22 ديسمبر، 2024 7:10 م

الأخوة الأعداء يتقاتلون على أرض الأردن في أيلول/1970

الأخوة الأعداء يتقاتلون على أرض الأردن في أيلول/1970

ما ذكرناه بمقالتنا الرابعة
في مقالتنا الرابعة عن أحداث أيلول/1970، والمنشورة على صفحات موقعنا العزيز هذا يوم (10/11/2020)، والتي سردنا فيها تفجير “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” لثلاث طائرات على مهابِطِتها وسط صحراء “خَو” الأردنية بالقرب من مُخَيَّمات لوائنا المدرع/6، والقرار القاضي بعودتنا إلى مواضعنا المحفورة والجاهزة في ضواحي بلدة “المفرق” عصر يوم (الثلاثاء 15/أيلول/1970).
وقد ذكرتُ كذلك أننا -لحد ذلك اليوم- لم نستلم أية توجيهات تُحَدِّد تصرفاتنا الواجبة أو المحتملة إذا وقع ما يدور ببالنا من إحتمالات لا تُبَشِّر خيراً، لذلك كُنّا قلقين جراء عدم دِرايَتِنا عَمّا سنفعله إن وقع أيٌّ من التوقّعات السيِّئة والبائِنة في الأفق، وكيف سنتصرّف أَزاءَها!!!!
وودعتُ كتيبة خالد
منذ وصولنا الأردن قبل (39) شهراً، كانت السرية الأولى من فوجنا تتجحفل عادةً مع كتيبة دبابات خالد وتغدو تحت إمرتها كلّما تتطلَّبَ الأمر ذلك… ولكن لَـمّا إنتشر لواؤنا بالأرض السورية وأصبحتُ آمراً لهذه السرية فقد إستلمتُ قيادَتها وهي متجحفِلَةً مع هذه الكتيبة، حيث كنتُ بعيداً عن مقر الفوج بحدود (10) كلم، وبقيتُ بإمرتها لغاية هذا اليوم بعد إنقضاء (18) شهراًً.
أما اليوم فقد آن الأوان أن أودّع آمر الكتيبة “النقيب الركن عبدالعزيز الخطيب” وضباط مَقرِّه عائداً لإمرة الفوج الذي تَلَملَمَت سراياه، كما عادت السرية الثالثة بقيادة صديقي العزيز “الملازم أول علي محمد الشلال” بعد وداعه “الرائد الركن نعمة فارس المحياوي” آمر كتيبة دبابات المقداد، ليمسي فوجنا مجتمِعاً بكامل سراياه في قاطع واحد حُدِّدَ له في أوامر التنقّل من “خَو” إلى المفرق.
كيف أُرغِمَ الملك الحُسَين على القرار؟؟
تناقل البعض من متابعي أخبار الأردن، أن جَمعاً من كبار القادة العسكريين والأمنيين الأردنيين يقودهم “الفريق حابس المَجالي”، رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع السابق، قد توجَّهوا -مجتمِعين ومُسَوِّدين (مُصَخِّمين) وجوههم- إلى الملك الحُسَين في مُستَقرَِّه بقصر “رَغدان” ليعرضوا أمام أنظاره وأسماعه ما مَفادُه:-
يا سيِّدنا:- جلالتك مَلِك ممتاز وصاحب قرار ورأي ومن سلالة النبيّ محمد (ص) وسِبطِه الأكرم الإمام الحَسَن (ع)، ونحن نحبّك ونحترمك ونُبَجِّلُك، بعد أن أتى جدّك “الشريف عبدالله بن الشريف الحُسَين” إلى ديارنا ونُصِّبَ أميراً علينا قبل أن يُسَمّى مَلِكاً.
الأحوال السائدة في وطننا اليوم لا تُبَشِّرُ خيراً، فقد فلتت الأوضاع على أيدي أُناسٍ خارجين على القانون يرومون شراً لمملكتنا.
ونخشى ما نخشاه، أن جلالتك لا تستشعر بما نعانيه نحن ويعانيه الأردنيون، من حيث عدم إحساسك بإرتباط بهذه الأرض وأصالة دَمٍ وعِرقٍ مع أصحابها الأصيلين.
