22 نوفمبر، 2024 5:46 م
Search
Close this search box.

“الأخوة الأعداء” في العراق

“الأخوة الأعداء” في العراق

منذ شهر ونيّف تجتاح محافظات العراق الغربية والشمالية، تظاهرات واعتصامات أخذت بالاتساع والامتداد، بعد أن بدأت شرارتها الأولى من محافظة الأنبار، ثم انتقلت إلى محافظات صلاح الدين والموصل وكركوك وديالى وبعض مناطق العاصمة بغداد، ولاسيما في الأعظمية، حتى بدا المشهد السياسي وكأنه على الحافة .

لقد تعرّضت العملية السياسية منذ الاحتلال العام 2003 ولحد الآن، إلى تحدّيات كثيرة وتعثرات كبيرة، لكن ما تواجهه اليوم هو الأكثر حدّة، لأنه يتعلق بوجودها ومستقبلها، لا سيما بتدهور الثقة بين الأطراف المتحالفة “المتناحرة”، وحسب الروائي اليوناني كازانتزاكي بين “الأخوة الأعداء” .

وعلى الرغم من المطالب ذات الطبيعة الاحتجاجية والمطلبية للمتظاهرين، فإنها مع مرور الأيام وبتعاظم الزخم الشعبي، أخذت تكتسب مضامين سياسية، بحيث ارتفعت بعض الأصوات المطالبة بإبطال العملية السياسية برمتها، خصوصاً في مسألة رفع الحيف والغبن الواقع على أبناء عدد من المحافظات، ووضع حدّ لسياسة التهميش التي شملت السنّة بشكل عام، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين (الأبرياء) وإعادة النظر ب أو إلغاء قانون المساءلة والعدالة، الذي أدّى تطبيقه السيئ إلى حرمان عشرات الآلاف من حقوقهم، وإلغاء المادة 4 إرهاب التي تستخدم كيدياً وثأرياً ضد الخصوم السياسيين، وإلغاء اعتماد “المخبر السرّي” .

وكانت العملية السياسية قد تعرّضت إلى تعثرات كبيرة، ولا سيما بعد خروج القوات الأمريكية من العراق في نهاية العام ،2011 حيث ساءت علاقة القائمة العراقية مع كتلة دولة القانون، منذ أن حسمت المحكمة الاتحادية تفسير موضوع الكتلة الأكبر لصالح الأخيرة، وبموجب ذلك تمكّن نوري المالكي من الاحتفاظ بمنصب رئاسة الوزارة للمرّة الثانية، وتدخلت أطراف كثيرة، دولية وإقليمية، لا سيما واشنطن وطهران، لإحداث نوع من التوافق على تشكيل الوزارة التي بدت وكأنها استعصاء، حتى تم إبرام اتفاق إربيل بين قادة الكتل والقوائم والقيادات السياسية وإن ظلّت الوزارة غير مكتملة .

ووفقاً لاتفاق إربيل تقرر أن يصبح د . إياد علاوي رئيساً للمجلس الأعلى لرسم السياسات الذي استحدث خصيصاً له، ليضم الرئاسات الثلاث: لكن مثل هذا الاتفاق وصل إلى طريق مسدود حتى قبل تشكيله وإقراره برلمانياً، لأنه ولد وهو يحمل فيروس موته معه، لا سيما عدم دستوريته، فكيف يكون هناك رئيس فوق الرؤساء، الأمر الذي فجّر الأزمة وجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات .

ولاحقاً حاولت القائمة العراقية “المجروحة” وقائمة التحالف الكردستاني الإطاحة بالمالكي دستورياً عن طريق سحب الثقة منه بواسطة أغلبية 163 صوتاً في البرلمان، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، بسبب الاستقطاب الطائفي وشعور الأحزاب والكتل الشيعية بضرورة مواجهة التحدي بتحدٍ مقابل، كي لا يفلت الموقع ويتبدد من بين أيديهم .

