22 ديسمبر، 2024 11:39 ص

الأبيض والأسود، ظاهرة تتميز بها المجتمعات العربية دون سواها من المجتمعات الاخرى، ظاهرة لها أسبابها التي أدت إلى ظهورها، ولها عواقبها التي ترتبت عليها وأصبحت جليةً كالشمس في رابعة النهار لا يختلف عليها اثنان.�    
كلما تقاربت الأشياء في أوصافها صعب التمييز بينها، كالتوائم المتماثلة لايميزها الغريب من أول نظرة، وإذا ما نظرنا إلى ما يجري حولنا من أحداث نجدها متداخلة تداخلاً كبيراً يصعب من خلاله التمييز بينها لإصدار احكامٍ منصفةٍ عليها ولذلك كان لابد من اطلاع كبير وغوص عميق لإدراك ما يجري وتحليله وإلا سقطنا ضحية الأحكام الجائرة الناتجة عن الايديولوجيا الظالمة التي لاتعترف بالمنطق، تبرر لكل مؤيد وتسقط كل معارض وإن نطق بالوحي المبين.�    
إنَّ جهل الأغلبية وغيابهم عن الساحة المحلية والإقليمية والدولية يجعلهم في محل ضعفٍ وعجزٍ عن الحكم والإدراك، وبما أننا مجتمع يرى في الجهل عيباً ( وليس بالضرورة أنْ يسعى لتلافيه بالعلم ) ممّا يدفعه الى تبنِّي وجهة نظرٍ وحكمٍ ناتجٍ عن عقل سواه مما يجعل الفرد فيه مسلوب الرأي والإرادة يكتفي أن يكون مرآةً لغيره، فينتج عن ذلك التطرف المذموم؛ لأنَّ الغالبية في الجماعات المتطرفة اخذت آراء غيرها وتمسكت بها ولذلك لاتملك القدرة على الدفاع عنها وتصديرها للمجتمع، فنرى المتطرف يخشى الحوار لأنَّه يدرك هنا أنه يتبنَّى ما يجهله ويدرك أنَّ جهله بما تبنى سيفتضح من أول حوار وسيسقط من أول جولة.� 
   نحن مجتمع يسب التطرف ويسعى إلى إنكاره مع أنَّ كل أفعاله وأقواله ناتجة عنه حيث أنَّ غياب العقل وقلة الإطلاع وعدم مواكبة الأحداث يضع الإنسان في دائرة ضيقة مغلقة، فنراه يهتم بتوافه الأمور وينشغل عن العظائم منها ولذلك يكون مغيباً تماما ويسير إلى حيث هلاكه أو على الأقل تخلفه، ويذكرني هذا بالطبيب الذي يسعى لتضميد جرح سطحي ( كدمة ) ويجتهد في تعقيمه وتضميدهِ وينسى أنَّ مريضه يختنق حد الموت، ولو أنَّه انتبه لذلك لأنقذ حياته.�   
 هذا الداء الذي نتحدث عنه والظاهرة التي نتكلم عنها يدفعان المجتمع الى حالة من الانفصامِ الكلي في إصدار الأحكام يتعدى ليشمل طبقة المثقفين التي لم تسلم هي الأخرى منه، فنرى أنَّ شخصاً مثقفاً واعياً يدعو إلى بناء دولة مدنية تحتفظ بعلاقات طيبة على المستوى الإقليمي والدولي إلا أنَّه يسارع بتخوين من يصافح إيرانياً او أمريكياً أو سواهم. هذا الشخص نفسُه لو قيَّمَ نفسه بنفسه بحضور عقله لاتَّهم نفسه بالجنون، والعكس بالعكس صحيح كذلك، فلو اضطر الشخص نفسه أو من يؤيده من حزبه وجماعته إلى التعامل مع نفس الجهة السابقة الذِّكر ( والتي يعد التعامل معها خيانة ) لوجدت سيل التبريرات دفّاقاً ولعل منها أنّه كان من باب السياسة والانفتاح على الجميع لتوسيع دائرة التأثير وتقوية الأوراق للحصول على منافع أكبر!!�   
 لنخرج إلى الجوارِ الإقليمي قليلاً، ولنأخذ تركيا مثالاً، كلنا بلا استثناء مجَّد اردوغان حين غادر مؤتمراً حضر فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، معترضاً على السياسة الإسرائيلية تجاه قضيتنا الفلسطينية، وكذلك مجّده بعضنا ورفعه مكاناً عليَّاً لموقفه من الثورات العربية في مصر وسوريا تحديداً، في حين اتهمه البعض بالضلوع في تسهيل دخول المتطرفين إلى الأخيرة وكل حزب بما لديهم فرحون.�    
لازالت النفسيَّة العربية عاجزةً عن التمييز بين الحب والولاء من جهة والمصلحة والقوة من جهة اخرى على خلاف تركيا مثلا والتي تنادي باسم قضيتنا الفلسطينية والأمة الاسلامية من جانب والتطبيع والتعامل التجاري والعسكري مع إسرائيل من جانب آخر، وهذا مثال حيُّ في الفصل بين المشاعر والمصالح نراه جلياً كذلك في السياسة اليابانية مع الحكومات الأمريكية عقب الحرب النووية.�
