23 ديسمبر، 2024 11:13 ص

كثيرة هي العبارات التي تفرض نفسها ضيفا على سطور كاتب المقال، منها ثقيلة الظل ومنها خفيفته، وكثيرة أيضا المفردات التي تتصدر مانشيتات الصحف والمجلات، أو التي لايرى الخطيب بدا من الاستدلال بها او التنويه عنها او الاتكاء عليها في خطبته، وقطعا كل فرد من هؤلاء يجد في مفرداته تلك ضالته في التعبير عما يقصده، أو قد يواري خلفها مايبطنه من مقاصد، وهذه الأخيرة قد تأتي بنية شريفة.. أو (غير شريفة). من تلك المفردات مفردة شاع استخدامها في العقد الأخير على نحو واسع وعلى أكثر من لسان وفي أكثر من محفل، وتحديدا بعد (عام السعد) عام 2003 تلك هي كلمة (الآخر)..!

من البديهي في حياتنا أن هناك شيئا.. وهناك شيء آخر، وأن هناك شخصا.. وهناك شخص آخر، كذلك هناك هوىً.. وهناك هوىً آخر. ومادام لكل شيء شيء آخر؛ فإن الشيء الآخر ينظر للشيء بأنه شيء آخر لامحالة، وبتحصيل حاصل بالإمكان القول أن الأشياء قد تختلف فيما بينها، وقد يكون الاختلاف كبيرا، إلا أن الشيء المؤكد أنها تلتقي في نقطة واحدة، حيث يكمل الشيء بالشيء. بمعنى آخر أن الأضداد أحيانا تشكل -بضديتها- ناتجا جميلا، بل أحيانا أخرى لايظهر جمال الشيء إلا ببعض من جمال الشيء الآخر، كما قال الشاعر علي بن جبلة الأبناوي:

فالوجـه مثل الصبح منبلج

والشـعر مثل الليل مسـود

ضدان لما استجمعا حسنـا

والضد يظهر حسـنه الضد

ولو خضنا في بحر الأضداد والأشياء المختلفة، لما احتوت صيدنا عشرات المجلدات والكتب، وكذلك عشرات الأعداد من الصحف.

مالفت انتباهي خلال السنوات الخوالي، ازدياد ترديد هذه المفردة على لسان ساستنا في عراقنا الجديد، حتى غدا التأكيد عليها الغرض الرئيسي في خطبته أو مقالته أو رسالته. فما إن يمسك أحدهم بمايكروفون في منصة او على شاشة إحدى الفضائيات، إلا وراح يندد بـ (الآخر) ويقذفه بوابل من الاتهامات، ويلصق به من الصفات أشنعها، ومن الخصال أقبحها، وفي ذات الوقت يتمشدق (الآخر) بملء شدقيه معلنا معارضته لـ (الآخر) ورفضه العيش معه على الكرة الأرضية برمتها، وقطعا كل من (الآخر) و (الآخر) -لو علموا- لاغنى لهما عن بعضهما رضوا أم أبوا.

وبصريح العبارة فإن من يضع مقاييس تعامله مع رفاقه في شوط الحياة، في قالب حجري لايقبل التحضر والتغير للأحسن، وتمسكه بالراديكالية الرجعية، هو في وهم كبير من حيث يشعر ولايشعر، إذ هو في رفضه لـ (الآخر) إنما يرفض ديناميكية الحياة وحركتها الدؤوبة في مجالاتها كافة، وكما نقول في مثلنا الدارج: (إيد وحده ماتصفگ). وإذا كان رفض (الآخر) منطقيا ومقبولا، فأين نحن من حديث الإمام علي عليه السلام في كتابه الى مالك الأشتر:

“الناس صنفان، إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”؟

وأين نحن من كلام الله عز وجل:

“وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”؟.

هو صوت بلسان كل عراقي يعشق عراقيته، الى كل السياسيين الذين يعتلون صهوات الكراسي العاجية، وكذلك الى بعض رجالات الدين، أن يتركوا التعامل مع الآخر وفق منظار أنه كائن (آخر) من كوكب آخر، وكفانا فرقة وليكن (الآخر) و (الآخر) روحا واحدة وجسدا واحدا، وليكن الحديث بمفردة (نحن) بدل (الآخر).

*[email protected]