18 ديسمبر، 2024 4:57 م

الآلهة والنبوة والعصمة في الفكر السومري – مقدمة

الآلهة والنبوة والعصمة في الفكر السومري – مقدمة

ان العلة الأساسية في فوضى ترجمة النصوص الدينية الأولى لخلق الكون تكمن في رغبة ومسبقة ذهنية لدى الباحثين في الابتعاد بصورة قطعية عن فكرة وجود الله , او تصور ايمان السومريين والشعوب القديمة به . لذلك عانوا كثيراً في إيجاد معاني ( فلسفية ) للمصطلحات الخلقية القديمة . فتعابير سومرية او بابلية مثل ( ابسو ) و ( تيامة ) و ( موممو ) , التي أراد بها القدماء التعبير عن المياه الأولى وحالاتها الانفعالية المرحلية , وجدت لغطاً كبيراً في تفسيرها المعاصر . وفي كثير من الأحيان اعتمدوا على تصورات الاوربيين القدماء حول النظريات الخلقية السومرية او البابلية , والاوربيون لديهم مسبقات ذهنية وثنية وضعف حضاري ومعرفي في الفلسفة . فيما كانت العبارات البابلية التي انتقلت واثرت في الحضارات الأخرى لا تعني سوى وصف لحالة , تمت اصنمته بثوب وثني ليأخذ شكلاً مادياً يناسب العقلية الوثنية البسيطة للشعوب الاوربية وغيرها حينها , كما في تصورهم عن ( توثة , ابسون ) , الذي هو تفاعل مادي مع مفاهيم ( تيامة , ابسو ) السومرية . فيما ظلت عبارة ( البحر ) السومرية , التي هي بداية الخلق , تنتقل في البلدان والازمان , لتأخذ عناوين أخرى لم تعن سوى البحر ذاته , لكنّ تصور الاذهان لها اختلف . اذن فالمشكلة في التصور الذهني العالمي المتعاقب للمصطلحات السومرية والبابلية , لا في حقيقة ما أراده السومريون والبابليون .

فمصطلح ( موممو mummu ) السومري وجد من التفسيرات الكثير , ولا يزال عند الباحثين مجهول المعنى الواقعي . الا ان ما يهمنا منه هو ان الكثير منهم – بسبب فنتازيا الصنمية الذهنية الناشئة عن القطع بوثنية الشعوب الأولى عنده – ذهب الى تصويره على انه ( ابن تيامة وابسو ) , حتى انتقلوا به الى فكرة ( الاب , الام , الابن ) , او ( الاب , الابن , روح القدس ) , رغم انه ورد في بعض النصوص سابقاً لاسم ( تيامة ) نفسها . او انه السحب والضباب , في زمن تفترض الأسطورة نفسها انه لم يكن بعد من شيء فضلاً عن الضباب والسحب ! . فيما كان اخرون اكثر فلسفية , وافترضوا انه شيء يعبر عن الأفكار او الماهية التي تعطي للشيء اسماً او معنى لكي يوجد .

وفيما اعتمدت مجمل النصوص الدراسية والأكاديمية ترجمات الباحثين الغربيين القدامى للنصوص السومرية , ظهر لاحقاً مكتشفات جديدة كانت تخبأها الأرض , اكثر نقاء من المكتشفات القديمة التي كانت تعاني التشوه بسبب العوامل الطبيعية . فمثلاً تصور ( تيامة ) على انها تنين افعواني , بسبب ترجمة خاطئة مركبة التعقيد لنص مشوه , تم دحضها بنص جديد لاسطورة ( ذبح لابو ) يرى ان ( تيامة ) اوجدت التنين , لا انها هو .

فيما ان كل التصورات الفنتازية لشكل وحقيقة ( تيامة ) تم دحضها او رفضها من قبل الباحثين المتخصصين , مثل الدكتور أسامة عدنان يحيى الأستاذ المساعد في التاريخ القديم في كلية الاداب في الجامعة المستنصرية . ومن ثم ما الذي يلزمنا برؤى الباحثين السابقين في توثين واصنمة العقل السومري بناءً على تحليلاتهم , ولماذا لا تتم إعادة قراءة هذا التاريخ برؤى اكثر واقعية , لا تطلق الاحكام جزافا . وقد كانت تلك الرؤى الصنمية الساذجة فلسفياً للأوربيين سبباً في تخريب كل الترجمات الممكنة للتصور السومري حول الخلق , لمجرد انهم اعتقدوا , او أرادوا الاعتقاد , انه عقل بدائي لا يمكن ان يكون قصده سوى الهة مادية فنتازية شبيهة بما تعرضه السينما عن حروب الالهة .

فيما نص الأسطورة يقول } عندما في العلى لم تكن هناك سماء \ وفي الأسفل لم يكن هناك ارض \ وابسو الاولي الذي منه ( سيولد ) ( الالهة ) \ ( الوالدة ) تيامة التي ( ستلدهم ) جميعا \ كانا يمزجان مياههما معا \ وإذ لم تكن المراعي مجتمعة ولا القصبات منظورة \ اذ لم يكن قد ظهر احد من ( الالهة ) \ ولم يكن قد حظي احد بمصير { .

وعند النظر في فلسفة هذا النص المترجم نتساءل عن سبب رغبة هذه الالهة المزعومة بالزواج المفاجئ , بعد ان كانا ازليين , وعن حقيقة كيف كانت حياتهما قبل الزواج هذا , ومن اين اتيا , ومن اوجدهما , اذ انهم ما داما محدودين فهما ماديان لاشك , وبالتالي مخلوقان .

ان جميع الترجمات تتفق على معنى مشترك ل ( ابسو , تيامة ) , انه ( الماء ) , وان اختلفت في معنى ( موممو ) . وهو الأصل الذي تراه الحضارة الإسلامية , التي من المستحيل ان تكون قد اطلعت على الرؤية السومرية في حدود 600 م . فنجد في خطبة لعلي بن ابي طالب ( ثم أنشا سبحانه فتق الاجواء، وشق الارجاء وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطما تياره متراكما زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها الى حده، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم انشا سبحانه ريحا اعتقم مهبها، وادام مُربَّها واعصف مجراها، وابعد منشأها فأمرها بتصفيق الماء الزخار واثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد اوله الى آخره، وساجيه الى مائره حتى عبَّ عبابه ورمى بالزبد رُكامه، فرفعه في هواء منفتق وجو منفهق، فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا،، وعلياهن سقفا محفوظا وسمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها ولا دسار ينظمها ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب وأجرى فيها سراجا مستطيرا وقمرا منيرا في فلك دائر وسقف سائر ورقيم مائر )[1] .

ولو تم توحيد الرؤيتين السومرية والإسلامية الشيعية سنخرج بمفاهيم جديدة , اقرب ربما للرؤية الواقعية التي أرادها الكاتب السومري القديم , لاسيما مع توارث العقل العراقي للعقل السومري بسبب الارتكاز الحضاري[2] .

ان ملخص الرؤية السومرية لخلق الكون – لا الالهة التي منحت هذا الاسم وفقاً لرؤى الترجمات الغربية غير الدقيقة – يتضمن امتزاج المياه المتلاطمة ( ابسو , تيامة , موممو ) , لتنتج كتلة مادية متحدة ( ان , كي ) , ومنها نتج غاز عظيم ( انليل , نينليل ) في ظلام واسع , تفاعل مع بعضه , فظهرت الذرات الأولى ( نانا , نينغال ) , التي انتجت الشمس ( اوتو ) , او النجوم .

بدليل ان ( الالهة الصغيرة = الانوناكي = الملائكة = القوانين ) الأولى – بحسب الرؤية السومرية – ولدت من رحم المياه الأولى واثناء تفاعلات ( ان , كي ) , لا من تفاعلات السلسة المتأخرة كما يفترض منطقياً من العقل البسيط الذي جعله المترجمون لنص السومريين او البابليين . } على جبل ( السماء ) و ( الأرض ) \ ( ولد ) آن زملاءه الانوناكي { .

وبهذا ليس هناك من مشكلة في النص السومري ذاته , بل في فهم المترجم للاثر السومري , الذي اصر على كون هؤلاء القدماء وثنيين بسطاء , ولم يشأ اعطاءهم صفة علمية لم يكن هو نفسه يعرفها , لانها اكتشفت بعد رحيله في الغالب عن طريق نظريات مثل الانفجار الكبير ( البغ بانغ ) .

