7 أبريل، 2024 6:39 ص
Search
Close this search box.

اكسير الدين و السياسة (3 )

Facebook
Twitter
LinkedIn

ولاية الفقيه ما بعد النراقي
نشط فقهاء الشيعة المعاصرون للنراقي والمتأخرون عنه في تداول هذه المسألة فبحثها الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر (ت 1266 هـ) وعضد إلى حد ما رأى النراقي. ولكنه قصر عنه حيث قال: “لولا عموم الولاية (أي للفقهاء) لبقيت كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة”. فأثبت الولاية العامة للفقهاء مستدلاً بمقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ولكنه يعود إلى نظرية الغيبة فيقول: “نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد عن ذلك ونحوه، وإلا لظهرت دولة الحق..” (انظر ظواهر الكلام 21/397) وكأنه أثبت النيابة للفقهاء فيما رآه من ضرورات زمنه, وترك للمهدي وظيفة الجيوش والجهاد التي تحمل المعنى السياسي الكامل لولاية الفقيه, وأنها لو ظهرت هذه الجيوش لظهر المهدي لأنها الوظيفة التي تحتمها نظرية الغيبة.

وبحث الشيخ مرتضى الأنصاري نظرية أستاذه النراقي وانتقدها بشدة في كتابه “المكاسب” وقال عن الروايات المستدل بها على ولاية الفقيه على فرض صحتها: “لكن الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية, لا كونهم كالنبي والأئمة صلوات الله عليهم في كونهم أولى بالناس في أموالهم، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً”. وانتهى إلى القول “فإقامه الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام إلا ما خرج بالدليل دون خرط القتاد”. (انظر كتاب المكاسب ص 153 وما بعدها طبعة حجرية). ولكنه رغم ذلك أجاز النيابة الجزئية للفقهاء, أي المرجعية الدينية التي يمكن الرجوع إليها في الأمور التي لم تحمل على شخص معين.

وبعد الأنصاري توقف البحث الخاص في ولاية الفقيه كنظرية معتبرة بالمعنى الذي أطلقه النراقي إلى أن جاء الإمام الخميني وأعاد إحياءها.

الحكومة الدستورية ورسالة النائيني

“بسم الله الرحمن الرحيم.. إن استعمال التنباك والتبغ اليوم بأي نحو كان يعد في حكم محاربة إمام الزمان (أي المهدي) عجل الله فرجه”.

هذه الكلمات من المرجع الأعلى محمد حسن الشيرازي (سنة 1891 م) أثارت البلاد في وجه الشاه ناصر الدين وأجبرته على إلغاء اتفاقية التنباك الموقعة مع شركة بريطانية (انظر طلال المجذوب “إيران من الثورة الدستورية حتى الثورة” ص 108 طبعة ابن رشد، و”لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” طبعة لندن 3/95).

وورث السيد محمد الطبطبائي هذه الروح الإصلاحية من أستاذه الشيرازي وشارك في حركة اعتراضيه ضد مظالم الشاه مظفر الدين في سنة 1905, وبعث إليه برسالة فيها: “يا صاحب الجلالة، إن كل هذه المفاسد تحل عن طريق مجلس للعدالة, أي جمعية مؤلفة من كافة أبناء الشعب..”. واقر الدستور سنة 1906, وأسس مجلس للشورى, وأقر المذهب الاثنى عشري مذهباً رسمياً, ونصت المادة الثانية على عدم جواز أن تتعارض قوانين مجلس الشورى مع قواعد الإسلام, وأسندت هذه المهمة للعلماء. (انظر نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص 126).

ولم يعمر المجلس إلا ثلاثة أشهر وسقط بموت الشاه مظفر الدين ومجيء ابنه محمد علي لسنتين (1907 – 1909)، واستعان بالعلماء لتعطيل الدستور، منهم الشيخ فصل الله النوري الذي وقف في وجه دعاة المشروطة بقوة وعنف معللا ذلك بقوله: “إن هؤلاء باستخدامهم كلمات مغرية من قبيل العدالة والشورى والحرية يريدون خداع المسلمين وجذبهم إلى الإلحاد.. وغيرها من الأعمال المنافية للإسلام حتى يترك الناس الشريعة والقرآن”.

