5 نوفمبر، 2024 9:39 ص
Search
Close this search box.

الآخر في زمن كورونا

الآخر في زمن كورونا

الآخر لغة هو أحد شيئين، يكونان من الجنس نفسه، وهو فلسفيا مفهوم يمكن أن تشير إليه الفاظ عدة، أقرب منه الى مصطلح يستقى معناه من كلمة محددة، نجد أقدم نماذجه عند اليونانيين، كما يقول بوقرن، في كتابه “الآخر في جدلية التاريخ”: لــفظ يطلــق على غـيرهم للتميـيـز بين اليـونـانـي المتحضّر وغـيره المتخلّف، ومن ثم هو متعدد تعدد الأنا، فالأنا عندما تشير الى شخص ما فإن الآخر هو ذلك الشخص، هو كما يقول، حميش في كتابه “في معرفة الآخر”: كل ما كان موجودا خارج الذات المدركة ومستقلا عنها، ولهذا الآخر أوصاف، فعندما تعبر الأنا عن المبادئ والقيم والمعايير التي جاء بها الإسلام، يكون الآخر هو مجموع القيم والمبادئ الأساسية التي جاء بها الغرب الحضاري، وهنا يرد الآخر، كما يقول المزيني، في كتابه “التعامل مع الآخر”: بوصفه بنية لغوية رمزية ولا شعورية تساعد الذات على تحقيق وجودها ضمن علاقة جدليَّة بين الذات ومقابل لها قصد به غير المسلمين، اصطلح على تسميته، بأهل الذمَّة، بل ان داخل الأنا المسلم هناك آخر، سني يتضمن في بنيته الآخر الاشعري والنقلي والعقلي، وغيرهم من المكونات، وشيعي يتضمن في بنيته الآخر الاخباري والاصولي وغيرهما من المكونات، ويقدم فوكو خلاصة للآخر، كما يقول الرويلي في “دليل الناقد الأدبي”: فهو عنده المُقصَى، اللامفكر فيه، الهامشي الذي أقصاه المركز، والماضي الذي اقصاه الحاضر، الا أنه جوهري، لأن اقصاءه لا يعدم وجوده، وإنما يجعله في ثنائية مع المُقصِي، والخلاصة أن الآخر ضروري للأنا، ليس عند حدود ما يقوله السير وليم هاملتون: أنا استنتج أن الناس الآخرين لديهم مشاعر مثلي، بسبب أن لديهم أجساما مثلي، وهو شرط سابق للشعور، وأنهم يعرضون افعالا واشارات من التجربة التي تنشأ بواسطة الشعور، فحسب بل لأن وجود الآخر الهامشي المنصرم الهش القبيح يشعر الأنا بوجودها المركزي الحاضر الصلب الجميل، بل ان في وجوده ما يستفز الأنا لتعبر عن وجودها، فالآخر يكون تارة نصفك المحبوب الذي يستفز فيك مشاعر الود، وأخرى يكون نصفك المكروه الذي يستفز فيك مشاعر البغض، وقد يكون نصفك المؤمن الذي يفجر فيك مشاعر التقوى، وقد يكون نصفك الكافر الذي يفجر فيك مشاعر الفجور، واذا ما كان قدر الأنا ان تكون نسبية محدودة في متناول الحس والنقد، فان الآخر قد يكون مطلقا.
إن هذا كان الآخر قبل كورونا، أمّا الآخر بعد كورونا فمختلف، انه ليس أحد شيئين، يكونان من جنس واحد، وهو ليس الآخر الذي بانهزامه يُشعر الأنا بالانتصار، إنما هو الآخر المتربص الذي يشعر الأنا بالخوف، آخر له وحده حق الاختيار، فلا أنا تنازعه على المركز والجمال والصلابة والحضور، غاية ما تحلم به الأنا هو أن يتركها تعيش بأمان في الهامش القبيح الهش المنصرم، هو آخر يفرض عليك ما يريد من مشاعر للقرب والبعد، هو آخر مهول يشعرك بأنه يترصدك في كل الناس الذين يُقدر لك أن تراهم، قريبين أم بعيدين، بل هو آخر يترصدك في الطرقات وعلى الجدران وفي كل ما تطلّب أن تقتنيه من غذاء ودواء وحاجات للاستخدام، إنه آخر يترصدك في يدك التي ترهقها بالمطهرات وتكتم أنفاسها بالقفازات.

إن الآخر في زمن كورونا مختلف حتى في طرائفه، فقبل كورونا كنا نشفق على من نراه يتحرك بين الناس مرتديا الكمامة، نحسب أنه يعاني من مرض، فرض عليه ارتداءها، أما في زمن كورونا فالشفقة حقا على من يتحرك بين الناس بلا كمامة، فهو مريض، ربما تحنقه الكمامة وتدني نسبة الاوكسجين في دمه، وما خرج الا لضرورة، وإن لم يكن كذلك، فهو حقا مريض لم يصدق بكورونا من الأساس، مثل من لم يصدق بأن الانسان وصل الى القمر، ولكن لهذا الأخير حجته أن الامريكان هو وحدهم من صور وصول الانسان الى القمر، وهذا خبر واحد ليس بحجة كما يقول الفقهاء، علاوة على أن هذا الواحد ليس ثقة، أما خبر كورونا فمتواتر يرويه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب.

أي آخر هذا الذي يختلجنا في زمن كورونا، هو ليس آخر على الاطلاق،

إنه الأنا التي تنكرت لمحيطها فتنكر لها،

إنه الغربة

إنه التيه

أحدث المقالات

أحدث المقالات