ومن ثم فمن الضروري – وفق قراءتنا هذه – ان تكون الأسماء والعناوين الاخرى الواردة في ملاحم الخلق السومرية والبابلية , والتي أعطيت كالعادة غير المستساغة صفة الالهة , مثل ( لخمو , لخامو ) , و ( ان شار , كي شار ) , و ( انو , أيا ) , و ( نوديمود ) … الخ , تحمل معان أخرى فلسفية أرادها السومريون والبابليون , دون ان يفهمها الباحث الغربي والمترجم العربي . خصوصاً ان مصطلحات مثل ( شار ) قد ترجمت بمعنى الكلية , فكأنها تريد ان تعطي في قولهم ( ان شار ) و ( كي شار ) معان مثل ( السماء , الأرض الكلية = المطلقة = المصدرية … ) . مع الاخذ بنظر الاعتبار وجود نصوص سومرية وبابلية أخرى غير قصة الخلق البابلية ( انوما اليش = Enûma Eliš ) , تختلف في تقديم وتأخير بعض الأسماء , او الالهة المفترضة . كما توجد نسخ متأخرة لنفس الشعب حين تغيرت لغته ولهجته , تغيرت فيها بعض الأسماء . وكذلك نقلت الشعوب الأخرى من سوريين ويونان وغيرهم تلك الملاحم بلغاتها ولهجاتها , كما فعل دامسكوس ( الدمشقي ) . بالإضافة الى إضافات الأجيال التي عبدت الاصنام وامنت برؤى اسطورية بشرية على تلك الملاحم الأولى .

الا ان الجميع كان متفقاً في الغالب على المعنى الأصلي الذي مفاده وجود الماء الازلي الأول , وتلاطمه برياح عاصفة , حتى اختلط , وتولدت الكتلة المتحدة الأولى , وكان منها الغاز العظيم , والقوانين , الذي نتج عن تفاعله الذرات الأولى , ثم النجوم , والشمس والأرض , ثم الانسان .

لهذا لم يكن من ضرورة لتأويل كيف انتجت بعض ( الالهة ) المفترضة بصورة مفردة دون وجود شريك معاكس في الجنس . فلم يكن الامر سوى وصف فلسفي لحلة كونية .

وبالتالي قد تكون الحرب التي خاضتها ( الالهة ) الفتية او الوليدة او الشابة بقيادة ( أيا ) ضد ( الالهة ) الأولى المتمثلة ب ( ابسو , موممو ) , ليست سوى إضافة اسطورية صنمية من قبل الشعوب الوثنية اللاحقة بعد القصة الأولى الحقيقية النقية , او انها – كما عبروا – توصيف اسطوري ( غير مفهوم لغويا ) لظاهرة انتصار القوى النظامية القانونية الوليدة على فوضى الانفجار الأول , ومن ثم ازاحته لصالح توفر كون صالح للحياة ( النور ) . خصوصاً ان كل ذلك لم يتم سوى من خلال ( الكلمة ) . فليس من المنطقي قبول ولادة ( مردوك ) – قائد المتمردين الجدد ضد الالهة القديمة بقيادة ( تيامة ) الطالبة بثأر ( ابسو ) – في حضن ( ابسو ) نفسه . بل ان تفسير معنى ( مردوك ) على انه ( ابن الرياح العاصفة ) يعطي بعداً فيزيائياً لمجمل هذا الصراع .

فيما يتم وصف الشياطين في النص البابلي على انهم } لا باب ولا مزلاج يصدهم \ انهم ينزلقون تحت الابواب كالحيات … انهم أولاد الجحيم \ في السماء يتعالى صراخهم \ وفي الأرض همهماتهم \ في الزوبعة المروعة يسلكون … وهم في صفوف الالهة الحكماء غير معروفين … { . نجد انهم كما يصفهم القران الكريم (( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ )) الرحمن 15 , و (( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) المجادلة 10 , و (( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا )) مريم 83 , و (( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )) الأعراف 27 .

اما معرفة السومريين , والبابليين ورثتهم , بكون الزمن نسبياً , لا مطلقا , وانه يختلف من مكان الى مكان في عالم الخلق , فامر ملفت حقا , لان هذه الحقيقة لم تكتشفها الا الفيزياء الحديثة . حيث تستعرض ملحمة الخليقة البابلية فترة نمو ( الالهة ) بانها بمقياس زماني غير المقياس الذي تتعامل به الأرض . وهذا ورد في القران الكريم أيضا (( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ )) الحج 47 , و (( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )) المعارج 4 .

كذلك لعبت حقيقة الفارق الزمني في الملاحم الخلقية البابلية دوراً في بيان قدرة ( الكائنات الخاصة ) ذات البعد المقدس على النمو البدني او العقلي بشكل مختلف , في مثال ( مردوك ) الذي صار قائداً بعد ولادته مباشرة[3] . ونجد مثال ذلك في قصة ولادة عيسى المسيح القرانية (( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا )) مريم 29 – 30 . اما في الموروث الاعتقادي الشيعي فنجد الامام الثاني عشر المنتظر له نفس القدرة ( عن غياث بن أسيد قال: شهدت محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه يقول : لما ولد الخلف المهدي عليه السلام سطع نور من فوق رأسه إلى أعنان السماء، ثم سقط لوجهه ساجدا لربه تعالى ذكره ثم رفع رأسه وهو يقول: ” شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الاسلام ” قال: وكان مولده يوم الجمعة )[4] .

رغم تعدد قصص الالهة وحروبها ضد بعضها في العالم القديم , في بابل وكنعان ومصر والهند , الا ان له تشابهاً ملفتاً , يأخذ الكثير من صورة مشكلة الاخوة قابيل وهابيل ابني ادم اول المخلوقات العاقلة المكلفة بالدين . حيث حسد قابيل اخاه هابيل على ما أعطاه الله من قبول لدى ابيه , فقتله , ليبدأ الصراع البشري منذ ذلك الحين . (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )) المائدة 27 .

وفي قصة تقاتل الالهة البابلية ( مردوك , تيامة ) إشارة ملفتة لوجود الصراع بين المناهج الدينية القديمة والحديثة , وبين أبناء العائلة المقدسة الواحدة . وفي قصة الالهة ( بعل , موت ) الكنعانية صورة للصراع الناشئ عن الحسد بسبب حظوة احدهما دون الاخر . كذلك في قصة الالهة ( اوزيريس , ست ) المصرية ذات التطابق في مسببات الصراع , واحياناً ذات النتائج مثل انتقام الزوجة . وايضاً في قصة الالهة الهندية ( فريترا , اندرا ) , التي شابهت أحدثها العسكرية احداث قصة ( تيامة , مردوك ) .

اذ ربما تكون جميع هذه القصص من منشأ اصيل واحد , لكن تغيرت بفعل عوامل الزمان والمكان والشعب والهدف والمصلحة والادراك , فاضيف اليها ما لم يكن فيها , لتكون صورة عن ثقافة الشعب الذي وصلته . وبالتالي تكون الشعوب المتباعدة زماناً ومكاناً خلطت بين ملاحم خلق الكون وملاحم الصراع البشري الأول , لتنتج خليط اسطوري غير محكم . فبابل مثلاً لم تعد عقائدها كما كانت عقائد سومر بالتأكيد , بعد ان دخلها السحر والشعوذة من خلال اختلاط أمم وشعوب كثيرة فيها , واضطراب المصالح السياسية والقومية . وأشار القران الكريم لعبادتهم الكواكب والنجوم , (( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )) . الانعام 74 – 88 .

وهذا الامر صار جلياً في الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية المعاصرة , من كاثوليك وشهود يهوة وماسون وصوفية , بل حتى الشيعة والسنة ادخلوا طقوساً مبتدعة على حياتهم بالتدريج واوجدوا لها نصوصاً معززة , لتناسب سلوك هؤلاء المبتدعين . فالصوفية وصل الامر ببعض اقطابها الى ممارسة السحر والتخلي عن شرائع الدين المحكمة , لصالح تعاليم جديدة اقرب الى السحر[5] .