والآن نفرش أمام جلالتك -نحن قادة القوات المسلّحة- وجهاً لوجه وبكل صراحة، إمّا أن تتخذ قراراً بإعادة هيبة دولتنا وسطوة قوانينها إلى سابق عهدهما، أو تتنحّى جانِباً لنتّخِذَ نحن ما نراه مُناسِباً خلال بضعة أيام.
وإذا لم تَرضَ، فنحن مُجمِعُون على رأي واحد لا يُثَنّى، أن نجعلك وكل من ينتمي إلى عائلتك الهاشمية ترزمون حقائبكم لنُسَفِّرَكم مع متاعِكم إلى حيث أتيتم إلينا عام 1918… والقرار الآن لجلالتك.
آمر فوجنا يغادرنا إلى بغداد
وفيما كنا مجتمعين لدى آمر فوجنا “المقدم الركن طارق جلال القاضي” مساء اليوم نفسه لتنسيق الأمور قبل أن نتهيأ لتناول طعام العشاء مبكراً، فقد أُخبِرَ هاتفياً بوفاة عمِّه في “بغداد”، فمُنِحَ إجازة طارئة أمدها (5) أيام لحضور مجلس الفاتحة المقامة في مسكنه، فودّعناه سريعاً بعد مؤاساته، لِيُمسي “الملازم أول علي محمد الشلال” وكيلاً عنه في قيادة الفوج لحين عودته.
لم تكن هذه الإجازة الطارئة شيئاً مُلفِتاً رغم هذه الظروف المًحَيِّرة، ولكنها -من ناحيتي- ستكون سبباً في إقحامي بمهمة لم تخطر ببالي ولم أكُن راغباً فيها… وسنأتي عليها لاحقاً ضمن مقالتي هذه.
تشكيل حكومة عسكرية
رغم التعب والإرهاق اللذان إستشعرناهُما، فإن مُعظَمَنا لم يُفاجأ في صباح اليوم التالي (الأربعاء 16/أيلول) بمارشات عسكرية وأناشيد وطنية أردنية، قبل أن يبثَّ التلفزيون الأردني خطاباً مُتَلفَزاً للملك الحُسَين وهو يُقيل وزارة “عبدالمنعم الرفاعي” ويعلن حالة الطوارئ والأحكام العُرفِية في عموم البلاد، مُضيفاً إليه مَرسومَين آخرَين:-
الأول:- تعيين “المُشير حابِس الَمجالي” بمنصب القائد العام للقوات المسلحة والحاكم العسكري العام لعموم المملكة.
والثاني:- تشكيل حكومة عسكرية يرأسها “الزعيم (العميد) محمد داوود العَبّاسي” ((وهو فلسطيني من مواليد ضواحي القُدس))، وتسمية حاملي حقائبها بواقع (12) ضابطاً برُتَبٍ عالية ومتوسطة، تراوحت بين “لواء طبيب” في أعلاها ولغاية “رائد” في أدناها، تكون مهمّتها إتخاذ أية خطوة مُتاحة لإنقاذ البلاد من أوضاعها المتردّية.
الأجانب يُلَوِّحون بإستخدام القوة
كنا -نحن معظم ضباط الفوج- مجتمعين مساء ذلك اليوم في مبنىً عتيق متروك إتخذناه بهواً للضباط، نستمع إلى محطات الإذاعات والقنوات التلفازية المحدودة لتغطية هذا الحدث دون سواه، وقد إشتعلت جميعاً بتحليلات الخبراء ومراسلي وسائل الإعلام المسموعة والمَرئية والمقروءة، مع التركيز على إقتراب قطع الأسطول السادس الأمريكي من أقاصي شرقيِّ البحر الأبيض المتوسط لتضحى قبالة السواحل السورية واللبنانية وقُطاع “غَزّة”، ليبلغ عدد ما تحت إمرة قائد الأسطول ثلاثٌ من أحدث حاملات الطائرات الأمريكية “إنتربرايز، كونسْتلَيشِن، جون كَنَدي”، وهي تحمل ما مجموعه (252) طائرة مختلفة الطُرُز والأغراض، وقد إلتحق بإمرته كذلك لواء مشاة بحري (مارينز) بواقع (2340) عسكرياً محمولين في مَتن سفينة الصولة البرمائية الضخمة “آيوجِيما”، وبإستطاعتهم أن يُنقَلوا بـثلاث دفعات على متن (41) طائرة هليكوبتر ضخمة ومتوسطة تمتلكها السفينة لإنزالهم على أو بالقرب من أي هدف.
