تأتي رواية “الأحيمر – الحاكم العسكري” (256 صفحة، دار جلجامش – بغداد 2023) لتعيد إلى القارئ العراقي والعربي زمناً مثقلاً بالغبار والدخان، حيث تتقاطع بنادق الاحتلال البريطاني مع أصوات الناس الباحثين عن هوية وحرية. في الصفحات الأولى يوضح الكاتب أنّ شخصية الضابط جيمس هاريمان ليست محض خيال، بل تتأرجح بين الوثيقة والتخيل، وأن الأسماء والأماكن بدّلت لتخدم غاية السرد.
هذه الإشارة المفتاحية تضع القارئ منذ البدء في قلب معادلة الرواية: نحن أمام نصّ يريد أن يكون أدباً وتاريخاً معاً.
بنية السرد: زمن معلّق بين الأمس واليوم
الرواية تتحرك في زمن عام 1919، وهو عام حاسم في تاريخ العراق الحديث؛ فالثورة العراقية الكبرى كانت تختمر في الجنوب والفرات الأوسط، بينما كانت الإدارة البريطانية تسعى إلى تثبيت أقدامها بوجه السخط الشعبي.
الحلي يعيد رسم المشهد من خلال عين الضابط الإنجليزي الشاب، فيكشف للقارئ كيف يُصنع القرار من فوق، وكيف يتلقّاه الناس في القاع.
البنية السردية لا تقتصر على خط زمني واحد، بل تفتح نوافذ على الذاكرة، على حوارات مطوّلة بين الضابط وشخصيات عراقية، بين السلطة والناس، بين التاريخ والوجدان. اللغة السردية مشغولة بعناية؛ تتنقل بين الوصف الدقيق، والحوار المباشر، والتأمل الفلسفي.
الشخصيات: مرايا الداخل والخارج
جيمس هاريمان، بطل الرواية، ليس مجرد ضابط يؤدي مهمة عسكرية؛ بل هو رمز للاستعمار الذي يتجسّد في هيئة إنسان. شخصيته تجمع البرود الانكليزي مع حيرة الفرد الذي يواجه بيئة غريبة عليه. في المقابل، تظهر شخصيات عراقية متعددة: المقاوم، المتخاذل، المتواطئ، والحيادي. هذه الشخصيات تعكس جدلية الداخل: كيف يواجه المجتمع الاحتلال؟ هل بالمقاومة الصلبة، أم بالاستسلام، أم بالبحث عن مكاسب صغيرة على حساب الوطن؟
بهذا التنوع، ينجح الحلي في أن يجعل الرواية لوحة اجتماعية واسعة، لا مجرد قصة ضابط أجنبي.
الثيمات المركزية: الاحتلال كقدر معلّق
من خلال السرد، تتضح عدة ثيمات:
1. الاحتلال والسلطة: الحاكم العسكري ليس مجرد إداري، بل هو تجسيد لفكرة السلطة المطلقة المفروضة بالقوة. الرواية تبيّن كيف يفرض الأجنبي قوانينه على مجتمع لم يُستشر في تقرير مصيره.
2. جدلية الداخل والخارج: الاحتلال يعيش ويتغذّى من الانقسامات الداخلية. الخيانة الصغيرة تولّد هيمنة كبيرة.
3. الهوية المهدّدة: الناس في الرواية يبحثون عن معنى وجودهم، عن هوية عراقية تصمد في وجه سلطة تريد أن تذيبهم في مشروع إمبراطوري.
4. الذاكرة والتحذير: الرواية تنبّه أن التاريخ ليس زمناً مضى، بل احتمال يتكرر بأقنعة جديدة.
الرسائل الفكرية والسياسية:
الرواية تحمل رسالة ثلاثية المستويات:
• تاريخية: تذكير الأجيال بأن الاحتلال البريطاني لم يكن حدثاً عابراً، بل ترك جذوره في تكوين الدولة العراقية.
• رمزية: “الأحيمر” رمزٌ يتكرر؛ قد يعود بزيّ عسكري، أو بوجه سياسي محلي يتصرّف بذات عقلية المستعمر.
• تحذيرية: إذا غاب الوعي الجمعي، سيعود الحاكم العسكري متوشّحاً بألف قناع.
بهذا المعنى، الرواية ليست مجرد نص عن الماضي، بل هي مرآة تعكس حاضر العراق والعالم العربي، حيث القوى الكبرى لا تزال تبحث عن موطئ قدم، وحيث المجتمعات الممزقة ما زالت مهددة بأن يحكمها “أحيمر” جديد.
القيمة الأدبية والفنية
لغة الحلي مشبعة بالصور، متينة من دون ترهّل. الجمل تتراوح بين التكثيف والامتداد، بين الرصاصة والتأمل. الحوار يستخدم ليكشف العقلية الاستعمارية من الداخل، ويضع القارئ في مواجهة مباشرة مع الضابط، كأنه يجلس أمامه على الطاولة.
الرمزية واضحة: الأحمر ليس لوناً عابراً، بل هو دمٌ، سلطة، نار، وذاكرة. الغلاف الذي صممه عقيل الحيدري ينسجم مع العنوان: وجه أحمر يطلّ من بين الصفحات، كأنه ظلّ لا يغادر.
خاتمة:
حين يصبح الأدب أداة مقاومة
“الأحيمر – الحاكم العسكري” عمل يثبت أن الرواية ليست مجرد فن للحكاية، بل أداة مقاومة فكرية. عبر استعادة لحظة الاحتلال البريطاني، يعيد رعد الحلي طرح السؤال الجوهري: كيف نواجه السلطة حين تُفرض علينا من الخارج، وكيف نحمي أنفسنا من تكرارها في الداخل؟
إن لم نقرأ تاريخنا بعين الناقد الواعي، فسنجد “الأحيمر” يعود إلينا، متزيّناً بلباس سياسي أو اقتصادي أو عسكري جديد. الرواية بهذا المعنى ليست فقط عن الماضي، بل عن الحاضر والمستقبل أيضاً، إنها صرخة أدبية تقول: الحاكم العسكري يتبدّل وجهه، لكن لا يتبدّل جوهره.