22 ديسمبر، 2024 7:15 م

الأدارة الرشيــــدة

الأدارة الرشيــــدة

فاجئتنا الأحداث التي وقعت بخطى متسارعة ما بين (٢٠١٧/٩/٢٥) الأستفتاء الكوردي و (٢٠١٧/١٠/١٥) دخول القوات الأتحادية الى مدينة كركوك ، ووضعتنا ووضعت الأحزاب السياسية في أرباك واضح لفهم ما يجري من تغيرات آنية على أرض الواقع ، وتكمن الصعوبة في ذلك لعدم وجود تفسيرات واضحة للمواقف المتناقضة التي أبداها كل طرف ، فالتناقض غير مفهوم في تعنّتْ أربيل على الأستفتاء والجهات الداعمة لها ، والزيارات المتكررة للسيد البارزاني الى كركوك ولقائه مع قيادات البيشمركة وأرساله رسائل الدم ، وموقفه الواضح بأنهاء الشراكة مع بغداد والمادة (١٤٠) ودعوته لبغداد بالحوار لما بعد الأستفتاء لوضع الأسس الجديدة للتعامل كدولة مجاورة ، وبتأييد معظم الأحزاب المتآلفة معه ، وبالمقابل أصرار بغداد على عدم دستورية القرارات المتخذة من قبل أربيل ، وضرورة الحوار بالطرق الأصولية تحت سقف الدستور وخارج نطاق الأستفتاء والأنفصال ، وكان موقف بغداد واضحاً وموحداً من خلال سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ، أضف الى ذلك الموقف المتشدد لدول الجوار مع ملاحظة المواقف المختلفة للدول العظمى ما بين صامت ومحايد ومؤيد وأزدواجي . ولكن تمسك الطرفين بخياره وبنفس الأصرار أوصلنا الى قناعة أن أربيل قد أخذت جميع النتائج المتوقعة بنظر الأعتبار وأن بأمكانها فرض واقع الحال وأن الجميع في النهاية سيتقبلون الوضع الجديد بما فيها بغداد التي وضعتها أربيل في موقف لا يُحْسَدُ عليه ، ولكن تبيّن لاحقاً أن أحد الطرفين كان يمسك بالخارطة بوضع مقلوب ، وأن رهان أربيل بالرغم من التحذيرات الواضحة التي نقلها وزير الدفاع البريطاني أثناء زيارته الى أربيل قبيل الأستفتاء بأيام ، وتلويح أمريكا الظاهري بعدم تأييده للسير بهذا الأتجاه والتأكيدات الأيرانية والتركية بضرورة التراجع عن هذا الموقف كان الرهان الخاسر ، وأن عمى الألوان الذي أصاب أربيل هو الذي أوصلها الى تقديرات خاطئة ، لأن معظم الدول ذات العلاقة بالشأن العراقي كانت تتعامل باللون الأبيض مع بغداد وأربيل على السواء ، في الوقت الذي كانتا تسيران بخطين متوازيين وبنفس الأتجاه ( عدا تركيا التي كانت تتعامل باللون الأسود مع بغداد وباللون الأبيض مع أربيل) ، ولكن أربيل أخطأت في تقاطعها مع بغداد مرتين فأخطأت في التوقيت ، وأخطأت في أختيارها لنقطة التقاطع ( كركوك ) ، وتحولت مواقف جميع الدول من الأبيض والرمادي الى اللون الأسود مع أربيل . وأستدركت بغداد هذا الموقف وسارعت لأستغلال هذه الفرصة ، لتزجٌ بقواتها التي أستقدمتها لأجل تحرير مناطق غرب كركوك من داعش بحركة ألتفافية من ناحية الرشاد الى ناحية البشير وناحية تازة وتشكل تحشٌداً في المداخل الجنوبية للمدينة وتقدم بطلب دستوري الى أربيل وتمهلها مدة ( ٤٨ ) ساعة للأنسحاب من المواقع التي تعود للحكومة الأتحادية بموجب الدستور مع عدم المواجهة والمجابهة ، عندها أدركت السليمانية خطورة الموقف نتيجة عدم تكافؤ القوات المتواجدة ، والمواقف الدولية من الأزمة ، وأن موقفها الداخلي ليس أفضل حالاً بسبب رحيل قائدها ومهندسها وتشتت قياداتها وهيمنة أربيل على القرارات ، فقررت وبحركة ذكية من قادتها ( والفضل يرجع لتدخل الطرف الثالث ) الأنسحاب من المواجهة لتدخل القوات الأتحادية مدينة كركوك وتعيد أنتشارها خلال ساعات .