كانت الولايات المتحدة بهذه التحشيدات تُمارِس سياسة “التلويح بإستخدام القوة المسلَّحة” وفقاً لتصريحاتٍ متتالية تحتوي تهديداتٍ واضحة لا تقبل التأويل، بالتدخُّل الميداني فيما إذا إنخرطت أية دولة بالمنطقة أو خارجَها في الصراع المحتمل بين هذا الطرف أو ذاك، فيما نَحَت “بريطانيا” المنحى ذاته بتعزيز أسطولها المًصَغَّر والمُرابط بالبحر المتوسط بحاملة طائراتها “هيرمِس” المحمولة بـ(19) طائرة مقاتلة/هجوم أرضي، مع حاملة الهليكوبترات “بول وارك” وعلى متنها كتيبة واحدة من مشاة البحرية، ورسوِّهما بالقاعدة البحرية البريطانية في “قبرص”… في حين لم يُحَرِّك الإتحاد السوفييتي ساكِناً في هذا الشأن، وكأَن الشرق الأوسط لا يهمُّه لا من قريب أو بعيد!!!
أما وسائل الإعلام العربية التي كنا نتابعها فكانت ما بين مؤيِّد للفصائل الفلسطينية وتبُثّ بياناتهم الثورية، وبالأخص “سوريا والعراق”، وبين مؤيد للحكومة الأردنية ببيانات مُبهَمَة، وطرف ثالث وبالأخص “مصر” التي حاولت أن تظلّ محايِدة -ولو على إستحياء- توصي بالتهدئة وتدعو لعدم إراقة الدماء بين الأشقاء.
لماذا تتضارب الآراء؟؟
البعض من القراء الكرام الذين لم يؤدوا الخدمة العسكرية، يتصورون أن ضباط الجيش والقوات المسلّحة ومراتبه هم مغسولو الدماغ لا يمتلكون مشاعر وأحاسيس تدفعهم لمُناوَءَة طرف ما ومُواءَمَة آخر، إنما يندفعون إلى تنفيذ أية أوامر بمجرد ورودها من قادتهم، وهم أشبه بآلة “ريموت” تستقبل التوجيهات وتُنَفِّذ.
أن ذلك ربما ينطبق -بعض الشيء- بحق منتسبي الجيوش المُحترَِفة المتطوِّعين بشكل دائميّ في الخدمة العسكرية، وليست الجيوش المُعتَمِدة على الجنود المُكَلّفين لخدمة العَلَم لفترة محدَّدة يتسرَّح بعدها، والذين هم من مختلف أعراق وطوائف المجتمع، ويقودهم ضباطٌ إنخرط العديد منهم في السياسة وإنتموا إلى أحزاب متطرِّفة تحاول إصطياد الفرص للقفز على كراسي الحكم عن طريق السلاح… وهذا ما ينطبق على الجيش العراقي وبالأخص ضباطُه، سواءً أكانوا في الوطن أو نحن الذين خارجه، فقد توغّلت في صفوفه السياسة منذ ((شُبه الإنقلاب)) الذي قاده “الفريق بكر صدقي” عام (1936)، وبشكل تراجيدي وعنيف منذ إنقلاب 14/تموز/1958 وما تبعته من مآسٍ ومجازر وإنقلابات تكررت في عقد الستينيّات، فقد كان في صفوفنا ضباط بعثيّون، قوميّون، ناصريّون، إسلاميّون، يساريّون، وعِرقِيّون، ناهيكم عن المستقلين الذين كانوا الأكثرية عدداً لغاية ذلك الوقت، ويُضاف إليهم عدد ضئيل من الضباط الفلسطينيين برتبة ملازم على الملاك الدائم.
لذلك فقد شابت جلساتنا مناقشاتٌ وجِدالاتٌ غاضبة منذ أشهر، وإحتدَمَت في الأسابيع الأخيرة مع تصاعد الخلافات بين الأردنيين والفلسطينيين، فالبعض كان يحترق شوقاً للإنضمام إلى الجانب الفلسطيني ضد الأردنيين ما دام يبتغي تحرير فلسطين المحتلّة من برائن الصهاينة… وآخرون يعتبرون قادة المنظمات مَصلَحِيّين لا يأبهون سوى بالمناصب التي يتمتعون بها وقد أضحوا أصحاب نفوذ وجاهٍ وثَراء، وأن تصرفاتهم الراهنة خروجٌ على قوانين الدولة وليس تحريراً لـ”فلسطين المسلوبة”، وما تصريحاتهم بشأن المقاومة والفداء سوى تضليل للسُذَّج المخدوعين بطروحاتهم.