إنّ ثقافة المقاطعة الكلية لم تعد مجدية لتوفر البدائل عنها وقد حل مكانها سياسة الضغط والموالفة من خلال العلاقات الدولية مع الأطراف القوية المتنفذة لتضييق الخناق على الأطراف الأخرى، أضف الى ذلك – وللأسف – أننا بلدان ودول ضعيفة مقاطعتها المنفردة لاتجدي والجماعية غير ممكنة لغياب إمكانية الاتفاق على أمر جامع، ولولا أنّ الدين أخذناه وراثة لما استطعنا أن نصلي الى قبلة واحدة ولكان لكلٍّ منا قبلة هو مولّيها، ولذلك كان لا بدَّ من تقوية العلاقة مع الأطراف الحاكمة عبر القارات وامتلاك أوراق متعددة للضغط تعطي مرونة في السياسة الخارجية، وتبقى المشكلة الكبرى مجتمع يرى في التعامل مع هذه الأطراف خيانة وكفراً ومظاهرةً على بني الدين والدم، ممّا ولَّد ظاهرة اخرى ألا وهي عدم الالتفاف حول قائد أوحدٍ، حيث أنّ كلَّ متصدِّر للمشهد السياسي سيضطر في مرحلة ما إلى التعامل مع من يعدُّه المواطن عدواً لدوداً، وبذلك يفقد شعبيته وقاعدته الجماهيرية ويحاربه مناصروه حتى يسقط أو يلجأ الى عدوٍ يدعمه ليحافظ على منصبه فيخسر هو ونخسر نحن خسارة أكبر.�    
وتبقى أسئلة حيرى: متى نستخدم عقولنا لنحكم بتجرد بعيداً عن الأحكام المسبقة والأفكار المؤدلجة التي ترى بعين واضعها لا عين الحقيقة؟ متى نقرأ الماضي والحاضر لنستقرئ المستقبل؟ متى نتوقف عن الخلط بين الاشياء؟ متى نفرز الأمور لنرى الحقيقة؟ لماذا نخلط بين الأسود والأبيض لنختلف في اللون الناتج عنهما؟ لماذا لايكون الأبيض أبيضاً بذاته والأسود اسوداً بذاته؟ متى نتوقف عن العنجهية العربيَّة ونشرع بالمرونة التركيَّة على سبيل المثال؟�    
صعَّدت تركيا تجاه روسيا وتأزمت الأوضاع كثيراً على مستوى العلاقات الخارجية والاقتصادية بين البلدين، ثم استغل اردوغان الفرصة لتصحيح المسار ليعود بتركيا إلى حيث كانت أو قريبا منه، هل كان ليفعلها حاكمٌ عربي؟! بل هل كان ليفعلها شعب عنده التراجع عن الموقف عارٌ حتى لو كان عن خطأ مرتكب؟ هل كان ليفعلها من يؤمن بسياسة الأبيض والأسود، إما معي أو علي؟ هل كان ليفعلها شعب أخذ من تاريخ العرب كل شيء فلم يترك سيئةً وطبعاً وعرفاً إلا وأخذه إلا شعرة معاوية، إذ قطعها بسيف عمر ثم مات عمر فلا عمر ولا سعد هنالك ؟!�    شعب مقدام شجاع يسير إلى الموت ولا يخشاه ولا يملُّ من الهزيمة!! منذ متى كانت الشجاعة جنونا وتهلكة؟ نحن شعب كله عنترة وليس فيه عنترة!! وكل يدّعي وصلاً بليلى…وليلى لاتقر لهم بذاك.لقد عرف عنترة قدر نفسه وقدر خصمه فكرّ غير فارٍّ يداوي رأس من يشكو الصداع بسيفه ، وأما نحن فلا نملُّ من الكرِّ الذي نهزم فيه كلّ مرة !!! لقد وصلنا الى درجة التأقلم مع الهزيمة والصدمة إذ لا نميّز الحبل من العصى والطين من الحصى!!�   
 نحن قوم لهم عقل ولايعقلون به وفهم قاصر عن إداراك الحقيقة، قد ندخل معتركاً او معركةً تشير كل حساباتها إلى الخسارة ثم نقحم التوكل على الله عنصراً للنّصر ويخيّبنا الله في كل مرة ثم نعْزي ذلك الى خلل في العقيدة والتوكّل، وعجبٌ أمرُ أمّة أمرَها ربها أن تأخذ بالأسباب جميعها ثم تتوكل فإذا بها تتواكل!! �    
إن غياب الموضوعية وتغييب العقل واختلال الميزان والتخلّي عن المبدأ يجعل المزاج والأهواء الحاكم الأول في كل الأمور علماً انّهما لايوردان الا المهالك ” أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ، أفلا تذكرون! فالجهل والأهواء داءان فتكا بالأمة وفعلا بها الافاعيل، فالأول يولد التطرف في الأحكام والثانية تولد الخلاف الذي يفرّق الأمة وكلاهما يهدمها من الداخل ويفعل ببدنها ما لايفعله عدو مقيت مبين !!�   
 والحقيقة أننا لازلنا عاجزين عن صناعة عقول تنظر بإمعان وتحلل بدقعة وتتكلم بموضوعية وتحكم بإنصاف وتجرد، فإذا فعلنا فتلك بداية الصحوة والنهضة وحجر الأساس في بناء مجتمع منصفٍ قادرٍ على البناء والتقدّم والتجديد.