وفي الجهة المقابلة صدرت من علماء النجف منهم الآخوند محمد كاظم الخرساني فتوى تقول بأن موافقة ومساعدة كل مخالف للمشروطة القويم والتعرض للمحامين عنها “هو محاربة لإمام العصر عليه السلام”.

وبرزت حركة مضادة لحركة الدستور داخل الوسط الحوزوي بقيادة السيد محمد كاظم اليزدي وهو أحد الأنصار البارزين للولاية الجزئية للفقيه والمقتصرة على الأمور الحسبية, والمعارض بشدة لولاية الفقيه المطلقة, ولانخراط العلماء في الشأن السياسي.

وانقسم العلماء إلى فريقين كما اصطلح عليهما: أنصار المشروطة (الدستور) وأنصار المستبدة، وتبادلوا الفتاوى والردود. وهنا برزت رسالة العلامة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني والذي يعتبر مفكر الحركة المشروطية الأبرز وقد نشر آراءه في كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” سنة 1327 هـ في النجف. وقد أيده مباشرة بعض المراجع الكبار في ذلك الوقت.

وقد أقام النائيني في الكتاب الدليل على شرعية الحكومة المشروطة ورد إشكاليات المعارضين لها معتمداً في ذلك تقسيماً مبتكراً يراعي فيه الشرعية السياسية بمعناها المدني ويقر بغصبية السلطة باعتبار أنها حق ديني للإمام المعصوم.

فالنائيني يرى “أن الحاكم الظالم الذي لا يقيد بدستور أو مجلس شعبي (برلمان) يغتصب أمرين معاً في آن واحد, حق الإمام الغائب وحرية الناس, كما الحاكم الذي يقيد بدستور ومجلس الشعب فهو يغتصب حق الإمام وحده بينما يؤمن حريات الناس, ولهذا يجب أن يظل حكمه هو المفضل طالما أن غيبة الإمام مستمرة”.

فهدف النائيني أن يحقق مصالح الناس ويخفف من غصبية السلطة, لأن الحاكم المستبد مغتصب لحق الله والإنسان “بخلاف الحكم الدستوري الذي هو عبارة عن ظلم واغتصاب مقام الإمام المقدس فقط”.

فالنائيني يتحدث عن العدل الممكن في غياب المعصوم لأنه لا يؤمن بولاية الفقيه المطلقة (كما في كتابه منية الطالب) “ولأن الحاكم العادل المثالي لا يوجد” ولهذا لا بد من تحديد صلاحياته بالدستور والقوانين.

ولكنه رغم ذلك لم يبتعد عن ولاية الفقهاء بالمطلق, بخاصة في الأمور الحسبية, لأنها القدر المتيقن بنيابة الفقهاء فيها. ووجد في الشورى تأكيداً لدورهم ويقول: “إن مجلس الشورى على نظرية أهل السنة يعني أهل الحل والعقد وعلى نظرية الشيعة حيث يعتبر الفقهاء نواباً للإمام المهدي الغائب, يخضع لإشراف الفقهاء أو إشراف المأذونين من قبلهم”.

وبهذا ينقل النائيني الخطاب الشيعي من البحث حول المشروعية الدينية بإقراره بغصبية السلطة بالمنظور الديني, ليتجاوزها إلى البحث في المشروعية السياسية المدنية المستمدة من الناس.

حكومة ولاية الفقيه والإمام الخميني

“لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين (العلم بالقانون والعدالة) بتأسيس الحكومة، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (ص) ويجب على جميع الناس إطاعته. فتوهم أن صلاحيات النبي (ص) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (ع) وصلاحيات أمير المؤمنين (ع) أكثر من صلاحيات الفقيه, هو توهم خاطئ وباطل”.

هذه الفقرة من كتاب “الحكومة الإسلامية” للإمام الخميني تدخل بنا مباشرة إلى ولاية الفقيه كما نظر إليها الإمام النراقي مستدلاً بأدلته مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها معتمداً على قواعده الفكرية واجتهاداته التي كان قد أرساها بعد نفيه إلى العراق من قبل الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1963م. وذهب إلى أن الأدلة التي تدل على وجوب الإمامة هي نفس الأدلة التي تدل على وجوب ولاية الفقيه, وأنها من الأمور الاعتبارية العقلانية (التي توجد بالجعل والتبني والوضع الإنساني) أيضاً, وذلك كجعل القيم للصغار, وأن القيم على الأمة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة. (انظر الحكومة الإسلامية, مركز بقية الله, الطبعة الثالثة ص 109).