ان الولاية التي أعطيت ل ( مردوك ) في ملحمة الخليقة البابلية وغيرها من التعاويذ البابلية تتشابه الى كبير مع عقيدة الشيعة الامامية في الولاية التكوينية , حيث ( مردوك ) – كما المعصومين الأربعة عشر – مخلوقون للخالق الحق , لكنهم تمتعوا بصفات وقدرات تؤثر في الكون . وكما نال مردوك تلك الأسماء والصفات والقدرات باستحقاقه الذاتي , ولطف الهي , نال المعصومون الأربعة عشر ذلك بذات الكيفية . فيما انهم كانوا سبب انتظام الكون , كما كان مردوك . ومن خلالهم يبث الخالق العلوم الى سكان الأرض , لينظموا حياتهم وسياستهم واقتصادهم , كذلك كان مردوك . وبالتالي قد يكون مردوك خلاصة تعاليم الأنبياء الأوائل للسومريين حول ولاية ( مصدر الفيض الإلهي = الصادر الأول = محمد ) , البسها البابليون ثوب الأسطورة , او ان من البسها ذلك الثوب هي الترجمات المعاصرة .

وقد ورد عن لسان النبي محمد ما يشير الى هذا المعنى بوضوح ( اول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقه من خلال عظمته فاقبل يطوف بالقدرة حتى وصل الى جلال العظمة في ثمانين الف سنه ثم سجد لله تعظيماً فتفتق منه نور علي فكان نوري محيطاً بالعظمة ونور علي محيطاً بالقدرة ثم خلق العرش واللوح والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الابصار والعقل والمعرفة وابصار العباد واسماعهم وقلوبهم من نوري ونوري مشتق من نوره فنحن الاولون ونحن الاخرون ونحن السابقون ونحن الشافعون ونحن كلمة الله ونحن خاصة الله ونحن احباء الله ونحن وجه الله ونحن امناء الله ونحن خزنة وحي الله وسدنة غيب الله ونحن معدن التنزيل وعندنا معنى التأويل وفي ابياتنا هبط جبرائيل ونحن مختلف امر الله ونحن منتهى غيب الله ونحن محال قدس الله ونحن مصابيح الحكمة ومفاتيح الرحمة وينابيع النعمة ونحن شرف الامة وسادة الائمة ونحن الولاة والهداة والدعاة والسقاة والحماة وحبنا طريق النجاة وعين الحياة ونحن السبيل والسلسبيل والمنهج القويم والصراط المستقيم من امن بنا امن بالله ومن رد علينا رد على الله ومن شك فينا شك في الله ومن عرفنا عرف الله ومن تولى عنا تولى عن الله ومن تبعنا اطاع الله ونحن الوسيلة الى الله والوصلة الى رضوان الله ولنا العصمة والخلافة والهداية وفينا النبوة والامامة والولاية ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة ونحن كلمة التقوى والمثل الاعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى التي من تمسك بها نجا وتمت البشرى )[6] .

او انها وصف بابلي متأخر لمقام اول الخلق البشريين وابي الأنبياء والاولياء ( ادم ) , دخلت عليها تأثيرات السنين المتباعدة . لاسيما حين تصف ملحمة الخلق البابلية ما فعلته ( ايغيغي Igigi , انوناكي = القوانين = الملائكة ) امام قدرات واستحقاق ( مردوك ) , حيث تقول ( ايغيغي Igigi جميعاً جثوا امامه مجتمعين \ وانوناكي كلهم قبلوا قدميه \ وانظم اليهم ( الالهة ) جميعهم ليسجدوا له معفرين بالأرض وجوههم ) , بعد ان نال الأسماء التكوينية الخمسين . وهو مشابه لقول القران الكريم عن ( ادم ) (( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ )) البقرة 34 , و (( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ )) البقرة 31 .

ان ما يعزز اعتقادنا بتسبب الترجمات المعاصرة للنصوص العراقية القديمة في احداث فوضى وثنية وجود عدة عناوين مقدسة تقوم بذات الفعل , كما في قضية خلق السماوات والأرض او الكون والعالم , التي ورد ان ما قام بها هم ( انو , اينليل , شمش , أيا ) . مما يشير الى احد امرين , الأول ان هذه الأسماء وصف متعدد لجهة واحدة يفهمها العراقي القديم , والثاني ان جميع هذه الترجمات الحديثة خاطئة[7] .

فيما كانت فوضى ترجمة نصوص ( تشكيل السماوات والأرض من قبل مردوك ) اكثر وضوحاً في تخبط الفهم العام للترجمات المعاصرة . حيث انه اوجد السماوات من جسم الالهة القديمة ( تيامة ) , وهي المياه الاولى , التي هي عدوه وقائدة الكتلة الشريرة لاحقا . فيما اعطى للالهة الاقدم منه ( انو , اينليل , أيا ) مكاناً في الكون الجديد , رغم انهم كان من المفترض اشغالهم حيز موجود ويناسب وظيفتهم في مكان وزمان ما قبل الكون , ويصادف انه السماء والأرض التي يريد مردوك صنعها , في تناقض غير مفسر بصورة مقنعة تتسبب به الترجمات . لكنّ الملفت ان ( مردوك ) انشأ الكون على منطقة مقدسة هي ( ايشاررا ) , والتي استمد قياسها من اله قديم يُفترض انه سبب هياج وعداوة ( تيامة ) ل ( مردوك ) وهو الاله ( ابسو ) .

لقد اعتقد السومريون – بما يبهر كل باحث معاصر – ان السماء والأرض كانتا متحدتين ثم انفصلتا ثم خُلق الانسان , وان كتلة السماء والأرض الأولى المتحدة جاءت من المياه الازلية ( ناممو ) . تقول الأسطورة السومرية ( بعد ان أبعدت السماء عن الأرض \ وبعد ان فصلت الأرض عن السماء \ وبعد ان عُين اسم الانسان … ) . وهو ما ورد في القران الكريم بنصه (( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا )) الأنبياء 30 . وهذه الحقيقة هي خلاصة الفيزياء الحديثة في نظريتها ( الانفجار الكبير ) , وهي خلاصة تطور وتدرج نشوء الكون والانسان في العلم الحديث .

كما ان البابليين رأوا ان ( مردوك ) خلق السماوات والأرض وحبكها } وبعد ان شيد السماوات والأرض \ عقد اربطتها لكي تكون محكمة الحبك { , وهذا هو مقتضى النص القرآني ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) الذاريات 7 .

ان السومريين ومن تبعهم من شعوب العراق القديمة كانوا يتعدد عنهم وصف مراحل نشوء الكون من سماوات وارضين وغيرها , لا انهم عددوا في الالهة التي خلقتها . وكانوا يضفون القداسة على الخالق الحق بعناوين متعددة , وعلى أصحاب الولاية التكوينية , وعلى المخلوقات العليا التي وصفتها الأديان الابراهيمية بالملائكة . لذلك كانوا ينسبون خلق الكون كله لاله بعينه , ومرة ينسبون خلق السماوات والأرض للكتلة المتحدة الأولى , باعتبارها مصدر جميع الاجرام . ومرة أخرى ينسبون خلق الأرض للسماء الكبرى , أي الفضاء , باعتبارها جزءاً اصيلاً من كينونتها العامة . ومن ثم لا تناقض في ملاحم السومريين والبابليين التي تعدد مصادر الايجاد للكون . انما التناقض في فهم الباحثين المعاصرين لتعابير ومراد السومريين . فيما جعلوا بعض المخلوقات نتيجة طبيعية لقوانين الكون ( ملائكة ) التي تم تثبيتها من قبل قوانين حاكمة ( ملائكة ) اعلى , ولم تكن من حاجة لان توجد بالطريقة القديمة , اذ توفرت الأسباب الطبيعية بعد وجود الكون لوجودها التدريجي الطبيعي . ومثال ذلك } حينما انو و إينليل و أيا \ الالهة العظام بمشيئتهم التي لا تحول \ ثبتوا شارات السماء و الأرض \ وأودعوا إلى أيدي الآلهة العظام \ خلق اليوم و تجدد الشهر شارة لـ \ الجنس البشري الذين يرقبون الشمس عند بوابة انطلاقها \ في الوسط بين السماء و الارض هم حملوه على ان يلبث دونما إخفاق { . فنلاحظ ان ( الهة ) اصغر هي التي كانت مسؤولة عن الزمن وحركة الشمس , وليس الالهة انو واينليل وايا .

اما اتفاق معظم الحضارات على اصل كون السماء والأرض كانتا رتقاً واحدا , ثم انفصلا , فهو نتيجة حتمية لأمرين , ان تلك ربما هي الحقيقة العلمية التي ورثتها معظم الشعوب عن مبشري الديانات السماوية من لدن ادم الى يومنا هذا , والامر الثاني ان معظم الشعوب كانت صدى لبابل وسومر في رؤاها المعرفية . فلا يعيب ذلك الاتفاق في الأصل فكرة الأصل نفسها , كما ارتجى بعض منظري العلمانية المعاصرة القريبة من الالحاد .

