المحتوى
يشمل محتوى هذا البحث مضمون عيد (اكيتو)؛ عيد رأس السنة (الآشورية)؛ حيث نوضح بإيجاز أهم طقوس ومضامين عيد (اكيتو) في (الفكر القومي الآشوري) وتأثيرات (الميثولوجيا الآشورية) على ثقافة الأقوام والشعوب والأمم الأخرى، حيث تشمل عناوين هذا البحث:
* بداية الربيع تنطلق مسيرة اكيتو للاحتفالات بعيد القومي الآشوري في الأول من نيسان
* تأثير الميثولوجيا الآشورية من الثقافة.. والتراث.. والآداب.. والفنون.. والعلوم علي الشعوب والحضارات الأخرى
* تمسك الآشوريون بإرثهم الحضاري رغم حملات الاضطهاد وسياسة إلغاء هويتهم القومية
* الآشوريون واصلوا الاحتفال كل عام بأعياد (اكيتو) كرمز من رموز التمسك بالهوية القومية الآشورية
* تحديد السنة الآشورية مدخلا للهوية الآشورية والانتماء القومي
* مكتبة الملك الآشوري العظيم (آشور بانيبال) أعظم مكتبة وأقدم مكتبة في تاريخ العالم والتي وجد فيها أعظم مدونات وأساطير في العالم
* المكتبة الآشورية اكتشافها كان بمثابة ثورة علمية حقيقة في الفكر الإنساني هزة أوساط العالم
* الميثولوجيا الآشورية وتأثيراتها على الديانة اليهودية
* الآشوريون و سبي اليهود
* الميثولوجيا الآشورية وتأثيراتها على الديانة المسيحية
* قراءة النص التراثي للفكر الآشوري تم قراءته قراءة معاصرة تواكب الحداثة من اجل توظيف مناهج حداثية من خلال قيم تراث الأمة و وفق أطر التفكير المنهجي والنقد الإبستيمولوجي
* الفكر والعلم والفن والأدب والتراث الآشورية مكونات لكيان الحضارة والتراث الوطني الآشوري
* الاحتفال بالعيد رأس السنة الآشورية – اكيتو ما هو إلا التزاما قوميا لتأكيد على هوية الأمة الآشورية
* عيد اكيتو أول إنتاج إبستيمولوجي في تاريخ البشرية
* الآشوريون يؤرخون تاريخهم من خلال الفهم الأنثروبولوجي
* طقوس احتفالات بعيد اكيتو بداية الربيع والسنة الآشورية
* البعد التاريخي في التراث (الآشوري) أخذت أبعاده الثقافية عند كل الحضارات التي تلت حضارتهم
* الموروث الحضاري والهوية القومية والدلالات الفكرية والفلسفية عند الآشوريين
* تأثير المد القومي في عموم أوربا على الأمة الآشورية
* التراث واللغة تجذير للهوية القومية الآشورية
* الخاتمة
……………….
اكيتو والميثولوجيا الآشورية وتأثيرها الإبستمولوجي والأنثروبولوجيا في ثقافة المجتمعات والحضارات الأخرى
فواد الكنجي
المقدمة
خلال العقود الأخيرة؛ احتلت محاولة استقراء التراث (الآشوري) حيزا مهما في (الفكري الآشوري المعاصر) ومن خلال مقاربات مختلفة, ولقد قدم بعض المفكرين والناشطين القومين من أبناء امتنا (الآشورية) أطروحات جادة في مجال أغناء التراث عبر التجديد.. والحداثة.. والمعاصرة؛ ليتم قراءة النص التراثي قراءة معاصرة تواكب الحداثة من اجل توظيف (مناهج حداثية) في شتى مناحي الحياة ومن خلال قيم تراث الأمة و وفق أطر التفكير المنهجي والنقد (الإبستيمولوجي)، و(الإبستيمولوجي) كما جاء في معجم ( لالاند) على ((أنها الدراسات والأبحاث التي تتناول المعرفة البشرية))، مع الانفتاح في تحليل التراث على الكثير من مقاربات ونتائج العلوم الإنسانية كالتاريخ.. وعلم النفس.. وعلم الاجتماع.. و(اللغة الآشورية)؛ من اجل تحقيق بدايات جديدة لفكر نقدي (آشوري) يواكب تطلعات الأمة (الآشورية) وبما تطمح الأمة ليكون المجتمع (الآشوري) مجتمع محب للعلم والمعرفة.
لان عظمة (الميثيولوجيا) – وميثولوجيا تعني ((علم الأساطير المتصلة بالآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال الجغْرافيين عند شعب من الشعوب)) – والتراث في الفكر (الآشوري) اخذ في المجتمع (الآشوري) مكانة هامة؛ لما تقتضيه هذه المسألة الفكرية والمعرفية من أهمية في الفكر.. والعقل (الآشوري).. وفي الواقع الثقافي؛ ليتم تعزيز موقع الأمة (الآشورية) الاجتماعي وعلاقة الأمة بـ(الآخر الحضاري)؛ وخاصة إن الأمة (الآشورية) اليوم أمام تحديات المعاصرة.. والحداثة.. ومن خلال ظاهرة العولمة واستتباعاتها الثقافية والحضارية، وهوس المفكرين والمثقفين (الآشوريين) بذلك.
لذلك نجد بان (الآشوريون) يؤرخون تاريخهم من خلال الفهم (الأنثروبولوجي) الذي يرتبط بحوثه في مجالات التاريخ.. والأدب.. والعلم الطبيعي.. وعلم الاجتماع لدراسة الإنسان.. وطريقة التي يتنبأ بمستقبله.
ومن خلال علم (الأنثروبولوجيا) نتعمق فيما تم تدوينه في الرقم الطينية و من خلال ما كتب على المنحوتات الحجرية التي اكتشفت في مكتبة (آشور بانيبال) العظيمة؛ وبأنها وثائق في بناء معلومات التاريخ بكونها مستودع لخزين الذي ينطلق منه أولى أدوات البحث في التاريخ وبناء النص التاريخي والذي في مجمله يكون عنصر من أهم عناصر الثقافة القومية للأمة (الأشورية) بل في ثقافة شعوب العالم، لان (الأنثروبولوجيا) كفهم يرتبط بحثه في مجال (العلوم الإنسانية) و(العلوم الطبيعية) باعتباره (من أشد العلوم الإنسانية له طبيعة علمية، وأشد العلوم الطبيعية إنسانية)، لأنه علم يسلط الضوء على قضايا كان المؤرخ التقليدي لا يعير الاهتمام بطبيعة مواضيع العلاقات العائلية والاجتماعية للأسرة.. والقرابة.. والمحرمات والقانون.. والأمن.. والعادات.. والتغذية.. واللباس.. والطقوس.. والشعائر الدينية والاحتفالية إلى أخره، غير إن البحث (الأنثروبولوجيا) توجه باهتماماتها بكل ما يحيط بالإنسان ويمارسه ويفهمه؛ لذلك اهتمت بحوث (الأنثروبولوجيا) بدراسة التاريخ.. والأدب.. وعلم الطبيعي.. وعلم الاجتماع؛ بهدف دارسة الإنسان وطريقة تنبؤه بمستقبله، لذلك يكون الفهم لنص التاريخي من خلال الطرح (الأنثروبولوجيا) توضيحا لحقيقة واقع وحضارة الأمة (الآشورية) ووجودها وكعنصر من عناصر الذي يغذي الثقافة القومية والهوية للأمة (الآشورية) .
بداية الربيع تنطلق مسيرة اكيتو للاحتفالات بعيد القومي الآشوري في الأول من نيسان
تنطلق مسيرة الاحتفالات بـ(رأس السنة الآشورية – اكيتو)؛ مع أول يوم من بداية فصل الربيع في (الواحد والعشرين) من شهر(آذار)؛ لتكتمل طقوس المسيرة في (الأول) من شهر(نيسان)؛ وهو يوم الذي يعتبر بداية (رأس السنة الآشورية).
حيث اتخذ (الآشوريون) من (الأول من نيسان) بداية لدخول السنة (الآشورية) الجديدة؛ متخذين بعد مراقبتهم لظروف الطبيعية وكيفية تتجدد الطبيعة نفسها في أول ليلة (الاعتدال الربيعي) في نهاية شهر (آذار) وبداية شهر (نيسان) موعدا لدخول (العام الجديد الآشوري)؛ فأنهم وضعوا مراسيم وطقوس خاصة للاحتفال بهذا اليوم وفق طقوس معينة ووفق (الميثولوجيا الآشورية).
وقد عرف هذا العيد باسم (عيد أكيتو)، وكانت الاحتفالات تستمر لمدة (أثنى عشر يوما)؛ بدءا من أول ليلة الاعتدال الربيعي في (21 آذار) وينتهي في (الأول من نيسان)، لنجد فيما بعد بان الشعوب الأخرى أخذت نفس المنحى للاحتفال بالرأس السنة، ليقتبس من هذا العيد في المراحل لاحقة من التاريخ بعض الطقوس وبشكل معدل في احتفالات لدى الأقوام الأخرى بعد وصول طقوسها إليهم.
تأثير الميثولوجيا الآشورية من الثقافة.. والتراث.. والآداب.. والفنون.. والعلوم علي الشعوب والحضارات الأخرى
فـ(الحضارة الآشورية) في (بلاد الرافدين – العراق) بثرائها الفكري.. والأدبي.. والعلمي.. وأساطيرها المشبعة بالتحليلات لشتى ظواهر الطبيعة التي كان الإنسان (الآشوري) آنذاك يراقبها والتي كانت تؤثر على أوضاعه المعيشية؛ تركت على الحضارات الأخرى أثرا كبير، لنجد حجم تأثير (الميثولوجيا الآشورية) من الثقافة.. والتراث.. والآداب.. والفنون.. والعلوم علي الشعوب والحضارات الأخرى كـ(الإغريق) و(الرومان) و(الفينيقيين) و(الآراميين) و(الحضارة اليونانية)، فانتقلت شتى (ألأساطير الآشورية) إليهم، فالإله (تموز) في (الميثولوجيا الآشورية) أصبح عند (الغريق) آلهة (ادونيس)؛ وتحولت الإلهة (عشتار) لدى (الإغريق) إلى الإلهة ( أفروديت) والى (عشتاروت) لدى (الفينيقيين) وملكة السموات عند (اليهود)؛ وهكذا دواليك بالنسبة إلى جميع الإلهة التي كان عند (الآشوريين) والتي تم تصنيفها وفق الظواهر الطبيعية؛ نحو إلهة الموت.. و إلهة الأعماق السفلى.. و إلهة الفيضانات.. و إلهة العواصف.. و إلهة الغصب.. إلى أخره من أنواع الإلهة، فان الحضارات الأخرى أخذت بنفس النمط والتصنيف ولكن بتسميات تلاءم لهجاتهم ولغتهم وطبيعة مجتمعاتهم، وهكذا تم محاكاة (الميثولوجيا الآشورية) من حيث الأفكار والتفسيرات والمدلولات الفلسفية وتلبيسها بثوب حضارات تلك الشعوب بل على الديانات التي تلت بعد سقوط الإمبراطورية (الآشورية – 612 ق.م ) كالديانة (اليهودية) و(المسيحية) و(الإسلامية) و(الزاردشتية) و(البوذية) و(الهندوسية ) وغيرها، وعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ انتقلت فكرة الاحتفال بعيد ميلاد السنة الجديد عند (الآشوريين) إلى اغلب الحضارات التي احتكت بـ(الآشوريين)، فان كان (الآشوريون) قد اتخذوا من (الأول من نيسان) بداية لدخول السنة الجديدة (الآشورية) متخذين بعد مراقبتهم لظروف الطبيعية وكيفية تتجدد الطبيعة نفسها في أول ليلة (الاعتدال الربيعي) في نهاية شهر (آذار) وبداية شهر (نيسان) موعدا لدخول (العام الجديد الآشوري) فأنهم وضعوا مراسيم وطقوس خاصة للاحتفال بهذا اليوم وفق طقوس معينة؛ وكانوا يعرف باسم (عيد أكيتو) وكانت الاحتفالات تستمر لمدة أثنى عشر يوما بدءا من أول ليلة الاعتدال الربيعي في 21 آذار وينتهي في الأول من نيسان، لنجد فيما بعد بان الشعوب الأخرى أخذت نفس المنحى للاحتفال بالرأس السنة، كما نجد في (بلاد فارس – إيران ) حيث احتفل به (الزاردشتيين) و(الأكراد) وكانوا يسمونه (نوروز) بمعنى (اليوم الجديد)، كذلك عند (الفينيقيين) و(اليهودية) بل نجد تأثيراته وصلت إلى (بلاد الصين).
كما نجدها في احتفالات التي يقوم بها (الفرس) و(الأكراد) و(المصريين)، والتي سميت لاحقا بـ( عيد الربيع.. و عيد نوروز.. أو عيد شم النسيم…الخ) فمنهم من يحتفل في يوم 21 آذار وقسم الأخر يحتفل في الأول من نيسان كما عند أبناء وأحفاد (الأشوريين) القدامى في العصور الحديثة .