وأن الفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل, ولم يرثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات, فالولاية قابلة للانتقال والتوريث أيضا. (انظر كتاب البيع للخميني ص 92, والحكومة الإسلامية ص 150 – 151).

وللخروج من مشكلة تزاحم الفقهاء باعتبار أنهم كلهم ورثة وليس واحداً بعينه, يقول: “إن الولاية بلا قيد ثابتة للفقيه, ولكن احتملنا سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال تصديه, نستصحب ولاية الثابتة قبل تصدي الأمر.. فليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر لذلك”. (البيع ص 518).

وينطبق هذا على الإمام الخميني حيث حاز الولاية بالتصدي, مع استصحاب الأصل الذي يجتمع فيه مع غيره من الفقهاء أنهم ورثة الأنبياء بالفقاهة, ولكنها تستمر فيمن بعده بالانتخاب من قبل مجلس الخبراء, كما هو الحاصل مع الإمام خامنئي.

حدود الولاية وصلاحيات الولي الفقيه

عند البحث في صلاحيات الولي الفقيه كما هي في الدستور الإيراني عبر تتبع المواد المتعلقة به وبالولاية, فإننا لن نخرج بنتيجة حاسمة كتلك التي تعطينا إياها الرسالة التي بعث بها الإمام الخميني في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1988م إلى الإمام خامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك, وفيها صورة لولاية الفقيه المطلقة وإطارها المرجعي كما يراه الإمام الخميني. وبعد وفاته انعقدت الدورة الخامسة لمجلس الشورى وأدخلت ولاية الفقيه المطلقة في الدستور وفاء للإمام الخميني في سياق التأكيد على تجسيد الدولة فكر مفجر الثورة. (انظر نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص33-34.

الخميني:

الحكومة (ولاية الفقيه) شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام, ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج

وذلك أنه بعد عشرة أعوام من تجربة الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران تفجرت أزمة تشريعية سياسية نظرية بسبب إجازة الإمام الخميني لوزير العمل تطبيق بعض القوانين التي لم يصوت عليها مجلس المحافظة على الدستور, وأثارت امتعاض رئيس الجمهورية خامنئي, فبعث الخميني إليه برسالة يقول فيها: “كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة ويظهر أنكم لا تؤمنون أن الحكومة التي تعني الولاية المخولة من قبل الله إلى النبي الأكرم (ص) مقدمة على جميع الأحكام الفرعية.. ولو كانت صلاحيات الحكومة (أي ولاية الفقيه) محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام (ص) وأن تصبح بلا معنى.. ولا بد أن أوضح أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام, ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. وتستطيع الحكومة (ولاية الفقيه) أن تلغي من طرف واحد الاتفاقات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام.. إن الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتا في ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية. وما قيل حتى الآن وما قد يقال ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية”.

وقد عرض الشيخ محسن كدوير في كتابه “نظريات الحكم في الفقه الشيعي” النقاط الأساسية الواردة في رسالة الإمام الخميني في سياق توضيحه لنقطتين تعطيان للولاية المطلقة معناها, وذلك تحت عنوان “عدم الالتزام (أي من الولي الفقيه) بالأحكام الإلهية الفرعية الأولية والثانوية”، ثم ذكر النقطة الثانية “عدم الالتزام بالقوانين البشرية ومن جملتها الدستور”.

وقال: “تتحدد الولاية القائمة على أساس الشرعية الإلهية المباشرة من الشارع المقدس, وليس من الناس (المولى عليهم). وهنا يبرز سؤال في منتهى الأهمية: طالما أن الدستور يستمد شرعيته من إمضاء الولي الفقيه فكيف له أن يقيد ولاية الفقيه المطلقة؟

إن حدود وصلاحية الولي الفقيه ما زالت من أكثر النقاط جدلاً بين الفقهاء الشيعة أنفسهم, وبين السياسيين الإيرانيين جميعاً

واقع الحال أن الولي الفقيه المطلق يستطيع أن يلغي القانون عندما يرى أن ذلك من مصلحة الإسلام والمسلمين, وذلك باعتبار أن القانون الواقعي هو قانون الإسلام الذي ينقضه الفقيه الولي. وبناء عليه فأوامر الولي الفقيه تعتبر في حكم القانون, وهي مقدمة عليه في حالات التعارض معه”.

