لم احضر حفل توقيع روايته الاخيرة في معرض بغداد الدولي للكتاب ، لكني فرحتُ بالأخبار التي وردتني ، التي قالت ان روايته الاخيرة ( الانسة ) حققت حضورا ثقافيا ملموسا ، واقبالا من القراء ، فأسرعتُ الى الهاتف ، مهنئا الروائي صادق الجمل على وليده الجديد ..
رواية ( الانسة ) استلمتها قبل اسبوعين مهداة من كاتبها ، وطالعتها بقراءة اولى ، فتمتعت بها ، ثم اعدتها بقراءة تأملية من اجل الكتابة عنها ، فوجدتها من القصص التي تهتم بنقد الحياة اكثر من اهتمامها بتصويرها .. وقد اصاب الروائي شوقي كريم ، الهدف حينما ذكر على الغلاف الاخير من رواية ( الآنسة ) بقوله ( السؤال الذي لا نجد له اجابة ، يبدو مثل محطة قطار مهجورة ، ولا يفيد بشيء ، تلك الخطوة الاولى التي يتخذها السارد صادق الجميل ، مسارا لروايته ( الآنسة ) التي ولج من خلالها الى وكر من الاسئلة المثيرة للجدل )
نعم الرواية ملآى بالأسئلة ، ومعها اجابات عديدة ، تتوالد من خلالها اسئلة جديدة ، وهكذا ، حتى نصل الى الهدف الذي اراده الكاتب من روايته الممسرحة ، بالقول ( على الشاعر والقاص ان يكتب ، وعلى الفنان ان يرسم ويمثل ويعزف ، وعلى الكلب ان يحرس البستان ) !
وشخصيا ، اهم ما لمسته عند الجمل ، هو دقة احساسه وقدرته على التقاط الجزئيات الموحية من مجرى الحياة الواقعية ، لكي يخلق منها نسقا ادبيا ممسرحا جديدا ، فقد استطاع ان يستبطن من حكايته ، مستوحيا منها كل ما يشع من المعاني والاحاسيس وكل ما يفيد في تعبيره الفني الممسرح .
ورغم منحاه القصصي الجديد ، لكنه كتب في ( الانسة ) صورة ممسرحة هادئة ، وقدم شخوصه والاحداث ، بفنية وعمق واطمئنان ، وجعل من فكرته صور متلاحقة في يسر وفي غير افتعال ولا تكلف .
في المشهد الاول من روايته الممسرحة ، اقتبس الجمل نصاً صينيا ، ترجمه الراحل هادي العلوي.. يقول النص ( إذا حمى الوطيس … ينتصر المستضعفون ) لذلك ، وجدت في رواية الجمل ، مسعى جديدا لصياغة أساسات سردية جديدة ، تجسد قيم التعدد والتنوع .. من خلال القفز الزمني للأحداث ، الذي الغى خصائص الزمن المتمثل بالتتابع والتراكم ، ما جعلها تضم مفاجآت زمنية رائعة ..حيث استخدم كل العناصر التي تشد القارئ من فن المقامة، الى فن السيرة، وحيناً من الرواية التاريخية التقليدية، ومرات من فن الملحمة ..يمكن اسمي ذلك ، بنهج صادق الجمل الروائي ، فلكل روائي نهجاً مختلفا جديدا، تحدده رؤاه وعمق تصوراته ، وصدق “ريمون جون” القول في كتابه “الرواية الجديدة” إن ما تتميز به الرواية الجديدة محاولتها بناء عالم روائي جديد ..
معروف ، ان القصص الممسرحة تمتلك ، حاسة سادسة ولغة تأملات عميقة الاثر وعين ثالثة لرؤية الحقيقية في قائمة اللاحقائق ، ولعل شيوع مظاهر الحياة الحديثة وما يسودها من قلق ومعادلات التغيير السريعة والمتلاحقة جعلت للزمن قيمة خاصة في معادلة دوران دولاب الحياة
ومن هنا ، جاء الجمل ، حاملا مفتاحاً ، لقصص ممسرحة ، بأفكار مشاكسة ، تحمل مفاهيم ربما جديدة على القارئ ، مبنية على آفاق القراءة التأويلية ، بنصوص تناغم فضاءً مفتوحا الى مديات لانهاية له في التأويل ، لكني اعترف ان هذا التأويل كان جميلا ، رسمه خيال فنان بقلم رشيق ، وبراعة في خفة الاسلوب وسرعته ، مع التركيز والقدرة على الايحاء بتركيب الحوار .
رواية ( الانسة ) تعرض الحياة في شمولها ، ففي صورتها الممسرحة ، يتلاقى الحاضر والماضي والمستقبل ، في اجواء تصويرية من المنبع إلى المصب .. لقد بدأت الاحداث الممسرحة في هذا العمل الابداعي آلية اشتغالها من محورين اساسيين هما الزمان والمكان ، ذلك المحورين المطواعين في بناء حبكة ” درامية وقصصية ” في تكوين اصغر وحدة زمانية مكانية من خلال التكثيف السردي ، ومزجها لأحداث هي اقرب الى العمل المسرحي ، فأشخاص الرواية جزء لا يتجزأ من وحدة موضوعية عضوية ، بهم تحيا وبها يسعون ، وعلى نفخ ريحها تسر اشرعتهم الي حيث تحملهم الريح ، كلا الى شاطئ ، حسب طبائعهم و رغباتهم .