إن جوهر احتفال بهذا العيد تعود فكرته بان (من الموت تولد الحياة) وبان (الحياة تنتهي بالموت) بشكل (دايلكتيكي) ولادة وموت.. وثم ولادة وموت.. وهكذا تستمر الحياة ضمن دائرة كونية ﻻ تنتهي، والتي ترتب حلقات الحياة بشكلها المتوالي والتي انطبعت في عقلية حياة سكان (بلاد ما بين النهرين) سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، لذلك يكون الاحتفال بعيد (اكيتو) صورة لإعادة إحياء التراث والتاريخ الفكر الإنساني الذي يعرف الأمم على هوية (الآشوريين) .
لنستشف من خلال هذه (الميثولوجيا الآشورية) كيف أثرت على الأمم الأخرى والشعوب المجاورة لإمبراطورية (الأشورية) وكيف امتدت علوم والثقافة (الآشورية) إلى (الآراميين) و(الفينيقيين) و (الإغريق) ليتخذوا من رموز (الآشورية) رموز مماثله لهم وبأسماء أخرى، بعد إن تم سرقة تراث (الآشوريين) من بلاد الرافدين حضارة (العراق) ونسبته إلى حضارات وشعوب أخرى، كما إن الكثير من مظاهر الاحتفالات بيوم (اكيتو) في شهر (نيسان) والذي كان يعتبر الشهر الأول من السنة في بلاد (آشور) قد امتدت فكرته إلى (الافنيقيون) و(الحثيون) و(اليهود) و(اليوناني) و(الفرس) حيث احتفل به (الزاردشتيون) منذ القرن السابع ق.م ولكن تحت تسمية ( نوروز)، وهذا التأثير بالميثولوجيا (الآشورية) قد تم توضيحه في الكثير من بحوث الأكاديمية في ارقي جامعات العالم، بكون ما تم اكتشافه من الآثار (الآشورية) وتحديدا قصة الخلق أو( إنوما إليش)؛ وهي (قصة الخلق الآشورية) والتي اسمها ( إنوما إليش) والتي تم اكتشفها (هنري لايارد) في 1849 في آثار مكتبة (أشور بنيبال) في مدينة (نينوى – العراق) وطبعها (جورج سمث – في 1867)، والتي تتألف من ألف سطر تقريبا على سبعة ألواح فخارية باللغة (الآشورية) القديمة، في كل لوح 115 إلى 170 سطرا، بالنص كامل تقريبا عدا اللوح الخامس والتي اكتشفت نسخة عنها في (تركيا)، ليستشف من إن أفكار (الآشوريين) القدماء عن قصص وملاحم (الخلق والتكوين) لم تكن أفكارا بدائيه بل أفكار متطورة ناضجة بالدرجة مليئة بأفكار فلسفية و معارف لدرجة التي أذهلت المدارس الأكاديمية لحجم تطور ونضوج عقلية الإنسان (الآشوري) في تلك الفترة من بداية حضارة الإنسان، ليثبتوا (الآشوريين) حجم وقوة مقدرتهم الفائقة على الملاحظة والتشخيص الدقيق والربط واستخلاص النتائج بمنتهى المعرفة والمنطق، لتظهر كل الدراسات الحديثة بان اغلب القصص التي تم تفسيرها وترجمتها من خلال بعثات الآثار وفك رموز الألواح الطينية التي اكتشفت في مكتبة الملك (أشور بانيبال) قد انتقلت إلى كل بقاع العالم ابتداء من جوار المحيط الإقليمي لوادي الرافدين (العراق) والى دول (أسيا الصغرى) وبلاد (اليونان) والى مناطق عدة في (جنوب إفريقيا)، مما ترك بصمات واضحة وأوجه شبه بين قصص (بلاد الرافدين) والقصص التي تتداول أو التي دونت بلسان تلك الأقوام، ولعدة أسباب منها:
أولا.. بحكم وقوع اغلب هذه المناطق تحت سلطة الإمبراطورية (الآشورية).
وثانيا.. نتيجة تأثر المجتمعات الغربية بالتراث الفني والحضاري والثقافي (الآشوري) بعد وقوع (العراق- بلاد الرافدين) تحت السيطرة الأجنبية ولفترة ليست بالقصيرة .
وثالثا.. تم نقل وسرقة ألاف قطع الآثار ولوحات الطينية ومخطوطات الأدب من القصص والملاحم البطولية والتي اليوم جلها موجودة في متاحف العالم خارج (العراق).
و رابعا.. ساهمت عملية الترجمة بعض قصص وملاحم (الآشورية) المكتوبة على الألواح الطينية إلى لغاتها المحلية وربما تم تناقلها بلغات الأقوام أخرى وتم نشرها إلى ممالك وأمم وشعوب مختلفة الذين تأثروا بشكل خاص ببعض العادات والمعتقدات والتقاليد (الآشورية) وبشكل عام تأثروا بفنون الأدب والثقافة والفن (الآشوري) في بلاد الرافدين (العراق الحالي).
ومن هذه الأسباب فان قيمة التراث (الآشوري) وتأثيراته في الفكر الإنساني كان عظيما، لدرجة التي اخذوا من التراث (الآشوري) الكثير من العادات والتقاليد ومنها الاحتفاء والاحتفال بطقوس احتفالات بـ(رأس السنة الآشورية – اكيتو)، كما ذكرنا سابقا، و لهذا فان (الآشوريين) إن يحتفلوا بهذا العيد هو تعبير عن تمسكهم بإرث حضارتهم العريقة (حضارة الآشورية)، ولهذا أخذا هذا الاحتفال عندهم طابعا (قوميا) باعتباره علامة متميزة من علامات التواصل والتمسك بالهوية القومية (الآشورية) وارثها الثقافي والفني والحضاري الموغل في التاريخ والحفاظ على التقاليد الأمة (الآشورية) على مر الزمن أسوة بالأمم والدول المتحضرة التي تعتز بإرثها وتفتخر بحضارتها.
تمسك الآشوريون بإرثهم الحضاري رغم حملات الاضطهاد وسياسة إلغاء هويتهم القومية
ورغم كل ما أصاب (الآشوريون) منذ سقوط دولتهم في 612 ق.م حيث ما إن ترتكب بحقهم مجزرة حتى ترتكب مجزرة أخرى، وخاصة عند دخولهم إلى الديانة (المسيحية) وصولا إلى مجاز التي ارتكبها (العثمانيون) و(الفرس) قبل وبعد القرن العشرين في (تركيا) و(إيران) وتحديدا ما بين ( 1915– 1918) وفي العراق ما بين (1920– 1933) ناهيك عن الاضطهاد السياسية التي مارستها أنظمة الحكم في (العراق) بحق (الآشوريين) وسياسة استهدافهم على الهوية الدينية.. والقومية.. والفكرية.. والثقافية؛ ليجبروا إلى النزوح والهجرة من ارض إبائهم وأجدادهم في (العراق) وطن (الآشوريين)، ومع كل حملة اضطهاد وسياسة إلغاء الهوية تمسك (الآشوريين) وواصل النضال والتشبث بأرضهم وبإرثهم الحضاري رغم التضحيات الجسام التي ذاقوها من استهداف..وقتل.. وخطف.. وتجريف أراضيهم وقراهم.. وحتى لم تسلم مقابرهم من التجريف والتخريب بل تجاوزا أمر التخريب والتجريف إلى مواقع الآثار للحضارة (الآشورية) التي هي ارث الدول وحضارة العالم، ولكن لأنها تحمل صفة الهوية (الآشورية) تم تجاوز عليها لتكون مواقع الآثار ساحة مفتوحة لسلب والنهب والتخريب، كما حدث في (نينوى) اثر احتلالها من قبل (الدولة الإسلامية الداعشية في 2014)، وما أعقبها من نزوح هائل لـ(لآشوريين) تشتتوا في المخيمات ودول الجوار وفي شتات الأرض بعد حملة موسعة من قبل أعداء الأمة (الآشورية) في استهدافهم المباشر من اجل محو وإلغاء هويتهم القومية والدينية من على أرض الإباء والأجداد في (العراق)، مما زاد من نزيف الهجرة، ومع كل هذه المعانات والمجاز والاضطهاد لم يتخلى (الآشوريين) لا عن ديانتهم (المسيحية) ولا عن هويتهم القومية (الآشورية)، وتواصلوا متشبثين بكل ما أتى لهم من قوة وعمل وكفاح من اجل البقاء في وطن الأجداد في (العراق) ومن اجل الاحتفاظ بأرضهم.. وبطقوس ارثهم الحضاري.. ومورثهم الشعبي.. وعاداتهم.. وتقليدهم.. ولغتهم (الآشورية).
الآشوريون واصلوا الاحتفال كل عام بأعياد (اكيتو) كرمز من رموز التمسك بالهوية القومية الآشورية
ليواصلوا الاحتفال كل عام بأعياد (اكيتو) في (الأول من نيسان) كرمز من رموز التمسك بالهوية القومية (الآشورية)، رغم أنهم بدخولهم (المسيحية) تغير الكثير من رموز الاحتفال بعيد (اكيتو) على ما كان يمارس قبل أكثر من سبعة ألاف سنه؛ لتغيير طبيعة التحضر ومعاني الحياة ودخول مفاهيم معاصره على طبيعة البشرية، ولان (الآشوريين) واكبوا قيم التحضر والمعاصرة، حيث يعتبرون اليوم من أكثر ألأقوام في العالم وشعوبها تحضرا، فكرا.. وثقافة.. و وعيا.. وتقبلا للقيم الحضارة المعاصرة، ومع ذلك فأنهم إن يحتفلون اليوم بعيد (اكيتو- رأس السنة الأشورية) إنما يحتفلون وفق قيم ومفاهيم معاصرة وبطريقة متحضرة، لدرجة التي واكبت كنيستهم (الآشورية) هذا التحضر، بل ساهمت مساهمة فاعلة وفعلية بالاحتفاظ على روح التقاليد القومية على مر العصور، ولهذا بقى (الآشوريين) مع كنيستهم يحتفلون بأول من نيسان كعيد قومي لبداية الربيع وتجدد الحياة، لذلك ينظمون مسيرات احتفالية وكرنقالات ومهرجانات وتقديم رقصات شعبية وارتداء ملابس خاصة بالزى (الآشوري) المعروف بنقشاته وتطريزه الأنيق؛ حيث يتجمع المحتفلون بأعداد هائلة في أحضان الطبيعة كما ويقوم اغلب العوائل بوضع باقة من العشب الأخضر في صبيحة الأول من نيسان على أبواب بيوتهم تعبيرا عن قدم الربيع وبداية شهر الخير و الفرح ويسمونه بـ(ذقن نيسان أو لحية نيسان)، وكما تقوم العوائل بتبادل الزيارات فيما بينهم لتقديم التهاني بقدوم الربيع وبشكل متحضر يواكب مع روح العصر.
ليبقى الاحتفال بالأول من نيسان (كيتو) عيدا قوميا لـ(لآشوريين) ولتذكير شعوب الأرض عن قيمة الميثولوجيا (الآشورية) ومدى تأثيرات التي تركته في الفكر الإنساني وفي تطوير الثقافة والمعرفة البشرية والتي منها انطلقت كل المعارف والعلوم الإنسانية والعلمية والاقتصادية والسياسية في العالم .
وستدخل (الأمة الآشورية) هذا العام في عامها (6775 – الآشوري) وهذا اليوم يصادف وحسب التقويم الميلادي في (الأول من شهر نيسان من عام 2025 – الميلادي).
تحديد السنة الآشورية مدخلا للهوية الآشورية والانتماء القومي
ولفهم كيفية تحديد (السنة الآشورية) سنعيد في اسطر قليلة ذكر ما ذكرناه في أكثر من مقال كتبت بهذه المناسبة الميمونة لشعب (الآشوري) العظيم وذلك لتكون أجيال (الأمة الآشورية) ومن أبناء هذه الأجيال على الاطلاع بتاريخ وتراث أمتهم وليتم نقلها إلى الأجيال القادمة .
ويأتي ((.. تحديد هذا التاريخ لسنة (الآشورية) مدخلا للهوية (الآشورية) والانتماء القومي، الذي هو بالمنظور المطلق لـ(الآشوريين) أينما وجدوا من أولوياتهم بكونه يمثل الارتباط (الآشوري) بالأرض، ارض الإباء والأجداد في بيت نهرين عبر ترسيخ مفهوم الهوية وتأصيلها في وعي أبناء الأمة لمعرفة جذورهم وانتمائهم القومي.