ومن اللطيف ان تكون تعابير العراقيين القدماء عن السماء ( šamû ) والأرض ( ersētu ) وكوكب ( Kakkabu ) وكويكب ( kakkabtu ) . هي ذاتها ما نستخدمها كعرب اليوم في لغتنا .

فيما اخذت الكواكب المعروفة لديهم حينذاك جذوراً لغوية مشتركة . فالمشتري ( UMUN.PA.UD.DU.A ) التقى مع عطارد ( LU.BAT.GU.UD ) في احد جذور الاسم , والذي بدوره التقى مع زحل ( LU.BAT.SAG.UŠ ) بجذرين , الذي يلتقي مع الزهرة ( DIL.BAT ) بجذر , والذي يلتقي مع المريخ ( ZAL.BAT.A.NU ) بجذر , والذي يلتقي ايضاً مع المشتري بجذر . في ظاهرة لغوية كانت لها أسبابها الفلكية العلمية ربما لدى الواضع الاكدي , والذي ورثها ربما عمن قبله من السومريين .

وقد اكد السومريون ان الخالق نظم الكون تنظيماً دقيقاً , وان مواضع النجوم والافلاك والمدارات السماوية مقدرة بمقدار دقيق , ولأسباب عقلائية . كما في النجم القطبي , وان القمر جعل لبيان دخول الأشهر الاثني عشر التي تقسم السنة لتنظيم حياة الانسان ووقته .

} (مردوك) خلق المكانة السماوية للآلهة العظام \ وثبت النجوم و صورها النجمية كجوابين توأمين \عين السنة و رسم الفصول \ ولكل من الاثني عشر شهرا وضع ثلاث نجوم \ بعد ان رسم هكذا مدة السنة \ أسس محطة نجمة القطب لتحديد الروابط بين النجوم \ لئلا يرتكب أحدها خطا أو إهمالا \ وضع بجانبها محطات إينليل و ايا \ فتح أبوابا من جانبي السماء \ وضع لها مزاليج قوية شمالا و يمينا \ في كبد تيامة وضع أعالي السماء \ وأضاء فيها ناننار و أودعه الليل \ عين له ان يكون جوهرة الليل لتحديد الايام \ فيسم بقرصه كل شهر بلا نهاية \ حينما يطل بدء الشهر على البلاد \ ستشع من الزوايا لتشير الى ستة أيام \ وفي اليوم السابع ليكن القرص على النصف \ وليشر الخامس عشر الى الاتزان في منتصف كل شهر \ ثم حينما تنظر إليك الشمس في قاعدة السماء \ بانتظام انتقص و تضاءل بصورة معاكسة \ في يوم اختفائك اقترب من طريق الشمس \ ومعك لتشر نهاية اليوم الثلاثين من جديد الى الاتزان { .

فيما ترجمة روتن اختلفت بصورة كبيرة عن الترجمة السابقة التي وردت عن مجموعة منهم هايدل , حيث يقول } … سلط القمر على الليل \ وجعله زينة في الليل \ به يعرف الناس موعد الأيام \ في بدء الشهر يطل القمر \ يحدد الأسبوع \ ويعد أسبوعين في نصف الشهر \ يواجه الشمس , يكون بدرا \ ينحسر ضوء الشمس عن وجهه , يصفر \ يدركه المحاق ثانياً الى الأرض { . وهي ترجمة كما نلاحظ مختلفة واكثر واقعية , واقل اسطورية وفنتازيا . وهذا الاختلاف مثال مهم على ما تسببت به الترجمات من سوء فهم للحضارات القديمة .

ثم نجد ثورة ملفتة لمخلوقات ( الهة ) اصغر في ترتيب سلم الالهة هي ( ايغيغي Igigi ) , ضد الالهة الأكبر التي مثلها ( اينليل ) ومجلس الالهة السبعة ووزراؤهم . حيث ادعت هذه ( الالهة ) الصغيرة انها متعبة من العمل الشاق في الأرض , بعد ان اوكل اعمارها اليها . فكانت النتيجة ان تخلق الالهة السبعة ( الانسان ) . ورغم ما ورد في ملحمة اتراخاسيس وغيرها حول هذه المجموعة الإلهية , الا ان تفسير وجودها يحتاج الى معرفة ماذا كان قبل الانسان على الأرض , او في محيطها البعدي الفيزيائي ربما , من مخلوقات ذات قدرات خاصة , او منتمية للعالم الأوسط في طاقته – كما سيأتي – بين العالم الطبيعي وعالم الملكوت . او انه تعبير مجازي سومري – غير مفهوم من قبل المعاصرين – عن حال مخلوقات شبيه بالإنسان لكنها فوضوية لم تستطع إدارة حياتها مع الطبيعة , فكان خلق الانسان العاقل مقدمة ضرورية لتنظيم وتسهيل تلك الحياة[8] .

ولم تكن أناشيد البابليين ( للالهة ) الأصغر سوى مبالغة وغلو ( معهود ) في العصور الحديثة في بلاد الرافدين او غيرها . فرغم صعود مرتبة ( نينورتا ) و ( نرغال ) كمقدسين بما يشبه قداسة ( مردوك ) الا انهم ظلوا دائماً من عالم معروف لدى البابليين على انه من مرتبة الالهة الأدنى . ففي نشيد يمجد ( نرغال ) – المتعدد الصور في المعابد – نجد النص يقول } أيها السيد القوي السامي بكر نونامنير \ الأول بين انوناكي سيد النضال { . و ( انوناكي ) عالم اقل من عوالم الالهة القديمة .

في حين اعتمد الباحثون الغربيون ومن تبعهم ترجمة النصوص العراقية بلغة تصارعية , والتزموا هذه السياسة , بدل النظر من زاوية أخرى اكثر مرونة . فنجدهم حين يرون اسم ( اشور ) في النسخة الاشورية لملحمة الخليقة البابلية ( اينوما ايليش ) يتصورون ان الاشوريين سرقوا مكان ( الاله مردوك ) البابلي بعد انتصارهم على بلاد بابل ووضعوا اسم الههم ( اشور ) . في حين انه قد لا يكون سوى توصيف اشوري لنفس الاله البابلي ( مردوك ) . حتى ان اغلب الالهة الفرعية او المستحدثة مثل ( نينورتا , سين ) وصفت دائماً انها ( انشار ) , وهو ما قرأه الغربيون على انه استبدال لالهة مشخصة مختلفة , بسبب انتماءات الالهة المستحدثة وكهنتها . فيما ربما ليس ( انشار ) سوى ( حالة كونية ) يمكن ان يشغلها أي ( مقدس ) سومري . وهذا شبيه بترجمتهم لتسبب ( انكي ) بإيجاد ( النبات ) , حيث جعلوه في صورة من ( يتزوج ) و ( ينجب ) . والحقيقة ان الوصف البابلي كان يصف كيف ان قوانين ( السماء , الأرض ) بعد استقرارها اوجدت النبات وتدرجه في النمو , في علاقة ظلت ملازمة لوجود النبات على الارض . والبابليون كانوا دقيقين في وصف الظواهر الكونية . فحين وصلوا الى إيجاد الفصول , وهي ظاهرة اعم من النبات , نسبوها الى ( اينليل ) الاله القديم الذي ساهم في تنظيم الكون . فيما جعلوا الطبيعة قائمة على مادة ( تيامة ) بتنظيم من ( مردوك ) . رغم انهم في ( تعويذة ) أخرى وصفوا ان الأرض هي من أخرجت سيول الأنهار , وان الأنهار شقت القنوات , والقنوات اوجدت المستنقعات , في مسار طبيعي للتكوين الجغرافي .