والذي قاله الشيخ كدوير كاف شاف في تقرير أن الولي الفقيه فوق الدستور، ولو تعارض الولي الفقيه مع الدستور فالدستور هو الذي يتغير.

ولاية الفقيه وآفاق المستقبل

إن حدود وصلاحية الولي الفقيه ما زالت من أكثر النقاط جدلاً بين الفقهاء الشيعة أنفسهم, وبين السياسيين الإيرانيين جميعاً, فالأدلة النقلية والعقلية إذا استطاعت أن تقنع أنصار الولاية بوجوبها, فإن صلاحيات الولي وحدود الولاية بقيت أمراً عصياً على الاتفاق وأثارت جدلاً في المذهب الشيعي عامة وفي البيت الداخلي الإيراني خاصة وأخرجت منه صيغة المحافظين والإصلاحيين.

أبرز المعترضين على ولاية الفقيه

وهذا يعيدنا إلى أن الأدلة وبخاصة النقلية غير كافية للمساواة بين ولاية المعصوم وولاية الفقيه بالطريقة التي ذهب إليها الإمام الخميني في وقتنا المعاصر, وسبق أن أشرنا إلى اعتراض الشيخ مرتضى الأنصاري في “المكاسب” على ولاية الفقيه عند النراقي وأن الروايات لا تشير إلى ذلك، وحدد دلالتها في موضوع الفتيا والقضاء فقط. وعلى نفس المنوال يذهب المرجع الأعلى المعاصر للإمام الخميني أبو القاسم الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى كتاب الاجتهاد والتقليد ويقول: “إن ما استدل به على الولاية المطلقة في عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه” (انظر مناقشة للموضوع ص 419 وما بعدها).

وإلى مثله وبنفس السياق ذهب آية الله الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه “الخميني والدولة الإسلامية” الذي كتبه عشية انتصار الثورة الإسلامية في إيران واعترض فيه على موضوعين: الأول هو أن الإمام الخميني يعطي كافة صلاحيات النبي (ص) والإمام المعصوم (ع) إلى الفقيه”. وقال: “ولكني لا أثبت إلا بعض الصلاحيات الحكومية للفقيه. والآخر هو أن الإمام الخميني يعتقد بأن الواجبات المالية في الإسلام مقررة للفقراء فقط, وإنما هي تشكل ميزانية الدولة الإسلامية, وأنا أعتقد أن الواجبات المالية في الإسلام موضوعة للفقراء والمساكن”.

وحصر ولاية الفقهاء العدول بالفتوى والقضاء والأمور الحسبية وقال: “إن التفاوت في المنزلة يستدعي التفاوت في الآثار لا محالة ومن هنا كان للمعصوم الولاية على الكبير والصغير حتى على المجتهد العادل, ولا ولاية للمجتهد على البالغ الراشد, وما ذلك إلا لأن نسبة المجتهد إلى المعصوم تماماً كنسبة القاصر إلى المجتهد العادل”.

واعتبر أن مقياس إسلامية أي دولة هو إسلامية القوانين والنظام وليس هيمنة الفقهاء, وأقر بمبدأ الانتخاب ما دام فيه مصلحة وأنه لا بأس بالاستفادة من تجارب الإنسانية ما دامت لا تحلل حراماً أو العكس. والى مثل هذا الرأي أيضا ذهب العلامة محمد مهدي شمس الدين, وقال بولاية الأمة على نفسها وبضرورة الشرعية السياسية للنظام في غياب المعصوم, وأن ولاية الفقيه منحصرة في القضاء والفتيا وما ماثلها, وأن قيام الدولة منفصل عن الإمامة ومن يتسلم السلطة ليس مغتصباً لحق الإمام المهدي (كما سبق عند النائيني) ولا تسمى ولاية جور, فولاية الجور تتحقق بادعاء صفة الإمام “بما هي منصب تشريعي” (انظر الفقيه والدولة، حوارات خاصة ص 427 وما بعدها

ولاية الفقيه والحكم المدني

ليس من العدل أن نقيم مقارنة بين ولاية الفقيه والديمقراطية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الرأي القائل بتعدد الديمقراطيات أو بكفرها على رأي البعض.

