“حين أنهى الأخرس حديثه الطويل،
طقطق أصابع يديه!.
فبين حديث وآخر ترتجفُ اصابعه
كما لو أنها تجر نفَساً،
هذا الأخرسُ، صديقي
وهو ايضاً لا يلفظ حرف “الراء”!،
ففي حربِ 2003 حينَ كُنا بِمتناول الشظايا،
خسر احد أصابعه!.
هذا الكائنُ المهجور
يعيشُ الصمتَ وكأنه في عبورٍ مستمرٍ للشارع!.
ودائماً عندما أتحدث معه، لا يحرك يديهِ ابداً،
فلقد عرفتُ هذا الرجل مؤدباً ولا يقاطعُ كلامَ أحد!.
صديقي الأخرس هذا،
حاول مرة أن يقول كلمة “صواريخ”،
حينها شعرتُ بأن كفه يصفع وجه العالم!.
(اكرم الامير)
كيف نرثي شاعرا كان الرثاء مهمته الاهم، فالشعر عندنا في العراق لم يبق الا هدفا واحدا هو رثاء الحياة، وما آلت اليه احوال العراقيين وكان اكرم الامير احد ضحاياها، يبدد الشعر العراقي الان بقوة الالم تقسيمات ابي سلام الجمحي لاغراض الشعر في (طبقات فحول الشعراء)، ويجعل الرثاء غرضه الاوحد بدلا من المديح.
كيف نرثي فقيد الشعر بتحققاته الاكثر حداثية وتدوينية، اكرم الامير الشاعر الذي ابتدأ مشواره من مقهى الادباء، المكان المتواضع الذي ابتدأت منه مجموعة من محبي ومهووسي الشعر من الشباب في البصرة، كانت مجموعة من اجمل ما يكون عشاق الشعر، تضم عديدا من هواة الشعر، لا اتذكر اسماء الكثيرين منهم، الا ان من بقي منهم مواضبا كانوا قلة منهم: اكرم الامير و صفاء الصحاف، وحيدر كمّاد، وعلي ابراهيم الياسري، ثم التحق بهم مصطفى عبود. واخرون، لا تحضرني اسماؤهم الان، وتشتت اخرون ممن كنت اتوسم فيهم مستقبلا شعريا، اخذت الصحافة احدهم، واتجه اخر نحو الدراسة الدينية، وارتحل ثالث الى امريكا وضعفت صلتنا به، وبقي اكرم الامير الاشد توقدا فيهم ولكن الموتلم يمهله.
كان اكرم الامير شاعرا اقتنع، منذ البدء، بوجهة نظري بان الشعر الرفيع، كما الكتابة الرفيعة، نتاج ثقافة شعرية عالية، فلكي (تكتب الشعر) عليك اولا ان (تقرأ عن الشعر) لتعرف (ما هو الشعر) اولا، فكان قارئا نهما لما كنت اقترح عليه من الكتب التي تتحدث عن الشعر وتدرسه ليتهأ لقراءة دواوين الشعراء. لقد اقتنع ان على الشاعر ان يجيد قراءة الشعر ليختار ما يقرأه، وليبتعد عن اشنات الشعر وطفيلياته، وقد كان الهدف مما كنا نقترحه عليه من قراءات هو انتاج نصوص (تدوينية) ترتكز الى الثقافة في انتاجها، فكانت اولى قراءاته كتب: الشعرية العربية لادونيس، وبنية اللغة الشعرية واللغة العلياء لجان كوهين وغيرها من الكتب التي اسست فهمه لنمط من الشعر يفارق النمط (الشفاهي) المهيمن على منابر الشعر المهرجانية وعلى الذائقة العربية.
لقد اثمر بناؤه القوي نتاجا شعريا متميزا، منذ اول لقاء له مع جمهور الشعر في البصرة حينما قدمته مع مجموعة من الشعراء الشباب في التجمع الثقافي في مقهى الادباء، وقرأت عنهم رايا اعدت نشره في صحيفة (العالم)، فبقيت نصوصه التي قدمها للمتلقين وقتها عالقة في اذهانهم، وايضا ما قدمه في المرابد الاخيرة مما رسخ اسمه كواحد من الشعراء الشباب المتميزين، وباعتقادي ان اكرم الامير سيبقى عالقا في اذهان عشاق الشعر.
