قد يتفق معي الجميع، على أن الربيع العربي في العراق عام 2003، وإن لم يكن بمستوى الطموح أو الإجراء المطلوب، لكنه إنتهى بنتيجة عربية موحدة تقول: إنه أنهى حكومة الحزب الواحد الحاكم المستبد، وأسقط صنم البعث القابع على نفوس العراقيين، تماماً كما حصل مع باقي شعوب دول المنطقة فيما بعد، لتبدأ من بعد ذلك رحلة سياسية أُخرى، وبمسار سياسي مغاير ومعاكس تماماً، لما كان عليه سابقاً..!
التجربة في بناء حكومة العراق الجديد، تعتبر أصعب مهمة في تاريخ الحكومات الإقليمية والعالمية…! وتختلف إختلاف جذري بالمرة عن كل ما يحصل أو حصل في الدول الأخرى، ولا يمكن قياس تغيير الحكم بالعراق مع تغير أي حكم في أي دولة، كون التغيير لم ينشأ من ثورة شعبية لإسقاط حكومة وإحلال أخرى، أو عزل حاكم أو رئيس من قبل جهة متنفذة بالدولة، أو إنقلاب مدني قام به الشعب، او عسكري نفذته القوات المسلحة للبلد..! كما يحصل في باقي البلدان..
تحديات الربيع العربي في العراق كانت شائكة لدرجة الغموض..! ولا يمكن قراءتها بالشكل الصحيح، الذي يمكن الأحزاب السياسية ترتيب الأثر المناسب عليها، ويمكننا تلخيص تلك التحديات بالتالي:
الجانب الأميركي؛ تنصل عن كافة وعوده وما طرحه قبل الدخول للعراق..! فكان يسعى جاهدا لتدمير العراق بغطاء التحرير، وعمل على عدم إستقراره، فعمد للقضاء على بعض المؤسسات والبنى التحتية..! التي ما كان لها أن تدمر، حيث أصبحت فيما بعد مشكلة وعائق اكبير مما يواجه إستقرار البلد..!
الأختلاف والتصارع بين الشركاء..! حول حقوق وواجبات المكونات التي ينتمون إليها، وعلى إختلاف القوميات والمذاهب والتوجهات، وما تمثله على الصعيد المجتمعي والجغرافي، ومن هنا نشأ الصراع حول أهم الأسس والثوابت التي كان من شأنها إخراج العراق من الأزمة..! كالصراع حول تشكيل “الجمعية الوطنية” او “الحكومة الانتقالية” او الصراع حول موضوع كتابة “الدستور” وصياغة مواده أو التصويت عليه، أو المطالبة بأجراء إنتخابات شرعية تضمن حقوق المكونات والجماهير.
الشعب العراقي بالأغلبية المجتمعية؛ لم يكن بمستوى الثقافة والمواطنة، خصوصا وانه جديد عهد بالتجربة السياسية، فلم يأخذ على عاتقه انتشال نفسه مما هو فيه، بين ليلة وضحاها حول الديمقراطية والحرية الى انفلات وغياب للسلطة، وتحول الى غول يحمل السلاح ويسرق ما يجده أمامه..! بفحوى الجوع وتأمين حياته..! إنتقاما من الحال المزري الذي كان يعيشه أيام البعث الصدامي.
ما بين غياب الرقابة الدولية، وبداية ولادة حكومة عراقية جديدة، أصبح البلد ساحة للتدخلات الإقليمية..! وباتت تلك الدول تحاكي الجماهير وأطياف المجتمع العراقي بلغة الإنتماء والمذهب، لإشعال فتيل الطائفية في العراق..!
هذه التحديات وما رافقها من ضغوطات دولية وإقليمية، جعلت مهمة الأحزاب السياسية في العراق صعبة جداً، لدرجة أنها لا يمكن أن تؤثث لبناء دولة، فعليها هنا أن تصارع الأميركان ..! لأنهم أسقطوا فكرة التحرير، وبدأ يتعاملون مع العراق كدولة محتلة..! وتصارع الدول المتدخلة…! إذ بدأت تعزف على وتر الطائفية والاقتتال القومي و المذهبي..! وتصارع المليشيات الطائفية التي أخذت تجوب الشوارع بالسلاح لتسرق وتقتل..! واخيراً ان تصارع الخلافات والتقاطعات فيما بينها..! حول حقوق هذا المكون او ذاك المذهب او التيار..! إذ إن الصراع هنا بدأ يدخل حيز التخوين بين الاطراف المشاركة بالحكومة..!
أذن كيف للأحزاب السياسية هنا أن تتعامل..؟ ومع أي ملف تبدأ..؟ وما هي الآليات والطاقات التي تمتلكها تلك الاحزاب للتعامل مع هذه الملفات..؟! هنا تكمن صعوبة المرحلة، التي كانت يرها بعضهم بالنفق المظلم المغلق..! ولكن رغم ذلك كله إستطاعت تلك الأحزاب أن تقدم ما لا يستطيع تقديمه غيرهم، إستطاعوا تكوين “الجمعية الوطنية” لتكون غطاء دولي تتعامل به مع باقي الأطراف والدول، واستطاعوا المطالبة بدستور وصياغته بأيدي عراقية..! جنبهم العمل بالدساتير التي تستورد من خارج البلد، استطاعوا تأسيس إنتخابات تشريعية في العراق، استطاعوا أخراج الاميركان من العراق، استطاعوا أخراج العراق من طائلة البند السابع، استطاعوا فتح الباب على مصراعيه لمن يريد المشاركة بالعملية السياسية، أستطاعوا قيادة الدولة وتمثيلها دبلومسيا في بلدان العالم..!
الاحزاب السياسية في العراق، إستطاعت وبجدارة قيادة المرحلة الصعبة، التي كان العراق يعيشها ما قبل إنتخابات عام 2006، ولا يمكن القاء لائمة الفشل في ادارة الحكومة لما بعد تلك الفترة، على جميع تلك الأحزاب، خصوصا وأننا نعيش حكومة الحزب الواحد منذ عام 2006 ولغاية الآن..! وعلى صعيد الفشل والنجاح، نستطيع أن نقول بأن الاحزاب المتنفذة بالقرار فشلت في إدارة الدولة، لكنها نجحت في مواطن أخرى، فنجد مثلا “الحشد الشعبي” الذي حرر العراق مع القوات المسلحة، قد نشأ عن ومن تلك الأحزاب..! وبالخصوص الأسلامية منها، فقدمت هنا نموذج لجيش عقائدي عالمي، أخذ على عاتقه تحرير العراق من عصابات داعش المدعومة دولياً..
ختاما :ما قدمته الأحزاب العراقية السياسية والإسلامية منها، لا ينصب كله في دائرة ومحيط الفشل، وحتى نكون برأي منصف في أن نعطي لكل حق حقه، لابد أن نعترف بنجاح تلك الاحزاب في قيادة أصعب مرحلة في تاريخ العراق اي ما قبل عام ( 2006)، وما قدمته تلك الاحزاب من جهد وقدرات لإستيعاب وأحتواء أبناء الحشد الشعبي، فضلا عن من خرج من صلب تلكم الأحزاب، ممن قدم للبلد وخدم البلد في بعض المناصب التشريعية والتنفيذية والوزارية منها..!