الفخ الأعظم الذي ينصب حبائله للبشر ولم، ولن،يستطيعوا الفكاك منه أو حتى تلافيه هو البحث عن “الحقيقة“ و“الحرية“؛ فكلاهما مصطلحًا وفكرة ومفهوم وأسلوب حياة. وفي كل الأحوال، التعبير عنهما ذو طبيعة مطاطة ولا يمكنه سد فجوات وثغرات إيجاد قالب محدد لأي منهما. ولقد عبَّر عن ذلك الفيلسوف والكاتب الشهير “جون جاك روسو” Jean-Jacques Rousseau (1712-1778) بأسلوب غير مباشر عندما قال: “هناك أربعة أوجه لأي حكاية، وهي: سرديتك للموقف، وسردية الآخرين، والحقيقة، وما حدث بالفعل.” والخدعة هنا تكمن في أن الحقيقة تتوه بين السرديات وسير الأحداث، لكن لكل فرد الحرية في اختيار السردية التي تلائمه. وعلى النقيض، فلقد أكَّد أن “للحقيقة وجه واحد، لكن أوجه الزيف غير متناهية ومتداخلة”. وهنا يتأزَّم الوضع؛ فمع وجود الإرادة الحرَّة يستطيع الإنسان أن يجد طريقه ويدافع عن حقيقته، حتى ولو كان ذاك الطريق خاطئًا، أمَّا لو ردد الفرد أفكار الآخرين لسوف يصبح سهل الانقياد.
ولتلافي الوقوع في حبائل العبودية والزيف، يشدد “جون جاك روسو” على أهمية التعليم والتعلُّم الذي يؤهِّل الفرد لأن يحلِّق في سماوات من القوَّة والإدراك الصحيح لطبيعة الأشياء. وكان “روسو” يردد دومًا: “ولدنا ضعفاء، ولهذا نحتاج للقوَّة؛ وولدنا لا حول لنا ولا قوَّة، ولهذا نحتاج المساعدة؛ وولدنا حمقى، ولهذا توجَّب علينا تنمية العقل. فكل الأشياء التي حرمنا منها عند لحظة الميلاد تعد الأشياء التي يحتاجها الفرد كي يصل لمرتبة بارزة في المجتمع، وجميعها تتطلَّب موهبة التعليم.” فمن خلال التعليم ينمو لدى الفرد القدرة على التمييز فيما بين الأشياء وفهم ما يكمن ما بين السطور. ولقد حذَّر “روسو“ من ترديد أفكار وشعارات لا يفهمها المرء. فلو وقع الفرد تحت طائلة آخر يجعله يردد ما لا يفهمه من القول، يصبح من اليسير على ذاك الشخص أن يحضّ من رددوا ما لا يفهمونه من شعارات أن يرددوا بالتبعية أي شعارات آخرى، وبذلك يصبحوا بوقًا نشطًا لأفكار مغلوطة، مما يسلبهم حرِّيتهمالتى كانت الهدف الأسمى الذي يبحثون عنه.
فبالرغم من أن الإنسان ولد حرًّا، فكما يؤكد “روسو”، فإن القيود تحاوطه أينما ذهب. وعلى هذا يتوجَّب على المرء أن يصبح انتقائي عند الحديث والتعبير عن أفكاره. وكما يشير “روسو” فإن من يعلم الكثير يتحفَّظ ويقل حديثه، بينما من يعلم القليل تتوارد على لسانه الكلمات الطنانة والخطابات الجاذبة. فالعاقل هو من لا يتوه بين الخطابات الزائفة التي تقدِّم نفسها للآخرين بوصفها حقيقة ثابتة؛ فالاختيار الخاطئ يُجهز على الحرية، علمًا بأنه إذا يومًا فرَّط الفرد في حريته لمرَّة واحدة، لسوف يصبح ليس فقط من الصعب، بل أحيانًا من المستحيل أن يستعيدها مرَّة أخرى.
ولهذا السبب كان “روسو” يحاول دومًا أن ينبه الآخرين أن الكلمات المنطوقة لا يمكن كتابتها بشكل صحيح؛ فهناك العديد من المعاني التي يتم فقدها عند الكتابة والتي يكمن فيها الفهم الصحيح وراء انتقاء كلمة دون أخرى. ومن الكتَّاب الذين استعابوا أيضًا أهمية الكلمة المنطوقة وصعوبة التعبير عنها عن طريق الكتابة، الكاتب الفرنسي الشهير “جوستاف فلوبير” Gustave Flaubert (1821-1880) الذي تألَّق في القرن التاسع عشر بكتاباته ذات الأغوار الفلسفية التي جاهد فيها أن يوضح جوهر الأشياءببحثه الدائم عن الحقيقة والتشديد على الحرِّية. وعلى نفس غرار “روسو”، كان “فلوبير“ مقتنعًا أن كلًا من الحقيقة والحرية ينحصرا في منطقة رمادية لها أوجه عدَّة. ولهذا حرص على تنقية انتاجه الأدبي من الزيف قدر الإمكان، فكان انتاجه الأدبي قليل بسبب محاولته الدؤوبة في انتقاء الألفاظ حتى لا يكون لها معاني وأوجه عدَّة قد تضيع الحقيقة بينها، فكان العمل الأدبي الواحد يتم كتابته على مدار سنوات طويلة، ليس بسبب التعثُّر في إيجاد الفكرة، بل لصعوبة التنقيح. وبكتاباته التي كان منشأها أحداث حقيقية، استطاع “فلوبير” أن يصبح رائدًا للمدرسة الواقعية في الكتابة الروائية.