فجاء تحديد هذا التاريخ لسنة (الآشورية) انطلاقا حين تم وعبر التنقيب والمكتشفات الآثار التي باشرت البحث عنها الكثير من البعثات العلمية القادمة من عدد من دول الغرب إلى منطقة الشرق الأوسط وتحديدا إلى (بلاد الرافدين – العراق) قبيل منتصف القران الماضي ومن بين تلك البعثات بعثة اثأر (أمريكية) من جامعة (شيكاغو) حينما اكتشفوا في عام 1948 أثار لمستوطنة زراعية أسفرت عن وجود دلائل بان سكان بلاد الرافدين ابتكروا فكرة بناء منزل ليؤوى فيها، وقد قاموا ببناء مساكن بسيطة لهم مصنوعة من الطين والحجر ليحتموا من ظروف المناخية ومن الحيوانات المفترسة، وقد اكتشفوا باحثي الآثار عن مستوطنات زراعية في منطقة ( جرموا ) قرب مدينة (كركوك – العراق) في منطقة (جرمو) قرب مدينة (كركوك) ، وحسب الاختبارات التي أجريت على طبقات الأرض بواسطة (الكربون الإشعاعي) وجدوا بأن عهدها يعود إلى 8830 سنة وفي اختبار أخر إلى 11240 سنة، وهناك وجدوا علماء الآثار مكتشفات كتب على بعض الآثار المكتشفة أسماء لـ(سبعة عشر ملكا حكموا في جرمو) في فترات متأخرة، وكان (الخامس عشر) بينهم هو الملك (اشبويا) الذي بني من الحجارة والطين بيتاً للإله (أشور) وسماه (هيكل الإله أشور) وكتب بالخط المسماري يقول: ((بنيت البيت للإله آشور…)) وقد أوصى الملك (اشبويا) الحكام الملوك الذين يأتون من بعده بهدم البيت ويعيدون بناءه من جديد كل 250 سنة لكي يشعر الإله ( آشور) انه بعد كل هذه الحقبة يعيش في بيت جديد، وفي اكتشافات منفصلة فقد أشارت الكتابات التي دونت على احد الألواح الطينية التي تعود إلى( القرن التاسع قبل الميلاد ) بان احد الملوك (الآشوريين) أعاد بناء هيكل الإله (آشور) للمرة (الثانية والعشرين) حسب توصية الملك (اشبويا) ومن خلال هذا الرقيم الطيني تم إيجاد الفترة التي حكم فيها الملك (اشبويا) وهي( 4700 سنة ق. م )، وقد أكدت هذه التواريخ الاختبارات التي أجريت بواسطة (الكربون ألشعاعي) والتي طابقت الأرقام المعتمدة من الألواح الطينية، فاعتمدت سنة (4750) تأريخا لبناء هيكل الإله (أشور) وبداية التقويم ( الآشوري)، وبناءا على هذا التاريخ يكون تزامن هذه السنة الميلادية (( 2025 )) الحالية ما يقابل دخول السنة (الآشورية) في الأول من نيسان عامها (6775 – الأشورية) …)).
انظر إلى المقال (( رأس السنة الآشورية الهوية والانتماء – بقلم فواد الكنجي )) وكذلك انظر مقال ((أعياد (اكيتو) والدلائل التاريخية لميثيولوجيا الأشورية – بقلم.. فواد الكنجي)) .
فالموروث الثقافي والتاريخي للأمة (الآشورية) يشكل ذاكرة الوطن وهوية المجتمع، لان كنوزه الثمينة كانت ثمرة نتاج عقول وجهود أجيال سعوا لبناء مستقبل زاهر لامتهم فبنو إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال ليشكل جسراً للتقارب والتواصل بين مختلف الشعوب والثقافات العالم ليخلفوا موروثا حضاريا غنياً بالقيم الإنسانية والفنية والتراثية والعلمية والأدبية فأخذت وبنت وانطلقت منه شعوب العالم في بناء نهضتها الحديثة.
ومن هنا تكمن أهمية (التراث الآشوري) في قيمته الإنسانية المشتركة بكونه إرثا لا يستغنى عنه؛ وهو ما أدركته دول وشعوب العالم فبذلوا كافة الجهود في سبيل صون وحفظ معالم التراث (الآشوري) العالمي وحمايتها من الاندثار وذلك بتخصيص قاعات ومتاحف للآثار وللتراث والفن (الآشوري)؛ وأسست منظومة عمل مؤسسية علمية أكاديمية وجامعية ذات خطط وأهداف واضحة عملت على تحقيق العديد من الإنجازات في هذا المجال، إيمانا منها بأن الآثار والفن والتراث (الأشوري) الإنساني هو تراث عام لكل البشرية، والحفاظ عليه مسؤولية مشتركة بين جميع دول العالم، حتى وصلت بالتراث (الآشوري) إلى العالمية من خلال قيادتها لملفات ترشيح عناصر التراث الثقافي غير المادي، التي أثمرت عن تسجيل العديد من عناصره على لائحة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
مكتبة الملك الآشوري العظيم (آشور بانيبال) أعظم مكتبة وأقدم مكتبة في تاريخ العالم والتي وجد فيها أعظم مدونات وأساطير في العالم
ولطالما حظيت الآثار (الآشورية) وتراثه الأدبي والفكري بمكانة رفيعة المستوى كمحور أساسي في الدراسات الاكاديمة العالمية والمعرفة، كما أن تجربة (الآشوريين) في حفظ تراثهم عبر التدوين وإنشاء مكتبات، وكانت مكتبة الملك (الآشوري) العظيم (آشور بانيبال)، هو ملك الإمبراطورية (الآشورية) عاش في القرن السابع ق. م. حوالي 669 وتوفي في 627 ق.م.
لقب بملك العالم وهو آخر ملوك للإمبراطورية (الآشورية) الحديثة، عرفه اليوناني باسم (ساردانابالوس) ، وسمي في التوراة تحت اسم (أوسنابير).
كان (آشور بانيبال) هو حفيد الملك ( سنحاريب)، وقد ذاعت شهرته كفاتح وملك عظيم بحيث عرف بلقب ( ملك العالم ) وقد وصل الملك (آشور بانيبال) إلى ذروة العظمة التي لم تعهدها في تاريخها، ولكنه اشتهر، بصورة خاصة، باهتمامه بالإنجازات السلمية وتشجيعها، فشيد في نينوى قصرا رائعا، تزين بعض جدرانه الداخلية بالمنحوتات والتماثيل الرائعة. وأنشأ مكتبة كبيرة، وجمع الكثير من ألواح الطينية والقوانين، وكل أنواع المواد المكتوبة وأسس مدارس وشق الطرقات وعبدها، وشيد مباني عامة، ومن أعظم انجازاته هو قيامة بإنشاء مكتبة حيث أسسها في القرن السابع قبل الميلاد وسميت باسمه مكتبة الملك( آشور بانيبال)، حيث احتوت مكتبته على مجموعة تقدر على آلاف ألواح الطين احتوت على موضوعات مختلفة تعود للقرن السابع قبل الميلاد.
وهذه المكتبة تعتبر أشهر المكتبات ليس في بلاد النهرين( العراق) فحسب بل في العالم اجمع، وقد اختلف العلماء حول عدد مقتنياتها حيث قال البعض بأنها تحتوي على إلف رُقم طيني، ويذهب البعض الأخر بالقول بأنها أكثر من ذلك بكثير، حيث احتوت هذه المكتبة على موضوعات مختلفة تعود للقرن السابع قبل الميلاد. ومن ثابت القول بأن الملك (آشور بانيبال) قد جمع في هذه المكتبة كل ما وجده في القصور الملكية لأجداده من الملوك السابقين وأضاف إليها كل ما استطاع جمعه في عصره وحفظ فيها ألاف الألواح الطينية التي تمثل تراث حضارات ما بين النهرين في جميع فروع المعرفة وكانت المكتبة مفهرسة ومنظمة بصورة جيدة.
لقد تم العثور على بعض البقايا المتعلقة بالمكتبة في موقع حفر أثري في(كيونجيك – نينوى القديمة – عاصمة آشوريين) والتي بنيت عليها مدينة (نينوى) الحالية، فمعظم اكتشافات الموقع تمت من قبل الرحالة وعالم الآثار البريطاني( أوستن هنري لايارد) حيث تم نقل معظمها إلى إنجلترا وتعرض بعض من بقايا المكتبة في (المتحف البريطاني في لندن ومتحف اللوفر بباريس).
فلقد اكتشفت مكتبة (آشوربانيبال) في بداية التنقيبات الأثرية في بلاد ما بين النهرين، بين عامي 1845 – 1851 على يد الإنجليزي (أ.ه ـ لايرد)، في (تل كيونجيك) بالقرب من مدينة (الموصل) حيث تم اكتشاف بقايا العاصمة (الآشورية نينوى) .
وفي عام 1850 اكتشف (لايرد) البلاط الملكي للملك (سنحاريب – 705 – 681 ق. م)، ووجد فيه ما سماه (غرفة السجلات)، وقد تابع عمله بعد ذلك، حيث اكتشف بقايا قصر الملك (آشوربانيبال) ومكتبته التي تحتوي على أكثر من 20 ألف رقم طيني .
وأثارت تلك الرقم التي انتقلت إلى المتحف (البريطاني) في (لندن) ضجة كبيرة، سواء في وسط الخبراء في ذلك الوقت أم في وسط المهتمين بالثقافات القديمة للشرق الأوسط.
واستطاع (آشور بانيبال) أن يجمع نحو 25 ألف لوح في حجرات مكتبة قصره الذي كان يحتوي على حجرة لكتب التاريخ، وأخرى للاتفاقيات والمعاهدات، وقاعة لكتب الجغرافيا، حيث جمعت كتب كثيرة تصف الأرض المعروفة والأقطار والمدن والأنهار والجبال، كما كانت هناك قاعة لكتب الأدب من شعر وقصص وأساطير، وكان ثمة قاعة للقوانين والتشريعات، أضف إلى ذلك قاعة الأرشيف الذي ينظم السجلات الضريبية والمراسلات، وقاعة يقرأ فيها الملك.
وكانت هناك قوائم وفهارس تحصر وتسجل وتصف الكتب الموجودة في المكتبة؛ ولتلك الفهارس مداخلها بالعنوان وتوصف الكتب بعد العنوان بعدد السطور في كل كتاب ومحتويات الكتاب في الكلمات الاستهلالية أو كلمات البداية التي كانت في بعض الأحيان تمثل عنوان العمل وربما العناوين الفرعية وعناوين الفصول إن وجدت وربما كان معدو الفهارس يضعون لوحات إرشادية على الرفوف والصناديق والجرار؛ لبيان ما بها من كتب.
وكان كل لوح يختم بخاتم الملكية، وهو (آشور بانيبال – ملك العالم)، وربما كان ذلك (أول خاتم ملكي كتب في التاريخ.(
فهذا الاهتمام في التدوين وحفظ التراث وفي صونه والحفاظ عليه لفتت أنظار العالم وحظيت باهتمام واسع ليعد ذلك خطوة فاعلة ساهم في تعريف المجتمع العالمي بحضارة و بتراث (الأمة الآشورية).
المكتبة الآشورية اكتشافها كان بمثابة ثورة علمية حقيقة في الفكر الإنساني هزة أوساط العالم
وكان لاكتشاف مكتبة (آشور بنيبال 626- 667 ق.م) على يد عالم الآثار (أوستن هنري لايرد) ومعاونه (العالم هرمز رسام) وما وجد فيها من ألواح طينية دونت فيها نصوص تتحاور في مفهوم (إله) ومعتقدات ذلك الزمان، و بعد إن توصل العالم (هنري رولنسون) والعالم ( جورج سميث) إلى قراءة الأحرف المسمارية في منتصف القرن التاسع عشر أحدثت اكتشافاتهم ثورة فكرية هائلة على حجم العلوم والمعرفة التي كانت سائدة في عصر الإمبراطورية (الآشورية) أي بحدود أكثر من سبعة ألاف سنة قبل الميلاد، وكان لاكتشافهم بما كتب على تلك الرقم الطينية التي وجدت في مكتبة الملك (الآشوري– آشور بنيبال) والتي احتوت هذه المكتبة على (25000 ) لوح؛ بمثابة ثورة علمية حقيقة في الفكر الإنساني هزة أوساط العالم وخاصة بما يتعلق بما كتب على سبعة ألواح تتحدث عن سبعة أجيال وجلها تدور حول خلق الكون والبشر، ومن بينها قصة ( الطوفان الأولى) و(ملحمة كلكامش) وملحمة الآلهة (عشتار)، و ملحمة الخلق ( إينوما إيليش – عندما في العلى)، ومما أثار ما تم اكتشافه في هذه القصص التي كتبت في العصر (الآشوري) الأول هو تطابق نصوصها تطابقا كليا على ما ورد في الأيام السبعة في (سفر التكوين – التوراة)، مما أذهل العلماء – وحتى (اليهود) منهم – لدى اكتشاف النصوص (الآشورية) المكتوبة بالحرف المسماري، فابتكر العلماء تسمية لها سموها بعبارة ( توراة ما بين النهرين)، ولذلك اعتبرت محتويات هذه المكتبة – والتي مؤحرا؛ عرضت بعض محتويات هذه المكتبة في المتحف البريطاني إمام الجمهور لمشاهدة عظمة مكتبة (آشور بنيبال) – المفتاح الرئيسي لـ(علم الآشوريات) لتكشف المدونات المزيفة التي طغت على الفكر البشري لألفي عام .
كما وسع في البحث عن هذا الجانب العلامة العراقي الدكتور (فاضل عبد الواحد) في كتابه الموسوم (من ألواح سومر إلى التوراة 1989)، حيث أكد في بحوثه بان اغلب قصص (التوراة) منقولة من حضارة (الآشورية) في بلاد الرافدين وتحديدا قصة (الخلق) و(جنة عدن) و(الفردوس المفقود) و(قصة هابيل وقابيل) و (زقورة بابل) و(بين موسى وسرجون الاكدي)، كما إن كثير من الباحثين وعلماء الآثار العراقيين سلطوا الضوء على هذه الجوانب وقد ورد ذلك في مؤلفات وترجمات وبحوث الدكتور (طه باقر) و الدكتور (سامي سعيد الأحمد) والدكتور (بهنام ابو الصوف) وآخرين، وهي منشورة ومتواجدة في المكتبات.