ومن المؤكّد أن الفصائل الفلسطينية إستبشرت بـ((المستقبل المُشرِق))، لذلك إندفعت من دون إكتراث بالنتائج التي قد تؤول إليها مثل هذه التحدّيات، معتمدين على وعود أعلنتها -بشكل خاص- القيادتان القوميِّتان لحزبَي البعث العربي الإشتراكي لدى كل من “بغداد ودمشق” جهاراً، بل وأصرّتا عليها في أدبيّاتهما المنشورة على صفحات صحفهما اليومية الناطقة بإسمَيهما، ناهيك عن حكومات عربيّة أخرى كانت تدفع الأمور في الأردن نحو الهاوية وتصبّ وقوداً فوق النيران.
ومن الأخبار المُثيرة التي توحي بإقتراب الصراع، فقد أُعلِنَ عن إتخاذ السيد “ياسر عرفات” زعيم منظمة التحرير الفلسطينية مقراً له في إحدى ضواحي “عَمّان” لقيادة فصائل المقاومة في الأيام القادمة.
وأكبر الظنّ أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية -وفي مقدّمتها “الموساد”- كانت تعمل عملَها في هذا المَرْتَع الخصب من الخلافات العربية-العربية، لأن مصلحتها العليا تقضي أن يُدَمَّرَ أيّ بلد عربيّ مجاور ويُقْحَم في إقتتال داخليّ ويُسال دماء شبابها وتتهرأ أجسادهم في ربوعه، في حين لا تخسر هي شيئاً، بل ترِبح من دون رأسمال أو مجازفة بأرواح مواطنيها، لأن كلّ قَتيل أردنيّ أو فلسطينيّ لا يُنْقِص إلاّ عدد المُناوئين لليهود ليس إلاّ.
ومثلما لم أنَم في الليلة السابقة، فقد كان الأَرَقُ والكَوابيس نصيبي في هذه الليلة، مُتَقَلِّباً في فراشي السَفَري حتى الفجر، ضارباً أخماساً في أسداس وأسباعاً في أَثْمان أُفَكِّر في أسوأ الإحتمالات، فلا بَصيص أملٍ لحلِّ هذه الأزمة المتصاعدة سوى المواجهة المسلّحة، إلاّ إذا تحقّقت مُعجِزةٌ ما في زمان إنعدمت فيه المعجزات.
ووقعت الواقعة
مع الإنذار الصباحي المُعتاد يومياً، وبالساعة السادسة من فجر (الخميس 17/أيلول) بدت إذاعة “عَمّان” الرسمية وكأن الأردن يخوض حرباً، فقد وقعت الواقعة.
لم يَكُنْ هناك داعٍ أن أنتظر أمراً من قيادة الفوج، لأوعز إلى ضباط سرّيتي أن يأمروا جنود فصائلهم بإرتداء قيافة القتال والتجهيزات، ويكونوا بكامل أسلحتهم داخل عجلات قتالهم المدرعة (BTR-50) إنتظاراً لأية أوامر فورية قد تأتينا.
فقد بدأ ما تَوَقّعناه، في وقت أدخَلنا أنفُسَنا بأقصى درجات الإنذار، بل وإستَحْضَرنا للحركة، مُتَوَقّعِين أنّنا سنُكَلّف في أيّة ساعة قادمة بمهمّةٍ ما،،،، ولكن لا إنذارَ بُلِّغْنا به، ولا أمر صَدَرَ إلينا بالحركة!!!.
كيف حُيِّدَ اللواء الثامن العراقي
وفيما بدأ الجيش الأردني وقواته الخاصة ومِظَلِّيّوه عملياتِهم التعرّضية في عموم المملكة، وفقاً لخطّة عنيفة من البديهي أنها وُضِعَت مُسبَقاً، وكان من إحدى بواكير خطواته أن حَرَّكَ بعضاً من عساكره بمدينة “الزرقاء” فَارِضَاً حصاراً حول المعسكر الأردني الواسع وبوّاباته الأربع، والذي تستقرّ في ثُكناته وحدات جحفل لواء المشاة الآلي/8 العراقي منذ نكبة حزيران/1967، مُنذِراً آمر اللواء بإلتزام المعسكر والبقاء في ربوعه وعدم التحرّك مطلقاً خارجه.
