منذ عام 2003 والحكومة العراقية وموازناتها العامة تعتمد على دورة نقدية ثابتة تتلخص بشكل بسيط على المراحل الأربعة ألتالية :-
1. قيام وزارة النفط بتصدير النفط وتسلم الايرادات بالعملة الاجنبية الى وزارة المالية .
2. تتولى وزارة المالية بتسليم العملات الاجنبية للبنك المركزي العراقي مقابل الحصول على العملة المحلية وبسعر الصرف الرسمية وكذلك الاحتفاظ بجزء من العملات الاجنبية لتمويل الانفاق الخارجي .
3. تعمل وزارة المالية على تمويل نفقات الموازنة بالعملات ألمحلية .
4. يقوم البنك المركزي العراقي ببيع جزء من أرصدته بالدولار لاسترداد العملات المحلية من السوق العراقي .
وهذه الدورة الخاطئة ألحقت أفدح الضرر بالاقتصاد العراقي وأدت الى ضياع مئات المليارات من الدولارات في وقت يجب بقائها في إحتياطي البنك المركزي العراقي , صحيح ان الانفاق الخارجي يجب تمويله من إيرادات النفط لكونه يحتاج الى العملات الاجنبية , ولكن ليس من الصحيح ان يقوم البنك المركزي العراقي ببيع الدولار لاسترداد العملة المحلية من السوق ( لأسباب لا نريد الخوض في تفاصيلها في هذه المقالة ) , ولا نعرف من هو الذي وضع هذه الدورة الخاطئة وكيف أقنع المسؤولين في الحكومات السابقة على تبني سياسة استرداد العملة المحلية بموجودات قابلة للتهريب والخروج من البلد مثل الدولار ؟ الأمر الذي أفقد العراق ثرواته وأدى الى انتشار الفساد وصعوبة محاسبة الفاسدين أو استرداد الاموال المسروقة وتحول السلوك الاستهلاكي للمواطن باتجاه المواد المستوردة , إن المرحلة الرابعة المتمثلة ببيع الدولار من قبل البنك المركزي العراقي لاسترداد الدينار العراقي يجب ان تتوقف تماماً ويجب ان ينص على ذلك في قانون الموازنة الاتحادية .
قد يقول البعض ان موازنة مقترحة بمبلغ ( 200 ) ترليون دينار منها ( 170 ) ترليون بالعملة المحلية عام 2015 سوف تؤدي الى إغراق السوق المحلية بهذه العملة ويجب إستردادها بدورة بديلة , فما الذي سوف تقدمه الحكومة لاسترداد هذه العملة من السوق واعادة استخدامها مجدداً بدون الضغط على البنك المركزي العراقي أو طرح الدولار أو الذهب للبيع ؟, الحل بسيط جداً , وهو إن على الدولة ان تتخلى عن بعض موجوداتها بالبيع لاسترداد العملة المحلية , وهذه الموجودات تشمل الاراضي والعقارات والشركات وغيرها , وهذا يتم من خلال ادارة الخصخصة وطرح الأسهم في السوق للشراء مع سياسة تمويل كبيرة اضافة لعمليات البيع , ونذكر بهذا الصدد بأحد شيوخ الخليج الراحلين عندما واجه انتقادات لاذعة على قيامه ببيع الاراضي للمستثمرين فرد ساخراً , ان هؤلاء المستثمرين لن يستطيعوا تهريب هذه الاراضي خارج البلد , وإن إسترداد الدينار العراقي المطروح في السوق المحلية يتطلب إستخدام بدائل غير قابلة للتهريب , وأفضل البدائل هو تقليل موجودات الدولة لتحرير الاقتصاد العراقي , ولكن موازنة 2015 تصرفت بالضد من ذلك فوقعت في خطأ آخر .
ومن الموروثات في الفكر السلطوي زيادة ملكية الدولة , سواء كان هذا الفكر ملكياً أو اشتراكياً أو شمولياً لذا نرى ان الصراع على السلطة يكون حاداً أو دموياً في الغالب , أما في الدول ذات النهج الديمقراطي فإن الملكية الحكومية تكون في أدنى مستوياتها ويتم التركيز في هذا النهج على السلطة التنظيمية لذا يكون الصراع على السلطة اقل حدة , وقد اصبح معروفاً ان الفارق الاساسي بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة يتمثل بمقدار الملكية , وكلما زادت ملكية الدولة ازدادت تخلفاً , لقد ورثت الدولة العراقية منذ ايام الحكم العثماني الرغبة في التملك , لذلك ركزت الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 جل اهتمامها على زيادة ملكيتها حتى جاء الحكم الشمولي الاشتراكي عام 1968 ليزيد من هذا الاهتمام ويمنح نفسه صلاحيات واسعة لمصادرة كل شيء ومن دون تعويض .