لقد وصفت شعر اكرم الامير في هذه الجلسة:
بأن اكرم الامير يؤكد قدرته على الامساك بالشعرية (poetics) التي نقصد بها (السمات النصية) التي تمنح النص الشعري هويته، وتفارقه عن النص النثري، والقضية برأينا كانت (قضية اشتغال نصي جمالي منتج للدلالة)، بل انني اعد نص اكرم الامير نموذجا لما يتوفر عليه الشعر الحديث من خصيصة مهمة، قد لا نقدرها نحن العرب حق قدرها بسبب الارث الشفاهي المهيمن على الشعر العربي عبر تاريخه الطويل، وهي ان شعره ليس تحويلا او تغييرا لزي، من النثر الى الشعر، وان شعره يبدو لي وكانه يولد شعرا منذ البدء، وان ما يجري بعد كتابته من تعديل انما هو لاستئصال درنات النثر التي علقت به من الواقع النثري.. وهو الامر ذاته الذي تحدث عنه بيكاسو عن التجريد الذي ينمو من المشخص (الواقعي) وتجرى عليه مراحل من التجريد والاختزال الا انه مهما جرت عليه من اختزالات فان روح الواقع تظل كامنة فيه لا تنمحي، انه الشعر التدويني الذي ينبني من روح الشعر ويضم بين جوانبه الواقع المعيش الذي كمنت بذرته فيه دون ان تحدث خدشا في شعريته.
نماذج من نصوصه:
(عن ابي او الخشب بشكل عام)
القاربُ الخشبيُ يبدو أثقلَ حين يلامسُ اليابسةَ،
يتمسكُ بالطينِ كما لو انه يريد أن يعودَ شجرةً،
هكذا هي ألأجساد ثقيلة بعد الموت.
——————-
(البناء الضوئي للإسم)
اسكن في بيتٍ صغير
بلا حديقة أو حتى مزهريات،
ولأن ابي فلاح بالاصل
ألصق داخلهُ صورة لشجرة العائلة،
وكلما مرَّ بقربها
تفقد سلامة الأجداد.
اخي الكبير تزوج
وظل يسقي الشجرة كل ليلة
حتى فاض المنزل بالاطفال،
وعندما كبروا ونمت أسنانُهم
تشاجروا من أجل قطعة كعك،
صار احدهم يرمي
الحجارة على إسم الآخر في الشجرة،
حينها،
أُصيب جدي وكُسر الغصن،
أنا الأن مقطوعٌ من شجرة.
————————-
(الرجل الثمرة)
كي لا تنسى الاشجار أن تثمر
أبي كان فلاحاً يوزع عليها الروزنامات قبل كل موسم للحصاد،
فقد كان يؤمن دائماً بأن الأشجار كلها يمكنها ان تثمر ،
حتى تلك التي ماتت منذ سنين
ولكن على هيئة ابتسامة بشعة تنضج على وجه النجار!
البساتين تعرفك جيدا يا ابي
حتى انك حين كنت تعود الى البيت،
كانت ابواب الغرف تتصرف على انها اشجار،
لم تضحِّ بأشجارك الميتة يوما
حتى الكراسي والطاولات التي كنت تشتريها لنا، كانت كلها من البلاستيك
اتذكر كيف انك متٙ ولم ترد السلام على نجار القرية
مت يا ابي ومذ ذلك وابواب الغرف ابوابا لا غير
لقد مت يا ابي والاثاث الخشبي الذي يملأ البيت الان
دليل قاطع على ذلك.
ارجو من اتحاد الادباء المركز العام والبصرة والصديق المثقف الدكتور عبد الامير الحمداني وزير الثقافة الى انتداب لجنة لجمع النتاج الشعري لاكرم الامير ويطبع في ديوان واحد يجمع ما كتب الشاعر الامير.