فعلميا حلت محتويات هذه المكتبة – مكتبة (آشور بنيبال) الأثرية – محل (التوراة)، حيث اعتبروا بان (التوراة) ولقرون طويلة المرجع التاريخي الوحيد عن تاريخ المنطقة، وفي هذا الصدد أيضا أثار العالم ( فريدريك ديلليتش) ضجة إعلامية واسعة حين ألقى محاضرة حول (توراة بلاد آشور) تحت عنوان (بابل والكتاب المقدس) ، في عام 13/12/1902 في العاصمة الألمانية (برلين) بحضور القيصر (فيلهيلم الثاني)، أوضح فيها بـ((أن قصص (التوراة) مأخوذة من بلاد آشور)) مما سبب له التهديد من قبل بعض الحاخامات من اليهود المتشددين، وتم له أيضا التوبيخ الشديد من الكنائس الغربية المتطرفة.
وبهذا لاكتشاف واجه كل من اتجه من المفكرين والعلماء هذا الاتجاه حربا مع (الكنائس الغربية واليهود)، مما حاولت الجهات الصهيونية تكثيف جهودهم للحيلولة دون إظهار هذه الألواح (الآشورية)، وفعلا عبر موساد (الإسرائيلي) وأجهزة مخابرات واستخبارات الصهاينة؛ تم إخفاء العديد من الألواح (الآشورية) الهامة .
وباختصار، فان لملحمة خلق (إينوما إيليش) الكثير من المدلولات الفكرية الرصينة والتي تم الاقتباس الكثير من مضامينها في قصص (التوراة) فحين تسرد ملحمة الخلق ( إينوما إيليش – عندما في العلى)، بكون الجيل الأول لبداية التكوين حينما كانت الأرض معدومة حيث بدا الكون يتكون من العنصر (الذكر) والذي سمي (إله) المياه العذبة ( آبسو) والعنصر (الأنثى) التي هي (إلهة) المياه المالحة وسميت (تيامات)، وما بينهما يرفرف (إله) سمي بـ(ممو) وهو كان يمثل السماء أو (إله) السحاب، لتتشابه هذه الفكرة مع (سفر التكوين) في اليوم الأول إلى حد التطابق، ثم يتكون الجيل السادس من بداية الخلق حيث الإله (مردوخ – آشور) الذي يخلق (لالو) (الإنسان) ليخدم الآلهة فتستريح في الجيل السابع، وهذا أيضا يتطابق تماما مع ما نص في (التوراة) حين ذكر فيه (خلق الله الإنسان في اليوم السادس واستراح في اليوم السابع – انظر إلى (سفر التكوين)، وفي قصة الخلق ( إينوما إيليش- عندما في العلى)، فأن الإلهة (تيامات) التي على شكل (التنين) وهي تسبح في البحار، كانت تنوي التخلص من أحفادها المزعجين لتنعم بالراحة مع زوجها( آبسو)، فأتت بالوحوش المخيفة استعدادا للمعركة، ولكن اعترضها إله (مردوخ – آشور) ويصارعها فينتصر على (تيامت) فيقوم بشطرها إلى نصفين، فيصنع من القسم الأول (السماء) حيث يخلق النجوم والكواكب، ومن القسم الثاني (الأرض) حيث يخلق الحيوانات والنباتات، وهذا أيضا يتطابق ما ورد في (التوراة) انظر إلى (سفر تكوين)، حيث ( يفصل الله بين مياه ومياه ويصنع السماء والأرض) وبعد أن ينتهي (مردوخ – آشور) من خلق؛ وذلك بخلق زوجا من الإنسان بواسطة الدم والطين وبني (مردوخ – أشور) بيتا له في بلاد (آشور) ليستريح فيه، كلما نزل إلى الأرض في (نيسان) وهذه القصة تتطابق مع ما ورد في (التوراة) تماما حيث ورد النص ( كما سيبني رب الجنود فيما بعد، بيتاً له في إسرائيل) انظر إلى (صموئيل الثاني) .
ولهذا اعتبرت ملحمة ( إينوما إيليش- عندما في العلى)، في التاريخ المعاصر من أهم مكتشفات العلمية والتاريخية المتعلقة بالفكر الإنساني ودياناتهم، فان قيمة هذه الأسطورة التي تعتبر من أقدم الأساطير الملحمية في التاريخ، كان عظيما في (بلاد آشور) وكان (الآشوريين) يجسدون طقوسها والاحتفال بهذه المناسبة سنويا في عموم بلادهم، فكانت مهرجانات ومواكب الملك تقام بشكل احتفالي كبير والشعب يحتفل ويقيم تلاوة طقوسها مجسدين فكرة (خلود سيد الآلهة وبداية الحياة)، حيث كانت الاحتفالات تبد في (الأول من نيسان) كل عام، وكان (العام الواحد) عندهم يتكون من اثني عشر شهرا، وكل (أربعة أشهر) يتكون موسم، ابتدأ من أول نيسان حيث الربيع ويعقبه الصيف ومن ثم الخريف والشتاء وهكذا دواليك، وما زال هذا التصنيف قائما إلى يومنا هذا، وكانت تسمى احتفالات التي تقام في الأول من نيسان (اكيتو)، وكان (الآشوريين) يعتبرون اليوم الأول من شهر نيسان البداية الحقيقية لدورة الحياة الطبيعية على الأرض كونه في نيسان تبدأ الطبيعة بالتجدد والانبعاث.
وهنا لا بد إن نذكر بأن تأريخ (اليوم الآشوري الواحد) منذ سلالتهم الأولى في (سومر) كان يعتمد ويؤخذ من عدة عناصر طبيعية وأهمها القمر وحرك النجوم، وقد استطاعوا (الآشوريون) من تحديد يوم الاعتدال الربيعي في شهر سموه (نيسانو) وما زال يسمى هذا الشهر بنفس الاسم، فقد كان معلوماتهم وحسب التقويم (الآشوري) يبد الاعتدال الربيعي في ليلة (الأول من نيسان)، كما هو موجود في مدونات الأثرية والتي كتبت في الألواح الطينية والتي تبقى هي المرجع الأول والأخير والتي ليوم موجودة في متحف (لندن) .
ومن هنا تكمن قيمة التراث في الفكر القومي وخلفياته الفلسفية عند (الآشوريين) في الأول من نيسان، بسبب انبعاث الطبيعة و نزول سيد الآلهة إلى الأرض لتحارب الآلهة الشريرة ثم القضاء عليها وانتصارها ليتم زواجه من الإلهة (عشتار) لتبعث الحياة بتجددها في ببداية الربيع .
وكانت هذه الاحتفالات والتي – كما قلنا تسمى – بـ(اكيتو) وهو عيد (رأس السنة الآشورية) والذي يعد من أقدم احتفالات بمناسبة الأعياد التي عرفتها الحضارة الإنسانية منذ القدم، ويحدد تاريخ بداية هذا الاحتفال في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر حتى القرن الثاني منه.
الميثولوجيا الآشورية وتأثيراتها على الديانة اليهودية
وخلال بحوث استقصائية لثقافة الشعوب الأخرى؛ نجد حجم تأثير (الميثولوجيا الآشورية) في نصوصهم وان الكثير من الاقتباسات وانتحال الأفكار مأخوذة من (التراث الآشوري) سواء في الأساطير أو القصص والحكايات والعادات والتقاليد، فحين تم في القرن الثامن والتاسع عشر بدء عمليات التنقيب عن الآثار في بلاد (وادي الرافدين – العراق) وتم اكتشاف مكتبة (آشور بانيبال 626 – 667 ق.م)، في (بلاد آشور) في (نينوى) والتي تعتبر أقدم مكتبة على الإطلاق في تاريخ العالم، حيث وجد فيها أكثر من ( 25000 ) لوح من الرقم والألواح الطينية المدونة بالكتابة (المسمارية وباللغة الآشورية) تعود بعض منها إلى تاريخ بلاد (سومر) و(أكد) و(آشور)، حيث وجد – وبالبرهان والدليل القاطع – بعد إن استطاع علماء الآثار والباحثون تفكيك وفتح رموز (الخط المسمارية باللغة الآشورية) وقراءتها، بان اغلب نصوص (التوراة) مقتبسة من تراث والميثولوجيا (الآشورية) مثل (ملحمة كلكامش) في (قصة الطوفان) و(سفر الحكمة) و (الأمثال) و(ابن سيراخ) و قصة (طوبيا) و(أيوب) و(المزامير) و(نشيد الأناشيد)، كما أنهم وجدوا في نصوص ملحمة الخلق ( إينوما إيليش)، والتي تم تدوينها على سبعة ألواح تتناول الحديث عن سبعة أجيال حول (بداية الخلق والكون) والتي في أغلب نصوصها تتطابق تطابق تام مع الأيام السبعة في (سفر التكوين) التي وردت في كتاب ( التوراة).
وباختصار، ففي مقدمة (إينوما إيليش) تتحدث في اللوحة الأولى، عن البدء في الجيل الأول حينما كانت الأرض معدومة لا أسم لها، حيث كان الكون يتألف من العنصر (الذكر) إله المياه العذبة (آبسو) والعنصر (الأنثى) إلهة المياه المالحة (تيامات)، و(ممو) إله السحاب الذي يرفرف بينهما، وهنا يمكنك البحث والاطلاع على حجم التطابق بين هذه النصوص والنص الوارد في (سفر التكوين في اليوم الأول 1: 1-2).
ثم في الجيل السادس، الإله (مردوخ – آشور، عند الآشوريين ) الذي يخلق الإنسان (لالو) ليخدم الآلهة فتستريح في الجيل السابع وهو نفس النص الموجود في (التوراة) تماما والذي يتحدث عن خلق الله (الإنسان) في اليوم السادس واستراح في اليوم السابع ( سفر التكوين2:2-3) .
وإذ أخذنا صور أخرى في التطابق بين قصة (الخلق الآشورية) و (التوراة)، ففي النص (الآشوري) يذكر بأن (الإلهة تيامات) التي على شكل التنين (هابور) السابح في البحار، كانت تنوي التخلص من أحفادها المزعجين لتنعم بالراحة مع زوجها (آبسو)، فأتت بالوحوش المخيفة استعدادا للمعركة، عندها يأتي الإله (مردوخ – آشور) ويتصارع معها و ينتهي ذلك بانتصار الإله (مردوخ – آشور) ليشطر المياه (تيامات) إلى قسمين، فيصنع من القسم الأول (السماء) حيث يخلق النجوم والكواكب، ومن القسم الثاني (الأرض) حيث يخلق الحيوانات والنباتات، وهذا النص هو نفسه وجد في النص (التوراتي) و كما ورد في (سفر تكوين:1: 6)
حيث يفصل الله بين مياه العذبة ومياه المالحة ويصنع السماء والأرض) ، وبعد أن ينتهي الإله (مردوخ – آشور) من خلق كل ذلك يخلق زوجا من الإنسان بواسطة (الماء والطين).. ويبني بيتا له في (بابل) ليستريح فيه كلما نزل إلى الأرض في شهر (نيسان)، وهو أيضا نفس النص الموجود في (التوراة) حيث النص يذكر(سيبني رب الجنود فيما بعد، بيتا له في إسرائيل، انظر صموئيل الثاني: 1:7– 17).
وكذلك نجد عبارة (خيمة الآلهة) التي ورد ذكرها في (ملحمة كلكامش) التي اقتبست منها (التوراة) نفس (قصة طوفان) بشخصية ( نوح) وعند النص (الآشوري) يذكر اسم (زيوسودرا) وفي النص (السومري) ورد باسم (أوتنابشتم).
وهنا نستوضح للقاري بان في كتاب للباحث العراقي الدكتور( فاضل عبد الواحد علي ) الموسوم تحت عنوان (من ألواح سومر إلى التوراة) – الطبعة الثانية 1996 دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – العراق ، فيه الكثير من تفاصيل عن هذه المقارنة بين الحضارة (الآشورية) وما ورد في نصوص إسفار (التوراة).
ففي ملحمة (كلكامش) فإن الصور أكثر وضوحا، إذ نقرا في الكتاب المذكور سابقا، إن الطوفان والأعاصير استمرت تجتاح البلاد ستة أيام وست ليالي وانه ((..عندما حل اليوم السابع ، خفت وطأه الرياح الجنوبية في هجومها الذي شنه كالجيش في المعركة على حد تعبير الكاتب (الآشوري)، ثم هدءا البحر وسكـنت العواصف وانتهى الطوفان، ويقول رجل الطوفان (اوتنابشتم) انه تطلع إلى البر من السفينة بعد هدوء العواصف والمياه فوجد أن السكون يخيم في كل مكان وان البشر جميعا تحولوا إلي طين، ثم يصف مشاعره وقد زال عنه الخطر وأصبح قاب قوسين أو ادني من النجاة ، فيقول:
ثم فتحت نافذة ( في السفينة ) فسقط النور على وجهي
فسجدت وجلست باكيا
والدموع تجرى على وجهي
ثم أخذت أتطلع إلى سواحل البحر الواسع
فبانت الأرض من مسافة اثني عشر ميلا مضاعفا
وفى تلك الأثناء استقرت السفينة على جبل اسمه (نيسير) ومضت ستة أيام وجبل (نيسير) ممسك بالسفينة ولا يدعها تتحرك – على حد قول رجل الطوفان (اوتنابشتم) – وبتعبير أخر، أصبح أكيدا لرجل الطوفان أن السفينة قد بلغت مستقرها الأخير، وانه لا أمل في أن تتحرك من ذلك الموضع أبدا، وعندئذ إي في اليوم السابع من استقرارها على جبل (تيسير)، اخرج (أوتنابشتم) حمامة وأطلقها، وراحت الحمامة ولكنها لم تلبث إن رجعت، لقد رجعت الحمامة لأنها لم تجد محط لها، وعندئذ اخرج الطائر (السنونو) وأطلقه؛ وراح (السنونو) ولكنه لم يلبث أن رجع؛ قد رجع (السنونو) لأنه لم يجد محطا له؛ ومن ثم أخرج (الغراب) وأطلقه؛ وراح (الغراب) ولكنه عندما رأى أن المياه انحسرت أكل وحام ونعق ولم يرجع، وعندما خرج رجل الطوفان لأول مرة من السفينة بعد أربعة عشر يومنا من دخولها، سكب الماء المقدس على قمة الجبل ونصب القدور ليعد الطعام قربانا للإلهة ، وسرعان ما فاحت رائحة الطعام الطيبة فشمتها الإلهة وتجمعوا حول مقدم القربان كالذباب، على حد تعبير النص (الآشوري).