ولعله من المناسب أن نضع ولاية الفقيه في مقابل الحكم المدني باعتبار أن الأخير قدر مشترك بين كافة النظم المتقدمة في التجربة الإنسانية.

أولاً: اعتماد النص في تحديد نوع الحاكم وبالتالي صلاحياته (أي كونه فقيهاً مطلق التصرف) كوريث للنص الذي يحدد عين الإمام المعصوم في الإمامة الإلهية. حيث ينحصر الحكم فعلياً في الفقهاء, ويمنع عمن سواهم, وبهذا تحولهم إلى طبقة مستفيدة من الحكم خاصة وأن الولي الفقيه فوق الدستور, وبهذا المعنى يقترب من الحكم الثيوقراطي الذي يحكم فيه الفقيه باسم الإله, ولكن ضمن دائرة الجائز الواسع القابل للاستثناءات التي لا تحصر وتحت عناوين المصلحة والضرورة التي لا تنتهي.

ثانيا: أن ولاية الفقيه تبرر وجودها بحيازتها على الشرعية الإلهية وبطرحها نفسها ضمن نظرية منجزة كاملة, ولا تطمح لحيازة الشرعية المدنية التي إن سمح لها ستطرح نفسها كمكمل للشرعية الدينية, وهذا سيعود بولاية الفقيه إلى الحيز القابل للاجتهاد والقابل للزيادة والنقصان, وبما يتلاءم مع الشرعية المدنية ضمن الممكن والمتاح في التجربة والنص.

ثالثا: إن تميز ولاية الفقيه بسيطرة المعنى الديني فيها على المعنى السياسي بشكل مطبق, وعدم الفصل بين آليات الاجتهاد الديني عن آليات الفكر السياسي, وبالتالي عدم الفصل بين التاريخي والعقائدي (وليس فصل الدين عن الدولة) سيساهم في ولادة أحزاب عقائدية قد تتحول إلى فرق دينية في أرجاء الدولة والمذهب, فكأنها محاولة لإعادة إنتاج الإمامة بصورة الفقاهة.

 

وللتوضيح: الخلفاء الثلاثة في مقابل علي.. أحد الطرفين مخطئ, والخطأ بالمعنى الديني يعني كفر وإيمان, نفاق وإخلاص, وكذلك بنفس المعنى المقابلة بين علي ومعاوية, وعائشة ومعاوية.

ويمكن أن تصبح الصورة مع الفقاهة: الفقيه في مقابل المعارض, أحدهما مخطئ بالمعنى الديني, والنتيجة إعادة إنتاج الصيغة الآنفة الذكر.

رابعاً: كون الولي الفقيه فوق الدستور والقانون ومقيد بالإسلام (القابل للتأويل والاجتهاد والاستثناء) باعتباره القانون الواقعي للفقيه, فإن دائرة الممنوع والمسموح على المستوى الدستوري والقانوني لن تخلو من بعض الإبهام, وستجد الأحزاب والصحافة والاتجاهات السياسية والفكرية نفسها تعمل وفق دستور ملغوم ولا يملك صفة المرجعية المنجزة, فإذا أخذته بالاعتبار ولم تخالفه فقد تخالف ما يراه الولي الفقيه محظوراً ولو في ظرف معين, فيجعلها مكبلة خائفة من الإبداع الفكري والسياسي والإداري أن يجر عليها محظوراً.

خامساً: إلغاء الدور السياسي للامة, فهي تتعامل مع فقيه منصوب من قبل الله, فلا يمكنها الاعتراض أو انتقاد سياسته, وستأخذ تصرفاته صبغة مقدسة غير قابلة للمساس.

سادساً: ستترك ولاية الفقيه تساؤلاً يحق له أن يثار على المستوى الديني والإنساني، هل يمكن أن يخضع إنسان للدستور بينما يبقى آخر فوقه؟ وهل هناك قانون خاص يخضع له رجال الدين وآخر يخضع له بقية الناس.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب