية في روسيا ، وشارك فعلاً في ثورة 1905 ، وسخر قلمهُ في دعم خطهم السياسي ضد المنشقين والتروتسكيين ، فهو نذير الثورة الذي بشّر بهبوب العاصفة الثورية بقلمه الذي خط به خطوط الواقعية الأشتراكية ، كان ثورياً ساهم بشكلٍ فعال في أشعال الفتيل الثوري ، حيث كتب عدة مقالات ثورية يقول لافيها : — مزيداُ من الجرأة أيها الرفاق — مزيداً في الأيمان بقوة الجماهير الثورية التي في طليعتها البروليتاريا ، وأن العذاب النفسي الذي تلازم مع مكسيم والمحتبس في ذاته منذ طفولته المعذبة بفعل التسلط والصراع الطبقي في المجتمع الروسي ، خاض تحدياتٍ نضالية وكفاحية خطيرة — بيد أنهُ ربحها رواية ” الأم ” كتبها مكسيم بعد فشل ثورة 1905 وقبل ثورة أكتوبر المجيدة ، وقد وصفها لينين يأنها جاءت في وقتها ، صوّر غوركي العمال الكادحين بمظهر قوي كعملة نادرة مطلوبة عند الدولة كذراع يحرك أقتصادها بعكس ما ينظر بعض الكتاب إلى العمال بأنهم يستحقون الرحمة والعطف ، تمكن في رواية الأم من فضح النظام القيصري القائم على الظلم والأضطهاد من خلال الحديث الشيّق والمنمّق بواقعية من خلال ( ميخائيل بلاسوف ) الذي عاقر الخمرة للهروب من واقعه المرير كأحد العمال البائسين فهو سكير لا أبالي عنيف يكره الأخرين حتى أفراد أسرته ، غير مهتم بما يجري حوله ، وجعل أم ( بافل ) هي بطلة الرواية تتحول فيما بعد إلى مناضلة بعد موت زوجها الشرير ميخائيل بلاسوف ونفي أبنها ( بافل ) إلى سيبيريا كسجين سياسي ، فهي تعلم أن الدموع لا تنضب في عيون الأمهات ، رغم خوفها وقلقها على مصير أبنها ، ألا أنّها تشعر بالفخر بأبنها وهي تشاهدهُ يرأس الأجتماعات السرية ويتحدث بأشياء لا تفهمها ، وعندما سُجن أبنها تابعت مسيرتهُ ، وأصبحت توزع المنشورات السرية التحريضية ضد النظام مع أصدقاءه ، وتبنت القضية وأصبحت كغيرها من الرفاق المناضلين متفهمة معنى التحرير فأندفعت أكثر وحين تجد جمهرة من العمال والكسبة والفقراء تندس بينهم وتخطب فيهم قائلة : تعرفون أيها الرفاق لماذا صدر حكم النفي على أبني ؟ لأنهُ يريد أن يبين لكم الحقيقة التي هي عملكم المضني وسرقة جهودكم و قواكم ولا يكون نصيبكم ألا المرض والجوع والفقر ، كل شيء ضدنا ، والجميع يستغلوننا ، وفيما نحن نغرق بالوحول حتى آذاننا بينما نرى التخمة والترف على الطبقة البورجوازية الطفيلية ، وبينما كان الكاتب غوركي منهمكاً في كتابة الرواية يصمتْ برهة ويضع قلمهُ جانباً ويتمتم : متى يا رب يكون عندنا أمهات يفرحن في حين يرسلن أولادهن إلى الموت من أجل الأنسانية ؟ .مثل هذه الأم التي رسم لها غوركي أن تكون صمام أمان للبروليتاريا لكسر القيود وهدم قلاع القياصرة بالثورة البلشفية ، عندها لن يستطيع أحد من أن يغتال روحاً جديدة بُعثتْ من جديد .