وبعد عرض آمر جحفل اللواء “العميد محمود بكر أحمد” الموقف هاتفياً على قيادة الفرقة، فقد أضحت وحداته مُحايِدة وخارج المعضلة.
قتال في أهم المدن
تناقلت الأنباء إشتباكات دمويّة داخل مدينتَي “عمان والزَرقاء” وضواحيهما منذ الفجر، وقتالاً وسط شوارعهما ومبانيهما وأزقّتهما بين وحدات من الجيش الأردنيّ ومظلّيّيه وصاعقته وحرسه الملكيّ المُسنَدين بالدبابات والمدرّعات والمدافع والهاونات وحتى الطائرات، وبين مقاتلين فلسطينيّين إحتلّوا مبانٍ عالية وسيطروا على عدد من الأحياء والمخيّمات ونَصَبوا “القَنّاصين” في العشرات من الأماكن المُشْرِفة، ونيرانٌ يصبّها هذا على ذاك تُقابلها من ذاك على هذا، وذلك إلى جانب قتالات بمستويات أدنى في مدن أردنية أخرى مثل “إرْبِد، السَلْط، جَرَش، عَجْلون، مَأدَبا” وسواها، تتوسطها بيانات متضارِبة -كالعادة- في أكثر من مَنحىً تُشير إلى ((إنتصارات)) على المُقابل من دون إخفاقات، بينما نقل البعض من الإذاعات العالمية تقارير مُراسليهم –الأصدق والأوضح– من قلب تلك المدن وأحيائِها وضواحيها، والتي أشارت إلى كون الصدامات لصالح القوات الأردنية لتفوّقها في كل شيء على ما لدى الفلسطينيين من أسلحة خفيفة ومتوسطة.
أمّا محطّات الإذاعة والتلفاز العراقيّات، وكذلك السوريّات، فقد قطعت برامجها المألوفة منذ الصباح وباتت تبثّ أناشيد قوميّة وأغانٍ فلسطينية وقصائد حماسيّة تأييداً للمنظّمات الفلسطينيّة وفدائيّيها المُناوِئين للحكومة الأردنية.

كيف إفتحم ضابط عراقي قاعدة المفرق الجوية؟؟
الواقع أننا إلتزمنا في عموم وحدات لوائنا المدرع/6 مواضعنا ولم نُحرّك ساكناً في أرض “المفرق”، قبل أن يقدِمَ صديقنا “الملازم أوّل عدنان عبد النافع” -المَحْسوب على التيّار القَوميّ- على تَصَرّف شخصيّ وينطلق من مواضعه في ضُحى ذلك اليوم، ومن دون إستئذان من أحد، ويقود دبّاباته الثلاث من مواضع “كتيبة المِِقداد” مُخترِقاً سياج سِلكياً يُحيط بـ”قاعدة الحُسَين الجويّة” قرب مدينة “المفرق”.
ومن دون أن يُبدي الأردنيّون أيّة مقاومة مُسلّحة حياله، نشِر “عدنان” دباباته على المدرج الرئيس الوحيد للقاعدة وتَسَبّب في منع الطائرات التي كانت تقلع منذ الصباح الباكر أمام أنظارنا مُحَمّلة بأنواع الأعتدة، ولم يسحبها إلاّ بعد تدخّل ضباط ركن من قيادة فرقتنا المدرعة/3 لتفادي ما لا يُحْمد عقباه مع الجانب الأردنيّ، وأقنعوه بضرورة العودة لموضعه المحدد بعد إنقضاء ما يزيد على ساعتين، قبل أن تعاود المقاتِلات “هوكَر هَنْتَر” الأردنية الإقلاع ظهراً.