لقد اعتقد السومريون بأن نهري الفرات ودجلة من انهار الجنة , وانهما ينبعان من عين ( الالهة ) الأولى ( تيامة ) . فيما ( الفرات ) اكثر قدسية ومياهه تشفي من الامراض , وفي داخله بيت الاله ( أيا ) , وهو الاله الذي علم الانسان كل الحرف والعلوم الضرورية لحياته واوجدها . وهو ما يعتقده الشيعة الامامية اليوم في نهر الفرات , ايماناً بما جاء على لسان ائمتهم المعصومين من ال محمد . فقد ورد عنهم ( أن نهر فرات من الأنهار التي من الجنة. الروايات في فضل ماء الفرات، وأنه يصب فيه ميزابان من ميازيب الجنة، وأن ملكا يهبط من السماء في كل ليلة معه ثلاثة مثاقيل مسك من مسك الجنة فيطرحها في الفرات، وما من نهر في شرق الأرض ولا غربها أعظم بركة منه، وأن الولد الذي يحنك به يحب أهل البيت صلوات الله عليهم. وقال أمير المؤمنين – عليه السلام – : أما إن أهل الكوفة لو حنكوا أولادهم بماء الفرات لكانوا لنا شيعة )[9] . كذلك ورد ان الفرات في اخر الزمان يكشف عن كنز بعد انحساره . والنهران لا زالا يحتفظان باسمائهم العراقية الاكدية الى اليوم ( purattu) و ( idiglat ) . والاسماء الخالدة الباقية من الاكدية مثيرة , اذ ان الكثير من مفرداتنا العربية هي ذات اصل اكدي , مثل اغلب مفردات البناء . وهي مفردات شكلت على الدوام مقاطع في أسماء الالهة , مما يكشف ان تلك الأسماء المقدسة كانت وصفاً لا علَما . وكذلك أسماء الحيوان المفترس ( آكل = ākilu ) , والحيوانات النباتية بالسومرية ( الماشية = MÁŠ.UDU ) . فيما ظل العراقيون الى اليوم يصيحون على الكلب لاستفزازه بالكلمة الاكدية ( اشو = ašû )[10] .

يصر السومريون والبابليون – بشكل مطلق – على ان جميع حضارتهم جاءت من السماء , ومن علومها , وعن طريق رسلها . وهذا يؤكد ان الأنبياء الذين لم تكشف أسماؤهم كانوا مصدر جميع تلك الحضارة , التي كانت مصدر معرفة البشرية جمعاء .

فيما اعلنوا دائماً ان هناك بيوتاً مقدسة , في مدن مقدسة , لاسيما المدن الخمسة الأولى قبل الطوفان ( اريدو , بادتبيرا , لراك , لسبار , شروباك ) , شيدت من قبل السماء , وانها كانت مسكونة من قبل ( الالهة ) نفسها , وأصبحت محرمة , يجب احترامها وتبجيل تاريخها . وهو شبيه بما عليه الكثير من الأديان , لا سيما الإسلام الذي اعطى هذه المكانة للكعبة المشرفة في مكة المكرمة . ولم تكن هذه المدن والمعابد عبثية , بل هي ضمن رؤية فلسفية ما ورائية ميتافيزيقية سومرية , تقضي بكون هذه المحطات المقدسة وسيطة بين عوالم عليا وعالم الانسان . كما في نص } في الداخل اريد تأسيس موضع للعبادة \ واجعل فيه حجرتي المقدسة واركز فيها ملوكيتي \ حينما ستصعدون الى المجلس قادمين من ابسو \ ليكن لكم ثمة موضع راحة فيه تستقبلون جميعكم \ اريد ان امنحه اسم بابل حي ( الالهة ) العظام { . اذ ان ( ابسو ) عالم بُعدي تكويني , ليس على الأرض في الرؤية السومرية , كان هو اهم أسباب وجود الخلق . فتكون ارض العراق التاريخي ( بابل ) , من منابع نهري دجلة والفرات الى جنوب الجزيرة العربية , مقاماً مقدسا . وان اسم بابل نطقت به الالهة ذاتها لا السومريون كما في الملاحم البابلية . } في بابل التي اطلقت عليها الاسم \ هناك أسس الى الابد موضع راحة لنا \ ( في هذا الموضع ) لتقرب كل قرابيننا المنتظمة { . (( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) البقرة 102 . ومن هنا ورد عن اهل بيت النبي محمد عن الأماكن المقدسة في العراق التاريخي – بما فيه مكة والمدينة – ما يوافق الاعتقاد السومري , من كون هذه الأماكن موضع ربط مع السماء وانها بوابة للفيض الإلهي . عن عبد الله الطحان ، عن أبي عبد الله – الصادق – عليه السلام ( قال : سمعته وهو يقول : ما من أحد يوم القيامة إلّا وهو يتمنّى أنّه من زوّار الحسين لما يرى ممّا يصنع بزوّار الحسين عليه السلام من كرامتهم على الله تعالى ) , وعن صالح بن ميثم، عن أبي عبد الله – عليه السلام – ، ( قال: من سره أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوار الحسين بن علي – عليهما السلام – )[11] . وقال الامام الصادق عليه السلام عندما دخل عليه عبد الله بن الوليد في جمع من اهل العراق , فقال لهم: ( ممن انتم ؟ قلنا من اهل الكوفة . قال ما من البلدان اكثر محبا لنا من اهل الكوفة لاسيما هذه العصابة ، ان الله هداكم لامر جهله الناس فاحببتمونا وابغضنا الناس وبايعتمونا وخالفنا الناس وصدقتمونا وكذبنا الناس ، فاحياكم الله محيانا واماتكم مماتنا )[12] .

وتم خلق الانسان – وفق الرؤية البابلية – من ( دم الهي ) مخلوط بأديم الأرض . (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ )) الحجر 28 – 29 . وهذا ما جعله يحظى بالعقل , دون الحيوانات المخلوقة في نشأة أخرى . فيما تثر الملاحم والكتابات السومرية والبابلية القديمة ان ( بذور النباتات ) هبة الهية أتت من السماء . واعتقد السومريون ان النباتات العشبية الطبيعية خلقت قبل النباتات المزروعة بفترة اقدم . وان جميع ذلك تكريم من السماء المقدسة للسومريين ذوي الشعور السوداء وارضهم المقدسة [13].

رغم ان هناك ملاحم سومرية يمكن تفسيرها بمؤونة فنتازية اقل , وانها ليست سوى تعبير عن قوى طبيعية , الا ان مترجمين مثل كريمر ذهبوا بعيداً في خلق الاساطير وتسطيح العقل السومري منها . كما في صراع ( انكي ) و ( اله العالم الأسفل = كور kur ) . اذ لا تقول الأسطورة سوى ان ( كور ) ضرب ( انكي ) بالحجارة الصغيرة والكبيرة وسلط عليه المياه الأولى , بمعنى قريب جداً من ثوران براكين باطن الأرض وقذفها الحجارة والصهارة . وهو وصف سومري لحال الأرض في اول نشأتها , بما يكشف عن علمهم – من خلال الأنبياء ربما – بتاريخ نشوء الأرض . الا ان المترجمين جعلوها معركة بين الهين اسطوريين في مكان فنتازي خيالي . رغم اعتراض بعضهم على بعض بسبب الشك في ترجماتهم , كما فعل جاكوبسن مع ترجمة كريمر . ومن ثم لم تكن ملحمة ( نينورتا ) ضد ( اساغ asag ) وحش باطن الأرض ( كور ) , الذي سلط على الأرض مياه قديمة غير صالحة للسقي والاستخدام وجعلها تفيض على بلاد سومر , سوى حادثة طبيعية لثورات بركانية تسببت بفيضانات وغيوم رمادية تسببت بالاختناق وسممت مياه الأنهار . فقام ( نينورتا ) بمباركة ( ننماخ ) بسد تلك المنافذ الباطنية , واسقط الامطار النقية , واجرى ما فاض من المياه السيئة في مجرى دجلة , لتعود ارض سومر للحياة . فتكون بالتالي جميع الترجمات الغربية لهذه القصة فنتازيا أخرى لا داعي لها .

وتكون كذلك ملحمة ( اينانا ) ضد ( كور ) , الذي مثله ( الجبل ) هذه المرة على الحدود الإيرانية العراقية ربما . حيث تسبب كور بمشاكل للمدن المقدسة في سومر , فقامت اينانا بمعالجة ما احدثه . اذ قد يكون تسبب بفيضان , او انفجار بركاني , او نفطي , من بين الجبال هناك .

وهذا يكفي لتفسير اسطورة صراع ( نينورتا ) و ( الطائر المجنح انزو ) . حيث كان الأخير يسيطر على الأرض والجبال , وكان مطيعاً للاله ( اينليل ) , ثم سرق الواح القدر , وسيطر على مصائر من في الأرض , حتى قتله ( نينورتا ) بالعواصف والبرق والسهام الخارقة , وبعد ان جعل نينورتا الأرض مظلمة عاصفة , غابت عنها الشمس . واستعاد حينها الواح القدر الى بلاد سومر . اذ ان هذه الأسطورة ربما لم تتحدث سوى عن الظاهرة الطبيعية التي تسببت بانقراض الدينصورات الطائرة والعملاقة , التي هيمنت على مصائر وحياة المخلوقات الحية على الأرض . حتى قضت عليها ( كارثة كونية ) , مثلتها كينونة ( نينورتا ) , بعد فشل كينونات أخرى , وتسببت في ظلام الأرض وعصفها وانتشار المقذوفات فيها . فعادت سلطة الأرض لاحقاً – بعد غياب هذا الخصم الكبير – الى البشر المتحكم بعقله في تدبير طبيعتها , ولم يكن له ذلك لو بقيت تلك المخلوقات الوحشية الضخمة . ولهذا أفادت اسطورة ( الطائر انزو والواح القدر ) بأن هذا الكائن ولد من فيض الالهة الطبيعي , ضمن التكوين والسياق الذي أجرته في نظام التشكل في الأرض . كما ورد في اساطير أخرى ان هناك العديد ممن قاموا بالمشاركة في مواجهة هذا الطائر , ربما بسبب مساهمة الكثيرين في الخلاص من بقاياه على الأرض . فظل الاحتفال بانقراضه مناسبة كبيرة في الفكر السومري . وبهذا ايضاً يمكننا احتمال كون ( الوحش التنين لاببو ) العملاق , الذي قتلته ( الالهة ) السومرية , هو ظاهرة طبيعية كبرى فريدة , ابتدأت في المحيط واثرت في مجمل الأرض . ومن ثم نجد صدى هذه الظاهرة ( التنين ) ورد في كثير من اساطير الحضارات الأخرى . كذلك وردت قصة التنين في الكتاب المقدس “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يُعَاقِبُ الرَّبُّ بِسَيْفِهِ الْقَاسِي الْعَظِيمِ الشَّدِيدِ لَوِيَاثَانَ، الْحَيَّةَ الْهَارِبَةَ. لَوِيَاثَانَ الْحَيَّةَ الْمُتَحَوِّيَةَ، وَيَقْتُلُ التِّنِّينَ الَّذِي فِي الْبَحْرِ.” . سفر اشعياء 27 : 1 . و ” اِسْتَيْقِظِي، اسْتَيْقِظِي! الْبَسِي قُوَّةً يَا ذِرَاعَ الرَّبِّ! اسْتَيْقِظِي كَمَا فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ، كَمَا فِي الأَدْوَارِ الْقَدِيمَةِ. أَلَسْتِ أَنْتِ الْقَاطِعَةَ رَهَبَ، الطَّاعِنَةَ التِّنِّينَ؟ أَلَسْتِ أَنْتِ هِيَ الْمُنَشِّفَةَ الْبَحْرَ، مِيَاهَ الْغَمْرِ الْعَظِيمِ، الْجَاعِلَةَ أَعْمَاقَ الْبَحْرِ طَرِيقًا لِعُبُورِ الْمَفْدِيِّينَ؟ ” . سفر اشعياء 51 : 9 . ومع ذلك فقد تم اكتشاف بقايا احفورية على يد مدير متحف الصحراء ( اوزفالدو روخاس ) لتنين طائر في صحراء ( اتاكاما ) في تشيلي , ينتمي الى نوع من الدينصورات ( تيروصور ) من العصر الجوراسي , أي قبل ما يقرب من 160 مليون سنة , كان له ذيل طويل مدبب , واجنحة , واسنان حادة بارزة , وهي ديناصورات ساحلية كانت تنتشر في جنوب وشمال الكرة الأرضية . حيث كانت صحراء ( اتاكاما ) – حسب العلماء – مغمورة بمياه المحيط حينها .

وبسبب كل هذه الفوضى في ترجمة عقائد السومريين , كان يرى الباحثون تناقضات في بعض عقائد السومريين والاكديين , وانهم اختلفوا بيهم في شأنها . ومن تلك العقائد ( القدر = شيمتو ) . حيث يرى السومريون ان القدر يُفرض على ( الالهة ) , فيما يرى خلفاؤهم الاكديون ان ( الالهة ) هي التي تفرض القدر . وارى ان كل ذلك غير منطقي , اذا اعتمدنا تفسيرنا لتعبير ( الالهة ) السومري الاكدي , الذي يرى انها لم تكن تعني سوى ( الملائكة = القوانين ) . حيث ان الرؤيتين السومرية والاكدية واحدة , اذ ان الاله الخالق هو من يفرض القوانين وقواعد الكون , والأخيرة هي من تتحكم في مصير الانسان وغيره . ومن ثم تتأثر تلك ( الالهة الوسيطة ) ايضاً بالقدر الأعلى منها . لذلك ورد عن السومريين قولهم ( القدر الذي لا يميز بين الناس ) .

فيما وجود أيام محددة في السنة لتقدير الاقدار والمصائر بنحو ما في الفكر السومري , كاعتقادهم انه يجري في اليومين الثامن والحادي عشر من عيد ( اكيتو ) , شبيه جداً بما ورد عن القران الكريم والنبي وأئمة اهل بيت النبي محمد من وجود تلك الأيام فعلا . (( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ )) الدخان 2 – 4 . وعن ابن مسكان، عن ( أبي عبد الله – الصادق جعفر بن محمد – عليه السلام قال: إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا [أو يزيد] أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي أراد، قلت: وكل شئ هو عند الله مثبت في كتاب؟ قال: نعم، قلت: فأي شئ يكون بعده؟ قال: سبحان الله! ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى )[14] . وعن النبي محمد في فضل ليلة النصف من شعبان ( هذه ليلة النصف من شعبان، فيها تقسم الأرزاق، وفيها تكتب الآجال … )[15] .

ومن اللطيف ان تكون نظرة السومريين ل ( الإنسانية ) ملخصة في وصف نقيضها ( الوحشية ) التي كانت عليها شياطين ال ( غالا GALA ) السفلى , حيث انهم ( لا يأكلون طعاماُ ولا يعرفون الماء \ لا يأكلون طحيناً مبللا \ ولا يشربون الماء المسكوب \ ولا يقبلون الهدايا الملطفة \ ولا يشبعون حضن المرأة سعادة \ ولا يقبّلون الأطفال .. ) . اذ ان ( الانسان ) من صفاته – في الفلسفة السومرية – المدنية والاجتماعية واسعاد المرأة وحب الأطفال وتقبيلهم . وهذه صفات رحيمة جداً تأخرت كثير من جهات البشرية في معرفة قيمها[16] .

ان نظرة السومريين لخلق الانسان من قبل ( الالهة ) مربوطة ب ( غذاء ) يوفره وجود الانسان لبعض العوالم , التي قد تكون ربما بُعدية ميتافيزيقية , من خلال احجية الطاقة الفيزيائية العابرة للعوالم , او هنا على الأرض , بما يمنحه الانسان من تنظيم لحياة المجموعة الحية عند حسن التصرف .

اما الرؤية البحثية المشهورة , التي تفسر النصوص السومرية والبابلية لخلق الانسان بحاجة الالهة الى الغذاء , فهي ابعد ما تكون عن المنطق العقلي الذي يمكنه قبول حاجة الخالق الى المخلوق , وحاجة الموجد الى الموجود . فاذا كان الكون والأرض والانسان والنبات والحيوان والنار والهواء هبة الالهة فلماذا هي بحاجة الانسان لتغذيتها . ومن حوار ( اينكي ) و ( ننماخ ) الذين صنعا البشر نجد انهما هم من قدرا قوت الانسان ونصيبه في الحياة , فكيف ينتظران منه ان يتحفهما بما اعطياه .

فيما تم خلق الانسان من طين خاص , هو دون التراب الظاهر , وفوق ( ابسو ) المياه العميقة او مادة الكون الأولى . وربما لم تكن تلك سوى إشارة الى ان الانسان حظي بالعناصر المعدنية والكيمائية التي لا تتواجد في ظاهر التراب . وكانت خلقته من الطين مرحلة , لكنها اقترنت بوجود ( الهة الولادة ) لاحقا , والتي هي على الأرجح قوانين الطبيعة التي تأتي بالإنسان وفق السياق الذي نعرفه لولادته حاليا . وقد كانت طينة الانسان طاهرة مقدسة ممزوجة بنفس الهي . كما ورد في النص القرآني ما يؤيده (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ )) الحجر 28 – 30 .

وان وظيفة هذا الانسان في الأرض والغاية من خلقه – حسب النص السومري – هي العبادة , كما في ( اسطورة الخلق من نفر ) , التي يعمل الانسان فيها على رصف الأماكن المقدسة وتنشيطها بالعبادة , من خلال وصايا سماوية مقدسة لينير بها حياته , بالإضافة الى العمل الإنتاجي . وهو ما اقره القران الكريم (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) الذاريات 56 .

اما تعدد أسماء ( الالهة ) التي خلقت الانسان في النصوص السومرية والبابلية مثل ( أيا , ان , … ) , فليس سوى ما كررناه من تعدد المظاهر الميتافيزيقية والفيزيقية التي تسببت في وجود الانسان . والتي فهمها المترجم الغربي المعاصر فهماً متحجرا .

ومن الملفت انه في ( اسطورة خلق الكائنات الحية ) ان يخلق ( الاله ) المعروف باسم ( نين ايغي كو NIN-IGI-KU ) , والذي يفترض الباحثون انه هو نفس ( الاله أيا ) انسانين فريدين , هما اكرم من كل البشر[17] . وفي الإسلام ورد عن الرسول محمد ( … إن الله خلقني وعليا من نور واحد قبل خلق آدم بهذه المدة ثم قسمه نصفين، ثم خلق الأشياء من نوري ونور علي عليه السلام، ثم جعلنا عن يمين العرش فسبحنا فسبحت الملائكة، فهللنا فهللوا، وكبرنا فكبروا … ) , و عن أبي جعفر الثاني ( إن الله لم يزل فردا متفردا في وحدانيته ، ثم خلق محمدا وعليا و فاطمة فمكثوا ألف ألف دهر، ثم خلق الأشياء وأشهدهم خلقها وأجرى عليها طاعتهم … ) , وعن علي بن الحسين ( إن الله خلق محمدا وعليا والطيبين من نور عظمته، وأقامهم أشباحا قبل المخلوقات ثم قال: أتظن أن الله لم يخلق خلقا سواكم؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف آدم وألف ألف عالم، وأنت والله في آخر تلك العوالم )[18] .

وكانت البشرية الأولى السحيقة في القدم في نظر السومريين ( لوللو LULLU = بدائية ) . ففي اسطورة ( الغلة والماشية ) كان الانسان يعيش بصفة اقرب الى البهائم , حيث يأكل كما تأكل من الطبيعة ويشرب من الجداول ولا يعرف اللباس . وهذا علم عجيب من السومريين الحديثي العهد قياساً بسني البشرية المليونية , لم يكتشف بصورة نظرية علمية الا حديثا . لكن لا شك ان السومريين أبناء حضارة نبوية سماوية . ولهذا هم يرون ( من يأكل اللحم نيئاً ولا يملك بيتاً طوال حياته ولا يدفن حين يموت ) بانه ( مارتو ) وحشيا . وربما لهذه الأسباب تم وصف ( الاموريين ) بانهم ( مارتو ) , حيث كانوا مجتمعات بدوية قياساً بما كان عليه السومريون . وهذه العلوم المعرفية ورد ما يشبهها لدى شعوب احدث مثل الرومان ربما بسبب ما زقه السومريون والبابليون من علوم فيها , حيث كان ساحل البحر المتوسط نقطة التقاء علوم وادي الرافدين بأمم أوروبا مثلا[19] .

في نصوص ملحمة غلغامش يكون ( الجماع ) سبباً في وهن قوى الانسان , وهو امر ربما قصد به السومريون الحقيقة , وهي ان سائل الجماع ناتج عن غذاء الانسان , وبالتالي زيادة الجماع تؤدي الى وهن قواه وانخفاض طاقته , وهذا ما حصل لانكيدو . لكنه جعل ( اينكيدو ) اكثر ذكاء واقل وحشية , ربما يكون قصدهم الاستقرار النفسي الذي يتبع الجماع , والالفة الناتجة من تلك اللحظات الحميمة . فتكون الاسرة والزواج هي البداية الضرورية لتطور الانسان نحو الحضارة . لهذا جفلت الحيوانات المتوحشة عن اينكيدو وجفل عنهم بعد ذلك . وحينها يكون اكثر قداسة في نظر السومريين , كما في النص } انت جميل يا اينكيدو انك مثل ( اله ) \ لماذا تجوب البرية مع الحيوانات { .

ومن خلال الفرق بين ( اينكيدو = الراعي ) في ملحمة غلغامش و ( ادابا = الحكيم ) في ملحمة ادابا مفارقة ان ( ادابا ) كان رسول الاله وحامل الحكمة الحضارية للبشر , ومعزز المدنية . على خلاف ( اينكيدو ) الذي كان يمثل البشر العادي الذي يتحرك ببطء نحو الحضارة من خلال تعاليم جاهزة , ربما هي تعاليم نزل بها أمثال ( ادابا ) نفسه . وبالتالي تكون ( الحضارة ) هبة ( النبوة ) , التي هي هبة ( الخالق ) . والملفت ان ( ادابا ) كان احد ال ( انوناكي ) المقدسين , مما يكشف عن ان هؤلاء ال ( انوناكي ) ليسوا بشر ك ( ادابا ) البشري الذي فيه قداسة , مما يعني ان السومريين قصدوا بهم ( الأنبياء ) الأوائل المعلمين من البشر , او ربما ( الائمة ) و ( الاولياء ) أصحاب الولاية التكوينية والتشريعية المعطاة من الله . تقول القصة }… اتحفه بعقل واسع لكي يكشف مصائر البلاد \ اعطى هذا الانسان ( الحكمة ) ولكنه لم يمنحه الحياة الأبدية \ في ذلك الزمان في تلك السنين كان ( الحكيم ) قد ولد في اريدو … عالماً انه الاذكى بين الانوناكي \ قديساً يداه طاهرتان … { . وبحسب النص كانت كلمة ( ادابا ) مثل كلمة ( انو = الاله ) , أي انها ( الوحي ) . وهذا ما تعززه اسطورة ( الحكماء السبعة ) التي تضمنت ان الاله بعث سبعة رسل ليعلموا الانسان فنون الحضارة , الامر الذي أدى الى قيام أولى المدن في العالم , وهي ( نفر , اور , اريدو , كوللاب , كيش , لغش , شروباك ) . ومن أهم تلك التعاليم الزراعة والقوانين والنظم والكتابة والرياضيات كما في رواية ( بيروسوس ) .

وكان من الواضح في احد نصوص الفترة السرجونية ان السومريين اعتقدوا بأن الانسان ( وجود ظلي ) لله , وهي رؤية موجودة اليوم في الفسلفة الإسلامية .

وكانت أسماء العراقيين مرتبطة باسم ( الالهة ) غالبا , وهذا ما يتطابق مع ارتباطها اليوم بأسماء المعصومين عند الشيعة الذين يغلبون على العراق .

فيما كانت رؤية السومريين للقربان في محضر الالهة ليست كما تصورها ونقلها الباحثون المترجمون , من كونها لحياة الالهة , بل لفائدة الانسان مقدم القربان ذاته , كما في النص } والقربان يطيل العمر \ والتضرعات تحررك من الخطيئة { . وهي تتطابق مع حديث نبي الإسلام « تصدّقوا وداووا مرضاكم بالصدقة، فإنّ الصدقة تدفع عن الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم » . لكن ربما انتقل به العقل الوثني لاحقاً لتفسيرات أخرى بعد انحراف الشعوب عن المصادر الدينية الأولى النقية , واتجاه الكثير منها للغلو والاصنام .

وكان من الواضح ان الانسان العراقي القديم كان يعتقد ان الاله يرشده ويدله ويختار له الخير , لكن اذا اساء الانسان فان الاله يتخلى عنه ويتركه للشر دون مرشد ودليل[20] .

ومن خلال اعتقاد السومريين ان ( الالهة ) الأولى ( اينكي , نوكك , بابلساك , اوتو , سود ) كانوا يحكمون المدن الأولى في زمن قبل الطوفان , لابد لنا من نتيجتين , الأولى ان هذه الالهة ليست سوى الأنبياء المقدسين الأوائل من ذرية ( ادم ) اول نبي وابي البشر , وقد غالت فيهم الشعوب لاحقاً وصنمتهم , والثانية ان قصد السومريين كانوا يعتقدون بخضوع تلك المدن حينها لقوانين الطبيعة وولايتها التكوينية , ثم نقلها لولاية الانسان بعد تنظيم طبيعتها . لذلك قال السومريون ( ان الملك مرآة الاله ) . وقد كانت ( الامارة ) الأولى التي اوجدتها ( الالهة ) للسومريين هي ( دولة القبيلة = الراعي القائد ) , بمعنى انها كانت مرحلة تمهيدية للدولة الكبيرة , ليقود ( ذوو الرؤوس السود = السومريون ) الناس جميعاً من خلالها , كما في اسطورة ( النخلة وشجرة الاثل )[21] .