وانعكس موقف “الأخوة الأعداء” على العلاقة بين دولة القانون والتحالف الكردستاني أيضاً، بل إن أمراً جوهرياً ظلّ معلّقاً أو مسكوتاً عنه بينهما، أصبح راهناً بحيث لا يمكن تأجيله أكثر من ذلك، وترافق ذلك مع حصول احتكاكات جديدة بين الحكومة الاتحادية، ممثلة برئيسها المالكي وإقليم كردستان ممثلاً برئيسه مسعود البارزاني، وارتبطت المشكلات والاشكاليات بصورة رئيسية في ثلاث نقاط أساسية:

الأولى- صلاحيات الإقليم وحدودها في ضوء الدستور التي ظلّت محطّ جدل وتفسير وتأويل من جانب الأطراف المختلفة، ولا سيما علاقة البيشمركة الملتبسة بالجيش العراقي .

الثانية- عقود النفط الموقّعة من جانب الإقليم واعتراضات الحكومة الاتحادية عليها، خصوصاً أنها عقود شراكة تتراوح نسبتها بين 18% إلى 20% للشركات الاحتكارية، وهي متصاعدة بارتفاع أسعار النفط، في حين أن حصتها في عقود بقية مناطق العراق تبلغ نحو 2% وهي عقود خدمة، وهذا فارق كبير، إضافة إلى تفسير المادة ،111 وما بعدها بشأن النفط، الواردة في الدستور، فضلاً عن تعطّل صدور قانون النفط والغاز على الرغم من إنجاز مسودته منذ أربع سنوات .

الثالثة- عائدية محافظة كركوك “والمناطق المتنازع عليها” ومصير المادة 140 من الدستور، التي ظلّت مصدر خلاف طويل وعميق، وقد يستمر لفترة طويلة .

لعلّ ما يحصل اليوم من توترات سياسية واحتدامات طرفية أو جهوية، مهما حملت من مطالب، مشروعة وعادلة، فإنها في نظر القوى المتسيّدة في الحكومة تحمل بُعداً فئوياً وطائفياً حتى وإنْ تحدثت عن المطالب المتعلقة بالخدمات، وخصوصاً الصحية والتعليمية ومسألة البطالة وهشاشة الأمن وضعف الدولة واستمرار تدنّي هيبتها وصعود نبرة التقسيم مجدداً باستعادة مشروع جو بايدن بأشكال مختلفة، والفساد المالي والإداري، وتفشي العنف والإرهاب . ولا تتوقف تلك الحزمة من المطالب والاحتجاجات عند حدود معينة، بل قد تضع العملية السياسية برمّتها في مهبّ الريح .

وإذا كان السيد مقتدى الصدر وكتلة “الأحرار” والمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم، إضافة إلى مرجعية النجف الشيعية قد دأبت على تبني خطاب وسطي وتوفيقي منذ اندلاع تظاهرات الأنبار ولحد الآن، لكن حل الأزمة المستفحلة، العميقة الغور، يحتاج إلى موقف أكثر حزماً، بحكم المسؤولية والقلق على مستقبل العراق ووحدته، خصوصاً وهو مهدد بالانزلاق إلى مستنقع الفتنة الطائفية التي تدقّ على الأبواب، وليس بعيداً عنها وعن تغذيتها التداخلات الخارجية .

لم يعد الحديث الإنشائي وحده كافياً، كما أن تكرار عبارات عفا عليها الزمن، من قبيل عدم وجود “الفوارق” بيننا والتصاهر التاريخي، وحل الأمور بالتي هي أحسن، فتلك خطابات لا تغني ولا تسمن من جوع، في ظل الخطر الداهم . إن درء الكارثة المحدقة لا يحدث بالدعاء ولا يمكن حلّه بالفتاوى والمواعظ أو بكلمات المجاملة وتبادل التحايا عن بعد .

أحدث المقالات