إنسحاب الفدائيين من المدن
إنقضتْ ساعات اليوم الأوّل من دون أن نَتَلَقّى أية أوامر لإسناد الفدائيين، والذين تأكّد أنّهم كانوا يُبدون مقاومة شديدة بجميع الأسلحة المُتاحة بين أيديهم في العاصمة وغيرها، وكذلك مضى الحال في غضون اليومَين التاليَين اللذين لم نشهد خلالهما أي إقلاع للطائرات الأردنية من قاعدة الحُسَين الجوية، حتى تبيّن أن الجيش وقوات الأمن الأردنيّة باتت تُحْكِم قبضتَها على عموم البلاد، في وقت إضطَرّ مقاتلو المُنظّمات الفدائية الذين سَلِِموا من القتال أو الأسر للتراجع من المُدن الأردنية جميعاً والتوجّه نحو مدينة “جَرَش” الأثرية وتجمّعوا في ساحاتها وضواحيها وأحراشها والبعض من جبالها، فيما أغلَقَ الجيش الأردنيّ جميع الطرق العديدة النافذة منها وإليها، فأمسوا يُعانون من أوضاع مأساويّة لا يُحسَدون عليها، بينما تناقلت الأنباء عن مفاوضات مباشرة أو عن طريق وسطاء من الرؤساء “جمال عبدالناصر، جعفر النُمَيري، مُعَمَّر القَذّافي ، والأمير صباح السالم الصباح” مع “الملك الحُسَين” وحكومته التي كانت تُلِحّ على ضرورة تسليم جميع أفراد المنظّمات لأسلحتهم وترك أرض البلاد إلى حيث يشاؤون، في حين قيلَ الكثير عن تهريب السيد “ياسر عرفات” خِلسة من مقرّه في “عَمّان” بصحبة أحد الأمراء الكويتيين إلى “القاهرة” بالطائرة المخصصة لوفده.
إنتهاء المواجهات في المدن
وبينما أثَّرَ خبر إستقبال “عبدالناصر” في القاهرة لـ”ياسر عرفات” بصحبة عدد من مرافِقيه على معنويات مَنْ تبَقّى يقاتل من المُقاوِمين الفلسطينيين، حتى ترك سلاحه مُحاوِلاً الوصول سيراً على الأقدام إلى “جَرَش” لينضم لأقرانه المُحاصَرين فيها، وكذلك تواردت الأخبار عن هدوء مشوب بالحذر ساد عموم “الأردن”، والذي أعلن حاكمه العسكري العام “المشير حابِس المًجالي” مساء يوم (الأحد-20/أيلول/1970) عودة الحياة السويّة ورفع حظر التجوال في عموم المملكة، ناصحاً مواطنيه بممارسة أعمالهم الإعتيادية إعتباراً من نهار اليوم التالي.
وبذلك تنفسنا الصَعداء وسادنا الإعتقاد بعد (4) أيام مشوبة بالقلق والإستعداد لأي طارئ، بأن الأوضاع إستتبت نسبياً، فلا يُحتمَل من بعد هذا تحريك لوائنا أو أيٍّ من وحداته بعيداً عنً “المفرق” أو تكليفنا بمهمة مُضافة بالمستقبل القريب.
وجاء دورنا في المعمعة
تناولنا طعام العشاء مجتمعين في بهو الضباط ببعض الراحة، ولم نَعُد لنقاشاتنا الساخنة التي ظلّت قائمة لغاية الليلة الفائتة،‘ فبُعَيْدَ متابعتنا لآخر الأخبار مع منتصف ليلة (20-21/أيلول/1970) عائدين إلى ملاجئنا المتباعدة كلّ في قاطع سريّته، فقد توجهتُ إلى حُفرَتي وكُلّي أمل أن أرقد في فراشي لأغُطَّ بنوم هادئ وعميق حتى الفجر على أقل تقدير.
ولكن، وقبل إغماض جفوني، سمعتُ صوت صديقي العزيز “الملازم أوّل علي محمّد الشلاّل” -آمر فوجنا وكالةً- وهو يطلبني في حديث خارج الملجأ، حتى فاجأني بوجوب تحريك سريّتي فوراً لأكون بإمرة كتيبة دبابات المقداد لتنفيذ مهمة طارئة سيبلّغني بها آمر الكتيبة “الرائد الركن نعمة فارس المحيّاوي”.. ولمّا ذَكَّرتُه بأن سريته هي من تتجحفل مع تلك الكتيبة أسوة بالأعوام المنصرمة، فقد تذرَّعَ بكونه وكيلاً لآمر الفوج، إذْ لا يُعقَل أن يتركه من دون قيادة!!!
ولكن لهذا الحدث تشعّبات، لا بدّ أن نأتي عليها ونسرد تفاصيلها في مقالة سادسة قادمة بعونه تعالى.