وقد كان متوقعاً بعد عام 2003 ان تتخلى الدولة العراقية عن اجزاء من هذه الملكية خاصة وان الدستور العراقي قد اكد على التخلي عن الفكر الشمولي والاتجاه نحو الاقتصاد الحر الذي من أولى متطلباته تحرير الملكية ولكن الذي حدث هو العكس فلم تتخلى الدولة عن ملكيتها بل زادت عليها وهو واضح من الاصرار على تعقيد قانون بيع وتأجير اموال الدولة , و تشير التقديرات الى ان الدولة العراقية هي من ضمن الدول الأكثر ملكية في العالم , وبذلك فقد وقعت في ورطة عويصة حيث ان زيادة الملكية يؤدي الى زيادة المسؤولية لذا نرى الدولة التي تكاد تملك كل شيء في العراق من الاراضي الزراعية والعقارات والثروات في باطن الارض والمستشفيات والمدارس والشوارع والجسور والحدائق والاهوار وسيارات النقل والطائرات والمطارات وهلم جراً , قد اصبحت مسؤولة عن ادارة هذه الملكية الواسعة لذلك فهي اكبر مالك واكبر مستثمر واكبر مشغل للعاطلين والمسؤول عن تقديم الخدمات .
ونظراً لكون الحكومة الحالية خاضعة للدستور ومنتخبة ولا تملك السلطات المطلقة التي يمتلكها الدكتاتور او الحاكم المطلق فإنها وقعت تحت مطرقة الضغط من الجمهور المالك الحقيقي لهذه الثروات , ولم نجد امامها حلاً سوى
التوظيف ثم التوظيف حتى اصبح جهازها الحكومي مترهلاً وغير قادر على الحركة وغير قابل للإصلاح وتزايد الصراع على السلطة لكونه يعني الاستحواذ على هذه الملكية الواسعة وأصبح الاقتصاد الوطني معطلاً , اذا كانت هناك نوايا طيبة لتحرير الاقتصاد العراقي فإن الاجراء المطلوب هو بيع هذه الملكية بالتدريج وتحويلها الى القطاعين المختلط والخاص ضمن سياسة واضحة وصحيحة وهذا ما لم تلتفت له الموازنة الاتحادية , بل استمرت بالتركيز على زيادة ملكية الدولة في جميع فقراتها , فهناك 99% من الانفاق المقرر مخصص للجهاز الحكومي و 1% مخصص فقط لدعم شراء الشلب والحنطة في سياسة سقيمة لنقل العبء من الفلاحين الى الشعب العراقي بدلاً من تنمية القطاعات الانتاجية المحلية , واغرب ما في الموازنة هي المادة التي تتحدث عن تأسيس مجلس اعلى للأعمار خلال ثلاثة أشهر وهي عودة غريبة للماضي وتكريس لمفهوم الهيمنة الحكومية على مجريات الاقتصاد ولا نعرف بالضبط كيف تضاف هيئة جديدة مع بقاء الوزارات المختصة كما هي , لقد كان الاجدر بالموازنة ان تؤكد على تشكيل مجلس الاصلاح الاقتصادي بالمعنى الصحيح وليس بالمعنى الذي قدمته الحكومة سابقاً وتم رفضه من مجلس النواب والذي كان مشوهاً وعقيماً وخليطاً من عدة اشكال متناقضة .
إن بيع جزء من ملكية الدولة يجب ان يتم ضمن ادارة حكيمة للخصخصة ويتطلب تطوير سوق المال العراقي ويتطلب وجود سياسة تمويل سليمة وواسعة وسوف يؤدي ذلك تنشيط الاقتصاد المحلي وخلق الملايين من فرص العمل الجديدة وسوف يؤدي الى الانتقال الطوعي من الوظيفة الحكومية الى العمل الخاص وسيؤدي الى دورة دائمية بين انفاق الدينار العراقي واسترداده من السوق بدلاً من سياسة التقشف الفاشلة وسيتحول العراق الى بلد جاذب للأموال الخارجية الراغبة في الاستثمار , لنتصور الدولة مثل المواطن الثري الذي يواجه التزامات نقدية ولاتكفيه السيولة المستحصلة من ايراداته على الوفاء بهذه الالتزامات , ان اول ما يقوم به هو بيع الفائض من احتياجاته لتوفير السيولة وليس من المعقول ان يلجأ الى تجويع اولاده واهل بيته مثلما تفعل الموازنة لعام 2015 , قد يعتقد البعض ان قيام الحكومة بتمويل الموازنة العامة من خلال بيع الموجودات والاحتفاظ بالدولار في البنك المركزي العراقي سوف يؤدي الى تزاحم المستوردين على الدولار الموجود في السوق المحلي وبالتالي يرتفع سعره وتنخفض قيمة الدينار العراقي الأمر الذي يؤدي الى ارتفاع تكاليف الحياة للشعب العراقي , وهذا خطأ آخر وقعت فيه موازنة عام 2015 سوف نتناوله لاحقاً.