وشهد عصر “جوستاف فلوبير” أوج الحركة الصحفية وزيادة عدد الصحف، مع وجود ثورة أدبية انتشرت معها الكتب والروايات التي تمسّ جميع أوجه الحياة. فلقد كان يتميَّز عصر “فلوبير” بنشاط إعلامي غير مسبوق، فيما يشبه استشراء وسائل التواصل الاجتماعي في العصر الحالي. وبالرغم من ذلك، كان يكره “فلوبير” الصحف وما تشيعه من أخبار أغلبها ذات أوجه كاذبة، ومعلومات غير دقيقة، وكان يصفها بمصادر لنشر الغباء والزيف. وكان اعتراض “فلوبير” على الصحف يكمن في نشرها للعديد من المعلومات، دوت أن تتيح للفرد فرصة لفهم أي منها. وبهذا، يصبح الفرد جاهلًا بالرغم من تراكم المعلومات في رأسه، مما يحوِّله، كما يؤكِّد “روسو”، إلى بوق جهوري لترديد أفكار وأحاديث لا يفهمها. فالصحافة بالنسبة ل“فلوبير” هي أحد أشكال التعليم السيئ الذي يضر ليس فقط بأفكار الفرد، بل قد يفضي إلى تدمير حياته، تمامًا مثلما حدث في روايته الشهيرة “مدام بوفاري” Madame Bovary.
فلقد كانت “مدام بوفاري” ضحية لما أطلق عليه اسم “التعليم السيء”، فالشابة التي تزوجت كانت تبني آمالها في الزواج بناء على الكتب التي كانت تقبل بشراهة على قراءتها، وكانت تلك الكتب عبارة عن روايات رومانسية تصوِّر علاقات غرامية فريدة تهز الشعور. ولهذا، صدمتها الكبرى بعد الزواج كانت الاصطدام بالواقع الذي يقضي بوجوب الاعتناء بزوجها وببيتها والشعور بالسعادة، بالرغم من رتابة الأحداث. لكنها تمرَّدت ومارست حريتها عندما حاولت تطبيق ما تلقته من تعليم سيئ على حياتها، فما كان منها إلَّا أن أهملت بيتها وزوجها وابنتها الرضيعة، وانخرطت في علاقات غرامية متعددة كي تقنع نفسها أنها لا تزال قادرة على منح عواطفها لمن يستحق. أضف إلى هذا، فلقد أغرقت نفسها بالديون بسبب عشقها لشراء الملابس الفاخرة. لكن بعد ما أثقلتها الديون والشعوربالذنب آثرت أن تنهي حياتها تاركة طفلتها الرضيعة لكي تلقى مصيرًا غير معلومًا. وتكمن عظمة “فلوبير” في أن بالرغم من أن بطلته قد أغرقت نفسها في الخطايا والأخطاء، لكنه استطاع أن يستقطب تعاطف الآخرين تجاهها والَّا يجعلهم يشيرون لها بأصابع الاتهام، وبذلك استطاع بفضل الاختيار الجيد للألفاظ أن يضع بطلته في المنطقة الرمادية التي يضيع فيها تعريف الحقيقة. فكما يردد: “لا توجد حقيقة، فليس هناك سوى الإدراك”.
ومن الطريف أن “جوستاف فلوبير” بداية من سبعينات القرن التاسع عشر شرع في تسجيل كل المفاهيم الحديثة التي تحيل الفرد إلى شخص ميزته الغباء، مهما كان عليمًا بمعارف الماضي. وتم طبع هذا الكتاب بعد موته تحت اسم “قاموس الأفكار الملقَّنة”؛ فالفهم بالنسبة ل”فلوبير” هو الخط الفاصل بين الجهل والمعرفة.
لقد ساهم “جون جاك روسو” و”جوستاف فلوبير” في شرح أغوار المنطقة الرمادية التي تقبع فيها الحرية والحقيقة، وحاولا قدر الإمكان التعبير عمَّا يجيش بأفكارهمامن خلال انتقاء الألفاظ. وبالرغم من احتفاء العالم بأفكارهما الفلسفية، لكن كلاهما كان دائم التوكيد على أن انتاجهما لم يعبِّر عن أفكارهما بالقدر الكافي؛ ولهذا ردد “فلوبير”: “بإمكان الفرد أن يصبح سيِّد أفعاله، لكن لا يمكنه أبدًا أن يصير سيِّدًا لما يشعر به.”