وفى هذا المقطع من قصة (الطوفان)، يجد القارئ نفسه أمام مشهد جديد ومثير، حيث تتجمع الإلهة العظام حول رجل الطوفان بعد إن انتهوا من التهام القربان ليستمع بعضهم من البعض الأخر عما حل بالناس من دمار وما لحق من خراب نتيجة لأحداث الطوفان، وليرفع بعضهم صوته احتجاجا على هذه الخطيئة التي اقترفها الإله (انليل) بحق الناس، وعندئذ شعر الإله (انليل) بجسامة الخطأ الذي ارتكبه ضد بني البشر، فصعد إلى ظهر السفينة منقذ الحياة، ووقف بين رجل الطوفان (أوتنابشتم) وزوجته ثم لمس جبينهما مباركا، ومنحهما الخلود قائلا:
ما كان (اوتنابشتم) قبل الآن لا بشرا
ولكن من الآن سيكون (أوتنابشتم) وزوجته مثلنا نحن الإلهة
وسيقيم (أوتنابشتم) بعيدا عند فم الأنهار..)).
إن قصة (الطوفان) في وادي الرافدين تركت أثارا واضحة في (التوراة) حيث نقرأ في (سفر التكوين 6 – 9 ) تفاصيل وافية عن (الطوفان)؛ حيث إن التشابه بين (قصة الطوفان) في المراجع (المسمارية الآشورية) وبين (التوراة) واضحة كل الوضوح؛ ويكفي إن نقتبس للقارئ بعضا مما تذكره (التوراة) بهذا الصدد ليقف بنفسه على ذلك.
ففي (التكوين – 6 :9) في النص (التوراتي) يذكر بـ(( … ان (نوح) كان
رجلا بارا كاملا في أجياله. وسار نوح مع الله ، و ولد نوح ثلاثة بنين (سام و حام و يافث)، وفسدت الأرض أمام بشر وقد أفسد طريقه على الأرض، قال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي . لأن الأرض امتلأت ظلما منهم . فها انا مهلكهم مع الأرض، اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر . تجعل الفلك مساكن وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعا ارتفاعه وتصنع كوى الفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق وتصفع باب الفلك في جانبه مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله . فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت . ولكن أقيم عهدي معك . فتدخل الفلك أنت لاستبقائها معك تكون ذكر وأنثى من الطيور كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها . وأنت فخذ لنفسك من كل طعام ما يؤكل واجمعه عندك . فيكون لك ولها طعاما . ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله هكذا فعل.
وقال الرب لـ(نوح) ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك. لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى . ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة . ذكرا وأنثى لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض . لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته . ففعل نوح حسب كل ما أمر به الرب . ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض . فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب علي الأرض دخلوا اثنين اثنين إلى نوح ، إلى الفلك ذكرا وأنثي . كما أمر الله نوحا. وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في سنة ستمائة من حياة نوح ، في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر . في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع النهر العظيم وانفتحت طاقات السماء . وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة . في ذلك اليوم عينه، دخل نوح وسام وحام ويافث، بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك . هم وكل الوحوش كأجناسها وكل البهائم كأجناسها وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها ، وكل الطيور كأجناسها ، كل عصفور، كل ذي جناح ، ودخلت إلى نوح، إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة . والداخلات دخلت ذكرا وأنثى ، من كل ذي جسد ، كما أمره الله ، وأغلق الرب عليه.
وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض . وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض . فكان الفلك يسير على وجه الماء. وتعاظمت المياه. كثيرا جدا على الأرض . فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء خمسة عشر ذراعا في الارتفاع. تعاظمت المياه، فتغطت الجبال . فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض، من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزاحفات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس كل ما في انفه نسمة روح حياة، من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس والبهائم والدبابات طيور السماء، فانمحت من الأرض وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط، وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوما.
ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك ، وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه . وانسدت ينابيع النهر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء . ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا . يعد مئة وخمسين يوما نقصت المياه . واستقر الفلك في الشهر السابع . وفي اليوم السابع عشر من الشهر على جبال (أرارات) . وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر . وفى العاشر، في أول الشهر ظهرت روس الجبال.
وحدث من بعد أربعين يوما إن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل (الغراب) فخرج مترددا حتى نشفت المياه على الأرض ثم أرسل (الحمامة) من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد (الحمامة) مقرا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك. لأن مياهها كانت على وجه كل الأرض ، فمد يده وأخذها عنده إلى الفلك . فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل (الحمامة) من الفلك. فاتت إليه (الحمامة) عند المساء. وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم أن المياه قد قلت عن الأرض. فلبث أيضا سبعة أيام أخر فأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا.
وكان في السنة الواحد والستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشفت. وفى الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض.
وكلم الله نوحا قائلا : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكل الحيوانات التي معك، من كل ذي جسد، الطيور والبهائم وكل الدبابات التي تدب على الأرض أخرمها معك. ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض . فخرج نوح وبنوه وأمرائه ونساء بنيه معه ، وكل الحيوانات. كل الدبابات وكل الطيور. كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك وبني نوح مذبحا للرب و اتخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة واصعد محرقات على المذابح. فتنسم الرب رائحة الرضا . وقال الرب في قلبه لا أعود العن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل ما زالت . انظر (التكوين 6 – 9)..)).
الآشوريون و سبي اليهود
فهذا تأثير بالعادات والتقاليد وميثولوجيا (الآشورية) من قبل (اليهود) الذين تواجد في (بلاد آشور) نتيجة الأسر ولفترة ليست بالقصيرة؛ فلا محال بأننا سنجد في كل أدبياتهم وعلومهم وثقافتهم هذا التأثر وبشكل ملحوظ كما نلتمسه في كتاب (التوراة) وربما في اغلب كتبهم الفكرية الأخرى لا وبل سنجد هذا التأثر في طبيعة العادات والتقاليد مجتمعهم، لان وجودهم في (بلاد آشور) نتيجة الأسر وإخضاعهم ألقسري للسلطة ملوك (آشور) فهذا الأمر لابد إن يترك له أثار في طبيعة السلوك لمن يقع في الأسر لفترة طويلة ولأكثر من مرة سواء بإرادة أو بغير إرادة كما يؤكد ذلك بحوث (علم النفس)، فخضوع (اليهود) لملوك (آشور) هو بذاته يعكس سلبا في نفسية الإنسان (اليهودي) ويجعله تحت انقياد الأخر بفعل إرادي أو غير إرادي، ولتوضيح أمر هذا الخضوع فإننا نجده بصورة مجسدة مما تم اكتشافه اثر عمليات التنقيب التي كان يجريها الاثاري (هنري لايارد) عام 1849 لمدينة (النمرود – كالح) في مدينة (نينوى)، حيث عثر على مسلة حجرية سميت باسم (المسلة السوداء) كونها كانت من الحجر المرمر الأسود تعود إلى الملك (الآشوري – شلما نصر الثالث 858 – 824 ق.م ) التي اليوم تتواجد في (المتحف البريطاني) ويبلغ ارتفاعها ستة أقدام وهي منحوتة على هيئة برج مدرج نقشت بكتابة مطولة تؤرخ حملات الملك (شلمانصر)، وقد زينت هذه المسلة بخمسة انطقه من المنحوتات البارزة، في كل جانب من جوانبها تمثل مشاهد تقديم الخضوع والجزية من جانب الملوك والحكام والأمراء من مختلف الأقطار التي كانت تخضع للملك العظيم (شلمانصر) ومن ضمنهم كان ملك (إسرائيل – ياهو).
وفي زمن الملك (الآشوري تجلات بليزر الثالث 744 – 727 ق.م) تم
ضم نصف مملكة (إسرائيل) إلى (الدولة الآشورية) وعين (هوشع) ملكا على (ألسامره) بصفته تابعا له.
وفي زمن الملك (الآشوري سركون الثاني 721 – 705 ق.م) وفي عام (710 ق.م) خضعت له (بلاد الشام) وأزال دولة (إسرائيل) من الوجود ونقل جميع اليهود أسرى وأسكنهم في (بلاد آشور).
وفي زمن الملك (الآشوري سنحاريب 704 – 681 ق.م) حيث قام الملك في عام (701 ق.م) حملة عسكرية طوق مملكة (يهوذا) وحاصر عاصمتها (اورشليم) ولكن الجيش (الآشوري) لم يتمكن دخولها بسبب تفشي وباء بين أفراد الجيش فقرر الملك (سنحاريب) رفع الحصار عن (أورشليم) مقابل دفع جزية كبيرة من الفضة والذهب والنساء من بينهن بنات الملك كما جاء في حوليات الملك (سنحاريب) . ولكن الأمر لم ينتهي إلى هذا الوضع؛ فقد وصلت معلومات إلى الملك (سنحاريب)؛ بان (اليهود) في المملكة الشمالية التي كانت اسمها (مملكة إسرائيل) تقف وتساند وتدعم (الفراعنة) ضد مملكته مما أثار حفيظة الملك فقرر إخضاع تلك المنطقة إلى إمبراطوريته؛ فقام بحملة على (المملكة اليهودية الشمالية) في عام (697 ق.م) فحطم هيكلها وسبي أهلها وأخذهم سبيا إلى (بلاد آشور) وانتهى بذلك ذكر المملكة اليهودية الشمالية.
وفي زمن الملك ( نبوخذ نصر الثاني 604 – 562 ق. م) قام الملك باحتلال مملكة (يهوذا) وسبي أهلها وكان (السبي البابلي الأول لليهود) عام (597 ق. م) وتم قتل ملك مملكة يهوذا (يهوياكيم)، ثم حدث (السبي البابلي الثاني) عام( 568 ق . م) بعد محاصرة (أورشليم) وذبح أولاد ملك (يهوذا – صدقيا) أمام عينيه ثم فقأت عيناه وأخذ مكبلا مع الأسرى (اليهود) الذين قدر عددهم بنحو أربعين ألف أسير إلى (بابل) ودمرت (أورشليم) ودكت معالم (هيكل سليمان).
وهكذا كان سبي (آشوري) لـ(ليهود) يجرى بسبب مساندتهم للثورات والعصيان ونكث العهد الذي يعطونه للملوك الإمبراطورية (الآشورية)، وقد مكث اليهود في بلاد (بابل الآشورية) بعد السبي البابلي لهم إلى زمن (الدولة الفارسية الأخمينية) وعلى يد (قورش الأكبر) التي أسقطت (بابل) وقد خيروا (اليهود) الأسرى بين البقاء أو الرجوع إلى موطنهم في (أورشليم) وبذلك سمح لـهم بالعودة إلي (أورشليم) مرة أخرى.
ومن هنا نستطيع القول بان وجود (اليهود) أنفسهم في(بلاد آشور) إثناء الأسر كان له الأثر الأعظم في تعرف (اليهود) عن حضارة بلاد (وادي الرافدين – العراق)، ومن هنا فان الباحثون يجمعون بان (الديانة اليهودية) كما هي اليوم ولدت إثناء وجودهم في الأسر في مدينة (بابل الآشورية) وان (الإسفار الأولى) الموجودة في (التوراة) اخذ طابعها من خلال وجود (اليهود) في الأسر، الذي استمر قرابة نصف قرن انتهى بحدود 538 ق. م ، فان تأثير البيئة التي عاشوها في مدينة (بابل الآشورية) تركت آثارها في هذه (الأسفار) بعد إن أصبح لهؤلاء (اليهود) وخاصة كهنتهم الاطلاع الواسع على العلوم والمعارف السائدة في حضارة الإمبراطورية (الآشورية) آنذاك؛ فتعلموا منها وحصلوا على علومهم ومعرفتهم وآدابهم الواسعة بما كان يتداول في الحياة الثقافية والفكرية والأدبية وبالمدونات وبالنصوص (السومرية) و(الآشورية)، وعلى هذا النحو كان (الأسر البابلي لليهود) فرصة ثمينة لرجال الدين (اليهود) المتواجدين على ارض (الإمبراطورية الآشورية) مكنتهم من الإطلاع المباشر علي الوثائق (المسمارية) وبالمدونات (السومرية) و(الآشورية) وخاصة بما يتعلق بالإنسان.. والموت.. والحياة.. والثواب.. والعقاب.. وبالشعائر العبادة وطقوسها.. والمفاهيم والقيم والقوانين الاجتماعية الساندة في مدينة (بابل الآشورية)، وهذا ما أدى إلى دخول كثير من المفاهيم إلى (الأسفار التوراتية) التي تركتها حضارة (وادي الرافدين – العراق) على معتقدات اليهود؛ سواء بما كانت يتعلق بنشأة الكون والميراث والى غيرها من المفاهيم المتعلقة بالحياة والإنسان والموت؛ والتي فيما بعد انتقلت إلى (الديانة الإسلامية) من خلال محاكاة قصص التي وردت في (التوراة).
ليتم للباحثين وخبراء اللغة إقرار في دائرة البحوث والدراسات الأكاديمية العلمية بان محتويات مكتبة (آشور بانيبال – الآشورية) هي المفتاح الرئيسي لكل العلوم؛ والتي أطلق على مضامين هذه العلوم الجامعة بـ(علم الآشوريات) والتي من خلال ما تم اكتشافه في هذه المدونات والألواح الطينية (الآشورية) بان كل ما ورد من الفكر البشري خلال أكثر من إلف عام مقتبس من علوم وآداب (آشورية).
فبعد إن توصل العالم (هنري رولنسون) و(جورج سميث) قراءة الأحرف المسمارية وما ورد في الألواح (الآشورية) اعتبر ما وجد في المكتبة (الآشورية) مصدرا رئيسيا ووحيد لكل المراجع؛ بعد إن كان كتاب (التوراة) هو المرجع التاريخي لتاريخ المنطقة واعتبروا اغلب النصوص التي وردت في (التوراة) مقتبس من ميثولوجيا وآداب وعلوم (الآشورية)؛ لدرجة التي سمي (التوراة) بـ(توراة بلاد النهرين).
وفي هذا الصدد ألقى الباحث (فريدريك ديلليتش) محاضرة في غاية الأهمية حول (توراة بلاد آشور) وذلك بتاريخ 13/12/1902 في مدينة (برلين الألمانية) بحضور القيصر (فيلهيلم الثاني) الذي طلب من (فريدريك ديلليتش) إعادة هذه المحاضرة في القصر الملَكي، فألقى المحاضرة تحت عنوان (بابل والكتاب المقدس)، حيث أوضح بأن قصص (التوراة) مأخوذة من (بلاد آشور)، الأمر الذي أثار ضجة في الأوساط الأكاديمية والإعلام الأوروبي، وهذا ما أثار حفيظة (اليهود) والكنائس الغربية اللذين مارسوا كل وسائل لعدم البحث في هذا الشأن؛ ليتم طمس هذه الحقائق، وفعلا تمكن اللوبي (اليهودي) في العالم إلى إخفاء العديد من الألواح (الآشورية) الهامة وبهذه التحاليل والبحوث والدراسات الأكاديمية في التراث والميثولوجيا (الآشورية) وما تم استكشافه من الذخيرة الثقافية والأدبية لعوم وآداب (الآشورية).
ليستوضح لدى الباحثين والدارسين والمفكرين مدى عمق ما تأثرت (التوراة) وما أخذته من الميثولوجيا والتراث (الآشوري)، فقدموا في ذلك الكثير من الدراسات والبحوث بهذا الخصوص والتي تؤكد عن تأثير ثقافة وادي الرافدين على آداب (اليهود)، ولم يقتصر هذا التأثير للفكر الميثولوجي (الآشوري) على آداب (اليهودية) فحسب بل امتد التأثير إلى على الشعوب المجاورة؛ نحو (الآراميين) و(الفينيقيين) و(الإغريق) و(الحضارة اليونانية) وظل هذا التأثير قائم رغم سقوط الدول (الآشورية) في 612 قبل الميلاد، لان (الآشوريين) ظلوا محافظين على تراثهم الفكري والأدبي واستمر ذلك إلى عهد (اسكندر 331 – 126 ق.م) وخلال عهد حكمه وسيطرته على بلاد الرافدين برز المؤرخ (بيروسوس – برعشا) من مدينة (بابل الآشورية) الذي جمع تاريخ (بابل) في كتابه اسماه (بابيلونياكا) وقد كتبه باللغة (اليونانية) في ثلاث مجلدات؛ أرخ فيه وقائع التي حدثت من سنة 3600ق.م حتى حكم (اسكندر)، وقد جاء كتابه هذا بناءا على طلب الملك (أنطيوخس الثاني 261- 247 ق.م) الذي حكم مدينة (بابل)؛ علما بان (بيروسوس) كان كاهن (الإيساغيلا) في معبد (مردوخ – آشور) في أيامه؛ وفيما بعد؛ ولوجوده في (اليونان) وامتهانه التدريس في مدينة (أثينا) ألف هناك كتاب (الحكمة)، وكانوا (اليونانيون) يكنون له احترام كبير لدرجة التي نصبوا له تمثالا فخريا له، وقد أصبح كتاب الذي إلفه بعنوان (بابيلونياكا) مصدرا مهما من مصادر العلوم في (اليونان)، بعد رسائل (هيرودوتس) و(الإسكندر) وقد أخذوا الأدباء والمثقفين وفلاسفة (اليونان) الكثير من علوم (الآشورية) في مجال الفلك والدين والرياضيات وخاصة مبدأ (إقليدس) في الرياضيات الهندسية وقياس الوقت والحساب الذي ما زال يدرس في مدارس وجامعات العالم باعتباره من أسس علوم الرياضيات.
الميثولوجيا الآشورية وتأثيراتها على الديانة المسيحية
كما إن (الميثولوجيا الآشورية) كانت لها صداها الواسعة في أوساط الثقافة الغربية ومعتقداتهم الخاصة التي كانت تمارس وفق طقوس العبادة في احتفالات (رأس السنة الآشورية) التي كانت تسمى احتفالات (أكيتو) والتي وجدت تأثيراتها في معطيات (الديانة المسيحية) وذلك بتخصيص يوم للاحتفال بـ(رأس السنة الميلادية) الذي يصادف في (الأول من كانون الثاني) كبداية لدخول العام الميلادي الجديد على غرار ما كان سائدا في أيام (الإمبراطورية الآشورية) باعتبار (الأول من نيسان) هو أول أيام لدخل العام (الآشوري) الجديد، ومن معطيات أخرى التي أخذتها (الديانة المسيحية) من (المثيولوجيا الآشورية) هو وجود الإله الغير المنظور (الله) في (الديانة المسيحية)؛ حيث كانت مفردة (الله) تقابل (آشور) وهو اله غير منظور عند (الآشوريين) وعلى عظمة قدسيته عندهم كنيت اسم مواقع وجودهم بـ(بلاد آشور) وكني ملوكها باسمه؛ بل وجرت العادات والتقاليد في عرف المجتمع (الآشوري) آنذاك وما زال هذا العرف إلى يومنا قائم عند العوائل (الآشورية) بتسمية واحد من أبنائهم باسم (آشور) تيمننا بعظمة الإله (آشور) الذي هو عندهم (الله ) الذي هو في العلى والمعروف اليوم عند اغلب شعوب الأرض ولكن بتسميات وفق الألسن واللغات المتعددة عند شعوب الأرض، ومن مضامين النص (الميثولوجيا الآشورية) للاحتفالات برأس السنة (الآشورية – أكيتو) والتي تقام وفق طقوس معينه حيث نجد لها صداها في طقوس (الديانة المسيحية)؛ ومن ذلك إن الإله (مردوخ – آشور) ينزل إلى الأرض ويتصارع مع الشر فيؤسر في اليوم الخامس من مراسم الاحتفال بيوم (أكيتو) ليحرر من قوة العاصفة (نينورتا – إله العاصفة) بعد ثلاثة أيام ؛ أي بعد اليوم السابع من – هذه الاحتفالات – بعد أسره وتبدأ الحياة، وهذا الحدث يورد في ( العهد الجديد – الإنجيل)، بان السيد (المسيح) يحرر من الموت بعد ثلاثة أيام خلال هبوب عاصفة عاتية؛ وخلال فصل اعتدال الربيعي تكون (قيامة المسيح)، كما في بداية الربيع تبدأ الاحتفالات (أكيتو) بعد تحرر الإله (مردوخ – آشور) من الظلمة، ومن ثم إن (الميثولوجيا الآشورية) تذهب بالذكر صعود (مردوخ – آشور) إلى بيته العلوي (السماء) بعد تحرره واجتماعه بالآلهة (أي في اليوم الحادي عشر من بدا احتفالات أكيتو) ويمثل هذا الحدث في المسيحية صعود (المسيح) إلى السماء بعد قيامته في اليوم الثالث من بعد موته واجتماعه بتلاميذه، وإذ ما تعمقنا أكثر في ألاهوت المسيحي وتحديدا في فكرة (الثالوث الأقدس – باسم الأب والابن والروح القدس) فان في (الميثولوجيا الآشورية) يقابل ( أيا – إله البحار والد مردوخ – آشور) و( آنو – إله السماء) و( إنليل – إله الجو والأرض )، ومن ثم لو أخذنا فكرة (المعمودية) في المسيحية والتي مغزاها هو غسل الخطايا الموروثة عن طريق رش الماء على الجسد؛ وهذا الطقس المسيحي هو موجود ضمن طقوس الاحتفالات بعيد (أكيتو) حيث يقوم الشعب برش الماء على طريق الإله (مردوخ – آشور) ، كم يقوموا برش الماء على بعضهم لغسل خطاياهم قبل استقبال الإله (مردوخ – آشور) بعد أسره من قبل إلهة الموت (أرشكيغال)، وفي المقابل نجد بان القديس (يوحنا المعمدان) أثناء غسل الخطاة بماء نهر (الأردن) يقول: (( توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات – متى:2:3)) وما يزال (الآشوريون) يحتفلون بهذا العيد إلى يومنا هذا؛ وذلك برش الماء على بعضهم وعلى الطرقات، وله أيضا طقوس خاصة في الكنائس الشرقية وتحديدا في طقوس (كنيسة المشرق الآشورية) ويعرف بعيد (نوسرديل).
وبكل هذه التشابهات في الطقوس بين (الميثولوجيا الآشورية) و(الديانة المسيحية) وغيرها من المعتقدات – يصعب حصرها في اسطر هنا – هو الأمر الذي جعل (الآشوريون) إن يكونوا من أوائل الشعوب التي اعتنقت (الديانة المسيحية) بعد ظهورها؛ وذلك بعد إن وجدوا الكثير من أوجه التشابه بين معتقداتهم الدينية القديمة وبين الدين الجديد الذي اخذ القديس (بطرس) بالتبشير بتعاليمه المسيحية اثر زيارته لمدينة بابل (الآشورية) كما ورد في الكتاب المقدس رسالة القديس (بطرس الأولى – 5:13).
وبعد دخول (الآشوريون) في (الديانة المسيحية) تخلوا عن طقوس (أكيتو) ولكن ظلوا محتفظين بالكثير من تلك العادات والتقاليد التي أورثوها جيلا بعد جيل وبقوا يعتبرون الأول من شهر (نيسان) شهر الانبعاث والتجدد بالمعنى الذي كان قائم قبل المسيحية ولكن بشكل الذي يواكب متطلبات الحياة المعاصرة؛ ولذلك فان الكثير من هذا الموروث الحضاري ما زال (الآشوريون) يحافظون عليه ويزاولونه، فنرى في الأول من كل شهر (نيسان) يجمعون باقات من الزهور والأعشاب الخضراء ليتم تعليقه على مدخل أبواب بيوتهم في مطلع الصباح؛ كرمز لقدوم الربيع وانتعاش الحياة وتجدد الطبيعة ؛ وتسمى هذه الباقات بـ(دقنا دنيسان – لحية نيسان).
فما تركته حضارة الأمة (الآشورية) من الموروث الفكري.. والعلمي.. والأدبي.. والثقافي.. والفنون؛ شكل هذا تراث أرثا عظيما ضلت الأجيال الأمة (الآشورية) تفتخر به وتنقله عبر الأجيال بشتى أساليب بعد إن تم تخزينه في ذاكرة الأمة .
قراءة النص التراثي للفكر الآشوري تم قراءته قراءة معاصرة تواكب الحداثة من اجل توظيف مناهج حداثية من خلال قيم تراث الأمة و وفق أطر التفكير المنهجي والنقد الإبستيمولوجي
وقد برز التصور الميثيولوجي الفلسفي لعيد (اكيتو) رأس السنة (الآشورية) في تنوع محتواها الفكري والفلسفي والثقافي وثرائه من خلال فضاءها الإبداعي لأحداثها التاريخية ليكون أول نافذة فكرية وثقافية أغنت الفكر الإنساني ثقافية بمشاهد الإبداع المزدهر في الأدب (الآشوري) ليعرف على جوهر الهوية الثقافية الأصيلة للأمة (الآشورية) ليتم تواصل بين الماضي والحاضر من اجل صون التراث (الآشوري) بشكل مستمر ومتواصل؛ والذي يسرد قصةً الحضارة العريقة والإنجاز البشري ليروي تاريخ وتراث وثقافة الأمة (الآشورية) العريقة؛ ليفتح لنا نوافذ تأخذنا للمستقبل ألاستثمار كنوز الأمة من الأدب.. والفن.. والتراث.. والفكر والفلسفة.. والعلم.. والثقافة .