ان ما احتوته بعض النصوص البابلية من تصوير الالهة بصورة فنتازيا سينمائية تشبه الى حد كبير صورة الالهة الاغريقية اليونانية في الأفلام المعاصرة , حيث لها مجلس لشرب الخمر ومثل ذلك من ظواهر منحرفة , اذا لم تكن من معطيات الترجمات الخاطئة للعقول الغربية الوثنية الأصل , فهي لم يكن ربما سوى نتيجة مباشرة لانحراف مجمل المجتمع البابلي ودخوله في عالم السحر والوثنية . فالقران الكريم يفترض بعد نوح وجود مجتمعين هما ( عاد ) و ( ثمود ) , كلاهما وثنيان , ثم ظهر ( إبراهيم ) , ووجدت ( مدين ) ونبيها شعيب , والأخيرة عربية الطابع البيئي . وبما ان مجتمع نوح محدد المعالم الجغرافية والزمانية , وكذلك مجتمع إبراهيم ومدين , وما وجد اخيراً من إشارات الى وجود ثمود , فتبقى عاد على الأرجح هي الدول الوثنية ما بين نوح وثمود في المجتمع العراقي , ومنها بابل . لاسيما مع انتساب ( السبئيين ) , وهم قوم عراقيون استوطنوا جنوب العراق التاريخي , الى نبي قوم عاد ( هود ) , الذي تفترض الروايات الإسلامية الشيعية دفنه في مدينة النجف الاشرف الى جوار علي بن ابي طالب .

(( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ )) الفجر (٦-٨) . (( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) الشعراء (١٢٨-١٣٠). (( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم أعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين )) الأعراف: 65-72 . (( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزي وهم لا ينصرون )) فصلت: 13-16 . (( واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يري إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغني عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )) الأحقاف: 21-26 . ولم تحظ دولة بهذا التقدم في التاريخ المكتشف في المنطقة الا دولة بابل وما قبلها وبعدها من دول في منطقتها . وليست ( عاد ) ربما دولة واحدة , بل يذكر القران الكريم (( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى )) , فربما تكون هناك دولتان متعاقبتان من ( عاد ) , او انها إشارة الى قدم عاد في تاريخ الدول .

وقد ورد عن أبي عبدالله جعفر الصادق قال : ( لمّا بعث الله هوداً أسلم له العقب من ولد سام ، وأمّا الآخرون فقالوا : من أشدّ منّا قوّة ، فأهلكوا بالرّيح العقيم ، ووصى وبشرهم بصالح صلوات الله عليهما )[22] . وهو هنا يصرح بكون الساميين التحقوا بهود نبي عاد . وقد نسب النسابة العرب ( هوداً ) كونه من ذرية نوح نفسه , فيما نسب الاخباريون ان شعبه اول من تحدث العربية , وهو راجح ومعزز بما ورثته العربية من كلمات اكدية صريحة[23] .

ومما يعزز هذا الرأي ان القران الكريم قرنهم بدولة الفراعنة , بل قدمهم عليها , اما زماناً او مرتبة . (( ألم تر كيف فعل ربك بعاد * ارم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * ان ربك لبالمرصاد )) الفجر 5 – 13 .

لقد امن السومريون باللعنة التي تصيب الانسان حين يعتدي على حرمة الاله , او حرمات الاولياء المقدسين . وهو امر امن به المسلمون ايضاً , لاسيما الشيعة منهم .

كما امن السومريون بوجود كيانات مقدسة تشرف على كل تفصيل في الكون[24] . وهو مطابق لما ورد عند المسلمين الشيعة ( سئل الصادق عليه السلام : هل الملائكة اكثر ، ام بنو آدم ؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لملائكة الله في السماوات اكثر من عدد التراب في الارض ، وما في السماء موضع قدم الّا وفيه ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الارض شجرة ولا عودة الّا وفيها ملك موكل بها ، يأتي الله كل يوم بعملها ، والله اعلم بها ، وما منهم واحد الّا ويتقرب الى الله كل يوم بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبينا ، ويلعن اعدائنا ، ويسألون الله ان يرسل عليهم العذاب إرسالا ) .

وبحسب الوصف المطلق الذي منحه السومريون لقدم وقدرة وقوة ونفوذ وبهاء وإرادة الاله ( انو ) يُحتمل انهم قصدوا به ( الخالق = الله ) .

اما ( اينليل ) فهو بحسب ترجمة اللفظ السومري ( enlillu ) أو ( illilu ) بمعنى ( اعلى مرتبة ) , واللفظ الاكدي ( enlillütu ) بنفس المعنى او بمعنى ( القوة التنفيذية ) , فعلى الأرجح هو شبيه بمفهوم ( الصادر الأول = المخلوق الأول = النور الأول = مصدر الفيض الإلهي = النبي محمد ) عند المسلمين الشيعة . لهذا ورد عند السومريين ايضاً انه عندما خلقت السماوات والأرض كان هو الملك . اذ هو المقدس الأول في الكون المرئي . كما انه صاحب البركة التي ينشدها جميع المقدسون من عظماء القداسة في النصوص السومرية . وهو ضامن نظام الكون من الفوضى . وقد اطلق عليه لقب } اب جميع ( الالهة ) { , وهو ما عليه فكر الشيعة ايضاً من ابوة النبي محمد لجميع الكون . ولذلك هو ( عظيم الانوناكي ) , الذين هم ممثلو ( انو ) اله السماء . وهو مطابق لما يعتقده المسلمون الشيعة ايضاً من ان النبي محمداً اعظم الأربعة عشر المعصومين الذين استخلفهم الخالق على هذا الكون , ولا يناقشون كلامه بل يطيعونه , كما يفعل الانوناكي مع اينليل .

فيما نجد ( اينكي = أيا ) , الذي هو وصي ( اينليل ) ووكيله التنفيذي , هو ( NUN.GAL = الأمير العظيم ) , وهو بالضبط ما يعتقده المسلمون الشيعة في ( علي بن ابي طالب ) ويصفونه به ( امير المؤمنين ) , ولا يجوزون هذا اللقب الا له . عن جابر الجعفي قال: ( قال أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام لو علم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا ولايته، قلت: رحمك الله متى سمي علي أمير المؤمنين؟ قال: كان ربك عز وجل حيث أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين )[25] . ونقلوا انه قال ( رجل للصّادق عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، فوقف الإمام الصادق عليه السلام على قدميه وقال بغضب : مَه ، هذا اسم لا يصلح إلّا لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. ولا يجوز أن يُسمّى بهذا الاسم من لم يسمّه الله تعالى. ) . فيما اشترك الاثنان ( أيا , علي ) في كونهما ( ناصح الانوناكي = المعصومين , عميق العلم , سيد البلاغة , رعاة وادي الرافدين , اينليل الأصغر = الوصي , اخو اينليل = اخو النبي , بيته مزار وموضع طاهر , متحكم بقرص الشمس ) . وزوجته سيدة عظيمة هي ( زوجة الأمير العظيم ) . وهذا ما عليه اعتقاد الشيعة ايضاً في فاطمة الزهراء زوجة علي بن ابي طالب .

فيما ( ننار \ سين ) يلفت نظرنا بمشابه لما حظي به من القاب مع القاب حظي بها ( الحسين بن علي ) شهيد كربلاء وحفيد النبي محمد . حيث لقب ( زورق السماء المضيء ) , وهو يشبه وصف الحسين بن علي ( سفينة النجاة ) , و ( ذو البزوغ الساطع , كوكب السماء المضيء ) , والحسين ( مصباح الهدى ) , و ( اله النور الجديد ) , والحسين ( أبو الانوار ) , و ( ثور اينليل الصغير , الثور الفتي ) , والحسين ( سبط رسول الله , سيد شباب اهل الجنة ) , و ( الذي يفتح الطريق امام اخوته ” الالهة ” , مزود الشعوب بالنور ) , والحسين كان المؤسس لحركة دينية اسفرت عن تغييرات جذرية في المنطقة بعد شهادته في كربلاء ولازالت الشعوب تستلهم ثورته .

فيما تستمد ( الالهة ) السومرية والبابلية الأخرى قدسيتها من انتمائها ل ( الالهة : انو , اينليل , أيا , سين ) , مثل ( اوتو = شمش ) الذي يتفرع عنه تسعة مقدسين ( ميشاري , كيتو.