ماحدث في كركوك كانت نتيجة ألتقاء جميع الخطوط في نقطة واحدة ، تعادلت فيها القوى وألتقت المصالح الأقتصادية لطرف مع مصالح الأمن القومي لطرف آخر مع مصالح سياسية لطرف آخر ، مع مصالح سيادية لطرف آخر ، والمهم أن النتيجة النهائية تحققت بدون سفك دماء . والخاسر الوحيد في العملية هو أربيل ، إذا ما أعتبرناها خسارة آنية ، لأن المحاولة في نظر أربيل كانت تستحق المجازفة ، وأنهم سينسحبون عاجلاً أم آجلاً من كركوك ، ولكن أنسحاب مع تتويج الحلم الكردي بزرع بذرة الأستقلال وتحت أستحقاق ( الأستفتاء ) لم يكن ليتحقق بشكل أصولي ، وما تبقى من الحلم سيتم تحقيقه وتوفير الرعاية لهذه البذرة في المرحلة القادمة من خلال المادة ( ١٤٠ ) الدستورية .

ولكي نفهم حقيقة ما يجري الآن ، علينا أن نفهم ماهية نقطة الألتقاء هذه ( كركوك ) وعلينا أن نطرح السؤال الآتي (( هل أننا مازلنا في مرحلة الأستعمار ؟؟ أم أنتقلنا الى مرحلة الأستحمار ؟؟))
كما يقول الدكتور شريعتي ، ولأجل الأجابة علينا أن نرجع بالتأريخ الى بدايات القصة ، وخصوصاً للأعوام ( ١٨٦٠ ) عندما بدأت فكرة الأستكشافات النفطية الغربية في دول الشرق ، وبدأت المنافسة بين الألمان والبريطانيين للقدوم والحصول على أمتياز التنقيب عن البترول ، والتي تكللت بتأسيس شركة النفط الأيرانية – البريطانية عام ( ١٩٠٠ ) ثم بدأت المنافسة مجدداً للحصول على أمتياز التنقيب في الأراضي العراقية ( العثمانية ) خلال الأعوام ( ١٩٠٥- ١٩١٢ ) ولكن سرعان ما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وانتهت بخسارة الدولة العثمانية والألمان في الحرب ، ودخول العراق تحت الأنتداب البريطاني . ثم أعقبها دخول منافسين جدد من الشركات الفرنسية والأيطالية والهولندية ، في هذه الساحة ، وبعد مفاوضات عسيرة وأستناداً الى وعدٍ أطلقها وزير المالية في الدولة العثمانية للبريطانيين ( على شكل رسالة قبول ) ، تقدمت مجموعة من الشركات المتحدة آنذاك للتفاوض مع الحكومة العراقية وبتوصية من المندوب السامي الى الحكومة العراقية أنذاك حتى وصلت الى درجة التهديد للحكومة العراقية بالتنازل عن ولاية الموصل لتركيا في حال عدم موافقة الحكومة العراقية على التعاقد . وأستمرت المفاوضات من ( أيلول/ ١٩٢٣ ) ولغاية ( آذار/ ١٩٢٥ ) بأصرار الجانب العراقي على حق التملك بنسبة من البترول المستخرج ، وتم توقيع الأتفاقية بتأسيس شركة نفط العراق ( IPC ) ولأمتياز مدته ( ٧٥ ) سنة وبنسبة (٢٠٪ ) للعراق وبسعر (جنيه أسترليني واحد ) لكل ( ٣٨ ) برميل والذي تم تعديله لاحقا بأتفاقية جديدة عام ( ١٩٣١ ) . وفي ( حزيران/ ١٩٢٧ ) بوشر بحفر أول بئر في حقل كركوك ، ليتدفق النفط بأرتفاع ( ١٤٠ ) قدم بعد أنفجار البئر بتأريخ ( ١٩٢٧/١٠/١٤ ) ليدخل العراق في مرحلة تأريخية جديدة . ويعتبر نفط كركوك من النوع الخفيف ذات الجودة الجيدة ، ويقدر أحتياطي كركوك بـ( ٤٠٪ ) من أحتياطي نفط العراق و ( ٧٠٪ ) من أحتياطي غاز العراق ، والطاقة الأنتاجية لحقولها عالية حيث يقدر الخزين بحدود ( ١٦ ) مليار برميل ، ومن المتوقع أن يستمر الأنتاج من حقول كركوك للسبعين سنة القادمة !!!!