وحول ميثيولوجيا (الآشورية)؛ وميثولوجيا تعني ((علم الأساطير المتصلة بالآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال الجغْرافيين عند شعب من الشعوب))، في قصة أعياد (اكيتوا) المتوارثة يأتي منبعها حين فطن (الآشوريون) القدامى على علم الفلك والتنجيم الذي أورثوه من أجدادهم البابليين حيث استطاعوا مراقبة النجوم والكواكب والإجرام السماوية وسجلوا كل الظواهر الطبيعية، وعلى ضوء ما أرخوه نظموا مواسم الزراعة وحددوا أنواع الحبوب التي تزرع في كل موسم بدقة متناهية فقسموا السنة الواحدة إلى اثني عشر شهر والشهر إلى سبعة أيام واليوم قسموه إلى ساعات وظل هذا التقسيم الفلكي ودورانه أساس لتقسيم الأزمنة إلى يومنا هذا، وعبر هذا التقسيم الدقيق وضعوا تواريخ وأسماء الأشهر في تقاويم السنة فسموا شهور السنة بأسماء الإلهة، فشهر (نيسان) جاء نسبة إلى (الإله نيسانو) وشهر (تموز) نسبة إلى (الإله تموز) وشهر (ايلول) نسبة إلى (الإله أنليل) وعلى نفس المنوال كنيت بقية الأشهر.
ومن هنا فان (الآشوريين) اتخذوا من بداية شهر نيسان كأول يوم من بداية السنة (الآشورية) الجديدة، واعتبروه يوم (رأس السنة الجديدة) وكبداية الخليقة، نسبة لربطهم ببدء موسم اعتدال الربيع وتساوي ساعات الليل مع النهار ونمو العشب والزرع وتكاثر الحيوانات، والذي أصبح فيما عيدا دينيا وقوميا ليس فحسب لـ(الآشوريين) بل لجميع ساكني حوض بيت النهرين (العراق) والذي أستمر لآلاف السنين والى يومنا هذا حيث يحتفل بهذا العيد الذي سمي بـ( أعياد اكيتو) كونه يستمر اثني عشر يوم لكل يوم طقسه الخاص .
ومن هنا ينبثق إدراكنا لقيمته احتفاؤنا بالتراث (اكيتو) كفكر أساسي من أفكار ومكونات حضارتنا، ودوره في تفعيل الإبداعي الأدبي والفني والفكري والفلسفي لاستثمار الثقافة وعناصرها في مجال الصناعات الإبداعية، بهدف تعزيز التنمية المستدامة ليس فحسب لمجتمعنا (الآشوري) بل للمجتمعات الحديثة؛ ليفتح الإبداعي كل الآفاق ولأنماط المبتكرة لتوظيف المواهب والإبداع والمعرفة بهدف خلق فرص إبداعية ومشاريع جديدة تفتح طاقات شبابية واعدة تعتز بهويتهم (الآشورية) وقيمتها؛ وهو ما يساهم في التنمية الاجتماعية القائمة على المعرفة والابتكار أهميته ودوره في تذليل على الصعوبات والتحديات التي تواجهها الأمة (الآشورية)
لان تراثنا هو أساس نهضتنا وحضارتنا ومسيرتنا وعلى الأجيال الجديدة من أبناء امتنا (الآشورية) إكمال المسيرة التي بدأتها امتنا من اجل صونه بشكل مستمر ولابد من دعم كل الجهود المبذولة لاغتنائه فكريا وثقافيا وإبداعيا و في هذا المجال ليكونوا جزءاً فاعلاً في الحفاظ عليه من خلال إدراك أهمية دورهم في تدوين وحفظ التراث وتوسيع آفاقهم لاستثمار أي فرص جديدة واعدة تكمن بين طيات تراثنا الغني، واستلهام عناصره المختلفة في حياتهم اليومية وفي مختلف مجالات الإبداع.
ومن خلال العقود الأخيرة الماضية احتلت محاولة استقراء التراث (الآشوري) حيزا مهما في (الفكري الآشوري المعاصر) ومن خلال مقاربات مختلفة, ولقد قدم بعض المفكرين والناشطين القومين من أبناء امتنا (الآشورية) أطروحات جادة في مجال أغناء التراث عبر التجديد والحداثة والمعاصرة وقراءة النص التراثي قراءة معاصرة تواكب الحداثة من اجل توظيف مناهج حداثية من خلال قيم تراث الأمة و وفق أطر التفكير المنهجي والنقد (الإبستيمولوجي)، و(الإبستيمولوجي) كما جاء في معجم ( لالاند) على ((انها الدراسات والأبحاث التي تتناول المعرفة البشرية))، مع الانفتاح في تحليل التراث على الكثير من مقاربات ونتائج العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع و(اللغة الآشورية) من اجل تحقيق بدايات جديدة لفكر نقدي (آشوري) يواكب تطلعات وبما نطمح إليها ليكون مجتمعنا مجتمع محب للعلم والمعرفة.
لان التراث في الفكر (الآشوري) اخذ في المجتمع (الآشوري) مكانة هامة لما تقتضيه هذه المسألة الفكرية والمعرفية من أهمية في الفكر والعقل (الآشوري) وفي الواقع الثقافي ليتم تعزيز موقعنا الاجتماعي وعلاقتها بالآخر الحضاري؛ وخاصة إن امتنا (الآشورية) اليوم أمام تحديات المعاصرة.. والحداثة.. ومن خلال ظاهرة العولمة واستتباعاتها الثقافية و الحضارية، وهوس المفكرين والمثقفين (الآشوريين) بذلك.
وفي هذا السياق فان المثقفين (الأمة الآشورية) يحاولوا الوقوف على أعمال الفكرية المعاصرة وفي أفق تاريخي لبناء ممكنات مواكبة الحداثة والتحديث في أسلوب الحياة وتعاملهم مع التراث لكي لا يختلفان في كيفية مواجهة هذه الإشكالية وهذا الأمر يتطلب إلى المزيد من التفكير في وظيفة الفكر في التاريخ لدفاع عن التراث وتأصيله، انطلاقا من الدفاع عن الفكر التراث للأمة (الآشورية) والنزعة التاريخية من اجل استيعاب ما هو متاح للبشرية جمعاء باعتباره الخطوة الضرورية لتجاوز التخلف التاريخي والدعوة إلى الانخراط الفكري، في تاريخ لم نصنعه، لكننا مطالبون باستيعابه، لنتمكن من غرس وبناء قيم الحداثة الفعلية بدلا من الاكتفاء بالنسخ المقلد الذي يجعلنا معاصرين في الظاهر دون أن يتمكن وعينا وعقلنا من إدراك المسافات الكبيرة التي تفصلنا عن الحداثة الفعلية.
لان اخطر ما يهدد تراثنا بالأُفول والانقراض هو الجهل بقيمته الفكرية وبذخائره ولا بد لنا من أن ننظر وننعم النظر في الأخطار المحدقة ونحاول – بقدر المستطاع – تطويقها حتى لا يَستشري الداء ويتسعَ الخرق ويتعمقَ التخلف في مجتمعنا وعليه لابد أن ننطلق من الإيمان الصادق بأننا حقًّا أمة الحضارة والتراث، وأن هذا التراث ينطوي على حوافز لا تبلى وكنوز لا تفنى؛ لان التراث هو إحياء الماضي لاحتواه من أصالة وإبداع.
لان من أهم سمات التراث (الآشوري) أنّه تراث فكري.. وأدب.. وعلمي.. وفني؛ ينتمي إلى ثقافة الأُمة(الآشورية) هذه الثقافة التي يرفدها الوعي التاريخي والوعي بالتُّراث الحضارة (الآشورية) الذي تمتلكه الأمة ومدى استشرافها لمستقبلها.
فتراثنـــا (الآشوري) هـــو مجموعـــة مـــن القـــيم والمثـــل ومن الأعمـــال والمضـــامين والأشـكال الـتي وصـلت إلينـا عـبر القـرون لتكـون خلفيتنـا وحالنـا وكثـيرا مســتقبلنا فهــو ذاكــرة الأمــة (الآشورية) ورؤيــة الإنســان (الآشوري) للواقــع والكون والمستقبل؛ وعلى هذا يكـون الـتراث هـو كـل مـا هـو حاضـر فينـا أو معنـا مـن الماضـي سـواء ماضـينا أم ماضــي غيرنــا القريـب منـه أو البعيـد وهــذا التعريـف للـتراث عـام، (( فهـو يشـمل الـتراث المعنـوي مـن سـلوك وفكـر، والـتراث المـادي كالآثـار وغيرهـا، ويشـمل الـتراث القـومي مـا هـو حاضـر فينـا مـن ماضـينا؛ والـتراث الإنسـاني مـا هـو حاضـر فينـا مـن ماضـي غيرنـا، كمـا يـربط تـراث الماضي بالحاضـر مباشـرة، فلـيس الـتراث مـا ينتمـي إلى الماضـي البعيـد وحسـب، بل هو أيضا ما ينتمـي إلى الماضـي القريـب، والماضـي القريـب متصـل بالحاضـر والحاضر مجاله فهو نقطة اتصال الماضي بالمستقبل)).
الفكر والعلم والفن والأدب والتراث الآشورية مكونات لكيان الحضارة والتراث الوطني الآشوري
لان (تاريخ الحضارة الآشورية) وهو تاريخ عريق لأمة عريقة انطلق فكر هذه الأمة بتاريخها من خلال تطور الأمة (الآشورية) عبر ألازمنه وتفاعلت مع الحوادث والظروف وعبر تجارب وأحداث حية لتنسج حولها تعبيرات متنوعة متجددة مع تجدد الزمن، فهي إبداع وخلق وتجدد دائم، وهذا ما كان يعطيها نشاط و قوة ويضمن استمرار حيويتها وتكاملها على ضوء تجاربها بين الماضي والحاضر لبناء مستقبلها ولتخلق للحياة معنى جديدا لحاضرها ولمستقبلها. فهي بهذا المفهوم والمعنى تخلق المستقبل وتخلق الماضي نفسه وعلى ضوء معطيات حاضرها، وهذا الفعل هو الذي بلور لدى (الآشوريين) قيم (الفكر القومي الآشوري)، هذا الفكر الذي وحد كل عناصر الهوية القومية، من العرق و اللغة والأرض والتراث والعادات والتقاليد والقيم والعلوم والثقافة وكل ما هو مشترك يتقاسمها شعب واحد، والتي أسهمت في صنع هذه القومية والتي تداخلت فيها هذه المقومات لبناء التاريخ، وهذا التاريخ هو الذي جعل الإنسان الأشوري متصلا بجذوره وأصوله وأجداده بكون الإنسان الأشوري الحاضر هو امتداد لذلك التاريخ ولتلك الحضارة، الحضارة (الآشورية) العريقة.
فالأمة (الآشورية)، أمة لها فكر ولغة وتراث وفن وآثار و وجود، والأمة الحية هي الأمة التي تعتز بتراثها وآثارها وبعلومها وفنونها، باعتبار أن اللغة والفكر والتراث والآثار والعلوم والفنون بالمجمل يشكل جزءا أساسيا من هوية الأمة، تاريخا وحضارة، وهذه الهوية هي التي تكشف وتوثق أصالتها وعراقتها بتدوين التاريخ وتوثيقه كما فعلها أجدادنا (الآشوريين) قبل سبعة ألاف سنة وبكل وضوح وصدق، سواء عبر الألواح الطينية أو عبر تجسيم الإحداث بمئات الآلاف المنحوتات الفنية الراقية، مما تم اكتشافها – وبمثيلها وربما أكثر بكثير مما لم يكتشف عنها البعد – والتي ما زالت إلى يومنا هذا شاخصة إمام أنظارنا وأنظار العالم التي تتواجد في ارقي متاحف العالم لأبرز ما مر بالأمة (الآشورية) من أحداث، لتشكل خير وثيقة عهد والاتصال وهمزة وصل بين الأجيال السابقة والأجيال الحالية والأجيال القادمة لكي يتم الحفاظ على هوية الأمة، الأمة (الآشورية)، هذه الأمة التي تميزت عن غيرها من الأمم بالشواهد الحية التي تجعل من أبنائها يعتزون كل الاعتزاز ويفتخرون كل الافتخار متمسكين بجذورهم و بتاريخهم وبتراثهم وآثارهم وعلومهم وفنونهم والتي أرقى ما تتميز بها الأمة (الآشورية).