هذه المعلومات هي من أحدى المواقع الألكترونية ، لأنني مثل غالبية أبناء الشعب العراقي لا أمتلك المعلومات التفصيلية الكافية عن البترول وحقوله والطاقة الأنتاجية والجهات التي تقوم بالتنقيب وكيفية أدارتها ……الخ ، ولا أعلم هل أن السياسة النفطية ، الذي يشكل المصدر الرئيسي لميزانية العراق والدخل القومي لأبنائها في أيدي أمينة ؟؟؟ ولكن بعد أستعادة الحقول النفطية في كركوك بيومين وجهت وزارة النفط العراقية دعوة الى شركة ( bp ) البريطانية الى الأسراع بوضع خطة لتطوير حقول كركوك ، التي كانت قد توصلت الى اتفاق سابق عام ( ٢٠١٣ ) بشأن الموضوع قبل دخول داعش ، في رسالة واضحة ( هذه بضاعتكم رُدّتْ إليكم ) !!!
ومن الواضح أن مكامن البترول معروفة لدى الشركات الأجنبية ، وأن مستودعه ومجراه ومرساه واضح ومحدد ، وليس المهم من سيكون الوسيط ، بل المهم أن تكون الأيدي أمينة ، ويمكن لأصحاب البترول الشرعيين أن يعلنوا التأميم على ثرواتهم ويجعلوا من نسبتهم (١٠٠٪ ) ويمكن أن يكون المفاوض العراقي متمكناً في أخراج القوات التي قدمت من آلاف الكيلومترات لخلاصهم من الدكتاتورية ، ويمكنهم الأحتفال بيوم السيادة ، ولكن في كل محاولة سيجدون الحروب والتشريد في أنتظارهم ، وسيجدون أراضيهم مستباحة ، وسيكتشفون أن خزينتهم فارغة ، وستفاجأهم أقرب الدول المجاورة إليهم بمواقف عدائية ، وإن تم الأحتفاظ على الأمانة ، فسيتم توفير الأسلحة وتحرير الأراضي ، وتتبخر الأعداء ، وستنتعش الخزينة ، وستصل القوات الأتحادية أينما تريد ، وستنسحب من أمامها قوات البيشمركة من دون إثارة طلقة واحدة ، وستشرع الجيران بالأستقبال بحفاوة وتقدير ، وهذا ليس تنقيصاً من قدرة أحد ، ولكن هذه هي المعادلة الوحيدة المتاحة أمامنا منذ زمن ( السير بيرسي كوكس ) وكان علينا أدراكه .

وبالرغم من أن خطة الدولة منذ تشكيلتها الجديدة بعد عام ( ٢٠٠٣ ) متجهة نحو اللامركزية ومنح الصلاحيات للأقاليم والمحافظات في أدارة أمورها ، فأن تجربة كركوك ستجعلنا نشهد تغييراً في المرحلة القادمة في عملية فصل الملفات ، وسيتم التعامل مع ملف الثروات من قبل الحكومة الأتحادية بمركزية قاتمة ومقيتة مع المحافظات ، مقابل لامركزية مفتوحة في ملف الأدارة المحلية ، والى أن يحين الوقت لتنظيم البيت الكركوكي ، وأعادة تنظيمه ، وأقرار النظام الخاص به ، الذي تم تأجيله لأسباب لم تنتفع منها غير الأحزاب السياسية وأصحاب الأجندات الخاصة ، والمتضرر الوحيد كان المواطن الكركوكي ، والى أن يحين ذلك الوقت نتمنى من الحكومة الأتحادية ، مثلما سيطرت على منابع البترول وحقوله ، وأَمّـنتْ على دخل أبناء شعبها ، ودخل الأجيال القادمة ، نتمنى أن تؤمّن المستقبل الآمن لأبناء كركوك ، وتوفّر الأستقرار ، وتقتل الأحتقان ، وتخلق الألفة الحقيقية بين مكوناتها ، لا الألفة المزيفة ، و( التآخي ) الوهمي الذي جعلوا منه شعاراً للمدينة ، وهذا لن يُـنْجزْ إلا من خلال تحقيق العدالة والأنصاف للجميع ، من دون هيمنة أحد على أحد ، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تعامل الحكومة الأتحادية بمركزية مع كركوك للفترة القادمة ، لحين أقرار الأدارة الرشيدة فيها .