ولما كان الفكر والعلم والفن والأدب والتراث (الآشورية) مكونات لكيان الحضارة والتراث الوطني (الآشورية)، فجل ذلك يمثل غير شاهد بما قدموه أجدادنا (الآشوريين) من إسهامات في تأسيس هذا الكيان الذي هو مصدر الاعتزاز والفخر (الآشوريين) بما يقدمه من التحضر والثقافة والتطور التي هي ركائز هوية الحضارة وعنوان لثقافة الأمة (الآشورية) في تاريخها وحاضرها، لذلك نجد هوية امتنا (الآشورية) هي على الدوام ملهمة لتراث الثقافي العالمي و لكل الأمم، بل نجدها مصدر للإبداع المعاصرين من الأدباء والفنانين والشعراء والمفكرين والفلاسفة يؤخذون من فنون وعلوم وتراث (الآشوريين) مصدرا موحيا لخلق إعمال تحاكي ما أنجزوه وما تركوه أجدادنا (الآشوريين) قبل سبعة ألاف سنة من إعمال فكرية وفنيه وانجازات رائعة والتي بمجملها تحولت اليوم إلى تراث عالمي والتي كحاصل تحصيل تربط حاضر الأمة (الآشورية) بماضيها الخالد لتأخذ الإبداعات الجديدة التي يبتكرها المبدعون المعاصرون مواقعها في خارطة التراث الثقافي العالمي والذي يحسب على رقي امتنا (الآشورية) ومدى ازدهار حضارتها وعلى كل مستويات الحياة الثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ومن هنا فان تراث الثقافي والأدبي والفني والعلمي (الآشوري) بكل معالمه وصروحه وأثاره تجاوزا تأثيره المادي، من الكتابات الجدارية.. والرقم الطينية.. وتماثيل الحجرية الضخمة.. وأواني.. وحلى.. وصروح معمارية.. ونقوش.. وغيرها إلى تأثير غير المادي فلكلوري من أغاني.. ورقص.. وملابس.. وقصص.. وأساطير.. وحرف توارثتها الأمة (الآشورية) عبر الأجيال لتعبير عن نبض و روح حياتها وثقافة الأمة وهويتها، هذه الهوية التي تتغذى بهذا التراث والذي يرتبط مقوماته في عقل ووعي الأمة (الآشورية) حضاريا وتاريخيا وسياسيا ودينيا على حد سواء، ومن هنا فان تعلق الإنسان (الآشوري) في كل مراحل التاريخ يأتي بما اختزنه من ذلك الماضي ومن تراثه، ثقافة وفكرا علميا وفلسفة وأدبا وفنا، والتي هي بمجملها تمثل هوية القومية للأمة لارتباطها الشديد بالوعي الغريزي للفرد، لان الفهم السياسي لمفهوم (القومية) يرتبط بالمفهوم (الأمة)، من حيث الانتماء، وهنا نحن نحدد ما يخص تحديدا (الأمة الآشورية)، فالقومية باعتبارها إدراك وإحساس وشعور بالانتماء إلى كل ما هو مشترك في التراث والى كل ما هو متضامن بين مجمل مكونات الأمة من أجل تحقيق وحدتها – والتراث المشترك هنا يشمل اللغة والثقافة والدين والاعتقاد بالأصل الواحد – لتأتي القومية بفهمها إيديولوجي قوامه الشعور بان أبناء الأمة لهم كيانهم الذاتي وتطلعات بحقهم في تقرير المصير وتنظيم كيانهم القومي تنظيما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا مما يحقق لهم تكوين شخصيتهم القومية المستقلة.
ومن هنا يأتي اعتزاز الفرد (الآشوري) بهوية الأمة وتراثها باعتبار هذا التراث هو الجذر الذي يؤرخ أمجاد الأمة ويغذي حاضرها، ليأتي تقيمه بهذا المعنى، اتخاذ كل ما يلزم لحماية هذا التراث ونقل معانيه إلى المجتمع (الآشوري) ليضمن نهضة الأمة، نهضة وعلى كل المستويات مرفقة بأهمية مكونات التراث (الآشوري) باعتباره حيا حاضرا يحفزهم ثقة وعزما لمواجه المستقبل.
ولما كان التراث يمثل باعتباره محاورة الفرد مع الطبيعة عبر تراكم الخبرة بنقل تجاربه من الماضي إلى حاضره ليتوجه نحو المستقبل، فبقدر كونه يمثل ذاكرة الفرد والمجتمع، فانه كحاصل تحصيل يمثل هويته التي بها يتعرف الناس على هذا الشعب، لان عبر تراكم التراث، وبشتى قيمه الاجتماعية والثقافية والعلمية يكون مصدرا ثقافيا و تربويا وفنيا وعلميا، وبتراكم المعلومات تكون وجه الحضارة والتي كحاصل تحصيل لهذه الجدلية المنطقية تتكون ذاكرة الأمة.
الاحتفال بالعيد رأس السنة الآشورية – اكيتو ما هو إلا التزاما قوميا لتأكيد على هوية الأمة الآشورية
وما الاحتفال بعيد (الاكيتو) عيد رأس السنة (الآشورية) إلا جزء من هذه (الذاكرة) ومن قلب التراث الأشوري القديم ليكون الاحتفال بهذا اليوم في الأول من نيسان كل عام إرثا قوميا و وطنيا، حافظ (الآشوريين) على إحياءه منذ أكثر من سبعة ألاف سنة والى يومنا هذا، رغم إن الاحتفال بطقوسه اتخذ عبر مراحل الزمن أشكالا متنوعة و متجددة تتناسب مع تطورات وتغيرات العصر، ولكن ضلوا محافظين على إحياءه عبر الأجيال ليتخذ منه (الآشوريين) باعتباره عيدا قوميا ووطنيا للأمة (الآشورية) المتشتتين اليوم في كل أنحاء المعمورة، ولتصاعد الوعي القومي لأشوريين أينما وجدوا أصبح الاحتفال بالعيد رأس السنة (الآشورية – اكيتوا) التزاما قوميا لتأكيد على هوية الأمة، والتي هي ضمنا، ما هي إلا صلة اجتماعية عاطفية تنشا من خلال فهم الاشتراك في الأهداف والمصير، وبكون إفراد الشعب الأشوري يرتبطون بعضهم بالبعض بوحدة الأصل والتاريخ والأرض و اللغة و العادات من جراء الاشتراك في مصير مشترك والتي بمجمل هذه الصفات والخصائص والمميزات الفت ما بين (الآشوريين) وكونت منهم (أمة) في وحدة اللغة والثقافة والتاريخ و الآلام والنضال، وبذلك توضع مصالح القومية فوق مصالح أين كان نوعها، ومن هنا فان الفكر القومي يحيا عبر التزام بتنفيذ والعمل والمراجعة انطلاقا بالعودة إلى رموز الفكر القومي واستخلاص ما هو مفيد لوحدة الأمة وجمعها بما يضمن كل ما من شانه يعزز تقدمها وازدهارها وعلى جميع الأصعدة .
وما رمز الاحتفال ببداية العام (الآشوري) الجديد في الأول من نيسان إلا امتدادا لهذا التفكير ومن اجل المحافظة على التراث والتاريخ، رموزه ودلالاته، لنقترب من جذورنا (الآشورية) العريقة والضاربة في عمق التاريخ أكثر وأكثر، لذا فان عيد (رأس السنة الآشورية –الاكيتو)، يمثل رمز من رموز وجودنا القومي.
ومن خلال هذه الجدلية يتم تعبير علاقة الإنسان بالسماء وعلاقته بالأرض ومن عليها وما عليها؛ إنه لا يكتفي بتنظـيم علاقــة الإنســان بربــه فحســب، بــل يســعى إلى تنظــيم حيــاة الأفــراد الخاصــة بالمثل الإنسانية العليـا الـتي هـي ويربطها بحياة العامة، ويربط الحياتين معا تــراث البشــرية جمعــاء كما هي الصورة في (مثيولوجيا اكيتو الآشورية) ، وبــذلك تتــداخل كــل هــذه العلاقــات وتتشــابك بحيــث يصـبح الواقـع صـورة للمـآل والمثـال تعبـيرا واقـعيا وأضـحت (الحضـارة الآشورية) شـاملة تجمـع كـل تـراث البشـرية الروحـي وتوجهـه لخدمـة الحيـاة لتبـني الفرد المؤمن بربه المتعاطف مع أخيه الإنسان العامل لخير نفسه وخير مواطنيـه ومجتمعه وخير الإنسانية جمعاء لإننا في أمس الحاجة إلى تأكيد الاعتـزاز بـتراث أمتنـا( الآشورية) وماضـيها؛ لأن مـن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له؛ ذلك لأن بناء الحاضر في سـبيل المسـتقبل، لان طريق التطور الحضاري والتقـدم الحقيقـي يكـون ببعـث الماضـي وتجديـده وبـث الحيويـة فيـه؛ ثم وصله بأسباب الحياة لأن شخصية الأمة مبنيـة علـى أساسـه؛ ولا يمكـن بعـث الماضـي حيـا دون تغيـير شـامل في جوانبـه بتغذيتـه بروافـد الحاضـر وشـق قنواته وإزالـة رواسـب الـزمن عـن مجاريـه حـتى يكتسـب الخصـب وتقـوم علـى تربتـه الحياة من جديد
ولهذه الأسباب ما جعل الغرب والى يومنا هذا مغرما ومشغوفا بحضارة امتنا (الآشورية) في (بلاد ما بين النهرين) وعلى حضارة هذه البقعة التي اقتبست منها غالبية جوانب الثقافية الحديثة.
وقد عرف (بلاد آشور – بلاد الرافدين – العراق الحالي) مهدا للحضارات الإنسانية الأولى، التي أسهمت بفاعلية في نهوض الحضارات الإنسانية، لعل من أهمها الكتابة التي ظهرت على يد (السومريين).
وكان للإنتاج الفكري الغزير في بلاد الرافدين الأثر المباشر في إنشاء العديد من المكتبات وأشهرها مكتبة (آشور بانيبال (668 – 626 ق. م) التي ذكرناها في هذا السياق ؛ والتي كانت تحوي آلاف الرقم الطينية الموجودة محتوياتها من الألواح الطينية كاملة حتى الآن، معطية معلومات وافية عن تاريخ المكتبات في العراق القديم والتي تجمع وتنظم وتيسر الإفادة من هذا الإنتاج في الحقب القديمة وفيما يتعلق بالتاريخ الحضاري (الآشورية) وما فيها من نصوصاً تضمنت الأدب والقوانين والميثولوجيا والفلك والتاريخ.
عيد اكيتو أول إنتاج إبستيمولوجي في تاريخ البشرية
وأسطورة (اكيتو) ومراسم طقوسها تجمع بين الأسطورة والتاريخ وبين الواقع وعالم الغيب، وهو إنتاج (إبستيمولوجية)، لان (ابستمولوجية) – كما ذكرنا سابقا – بكونها ((دراسات وأبحاث التي تتناول المعرفة البشرية))، لمفهوم ظهر في الفكر الإنساني منذ أول يوم علم فيه أنه إنسان فان ولا حظ له في الخلود الأبدي وقد أبدعت المخيلة (الآشورية) في ابتكار مفاهيم وتصورات خاصة عن تحديد يوم الرأس السنة (الآشورية) في قصة بداية تجديد دورة الحياة في الأول من نيسان حيث موسم تجديد الطبيعة ونمو عشب الأرض واخضرارها والنعيم المثالي برفقة الآلهة وملك (آشور)؛ وقد كان طقوس اكيتو تحاور مختلف القضايا اللاهوتية والفلسفية التي تتعلق بمفهوم الخلد والكشف عن بعض مكامن الغموض التي ترتبط بهذا المفهوم وباتجاه الموت وما بعده لهذا نجد بان أبرزت الأفكار والمعتقدات المرتبطة بعالم ما بعد الموت.. وفكرة البعث.. والجزاء.. والعقاب؛ التي كانت سائدة في فكر بلاد الرافدين القديم .
حيث تتناول طقوس (اكيتو) التي تبدأ من بداية موسم اعتدال الطقس في واحد وعشرين من (آذار) وتستمر لغاية الأول من (نيسان) حيث تختم فعالية بمهرجان احتفالي ببداية السنة (الآشورية).
فالتصور الميثولوجي الفلسفي لأسطورة (اكيتو) تنطلق من فكرة الحساب والثواب لدى سكان بلاد الرافدين لان في اعتقادهم بان الغاية من وجود العالم السفلي في معتقدات تلك الأزمنة هو ليكون مستقرا أخيرا للأرواح بعد الموت، ولم تكن لديهم أدلة كافية تثبت تعرض الروح لحساب يؤدي بها إلى الثواب أو العقاب، هذا مع العلم أن العالم السفلي كان مليئا بالآلهة التي تستقبل الأرواح وتقودها إلى مكانها المخصص لاستقرارها النهائي.
وهنا سنذكر بعض الأمثلة عن ذلك من تاريخ حضارة وادي الرافدين.
حيث يذكر الباحث الاثاري (صمويل كريمر) عن وجود حساب للأموات في العالم السفلي وذلك في إشارة وردت في لوح طين وجد ضمن الألواح الطينية المكتشفة في مكتبة (آشور بانيبال) إذ يحوي هذا اللوح قصيدة كتبها شخص يدعى (لودنكرا يرثي) فيها أباه المدعو (انانا (فيشير إلى نزول الإلهين (شماش ـ وإنانا) إلى العالم السفلي بطريقة توحي بقيامهما بتقرير مصير الموتى فيه، وفيما يلي نص القصيدة:
((… يا نانا عسى أن تسر روحك ويستقر قلبك
عسى الإله أوتو سيد العالم السفلي العظيم، بعد أن ينور الأماكن المظلمة، أن يحكم قضيتك بعطف
عسى الإله نانا أن يقرر مصيرك برحمته في يوم النوم
عسى الموكلون بالطعام أن ينادوا اسمك
عسى السقاة أن يرووا ظمأك بالماء المنعش
عسى نيدوا وإبتانا أن يكونا شفيعيك
عسى آلهة العالم الأسفل أن يرفعوا الدعوات لك
عسى أن يقول إلهك (الشخصي) كفى، عسى أن يقرر مصيرك برحمته