حول القضايا الأكثر تداولا فيما يخص الشأن السوري على وسائل التواصل الاجتماعي والصحف والقنوات المتلفزة، قرأنا تساؤلالأحد الكوادر الجامعية في جامعة تشرين حول الموقف الروسي تجاه سوريا.
يتساءل الأستاذ الجامعي حول السبب في “التراخي الروسي” تجاه الحليف السوري، وكيف “لم تحرر إدلب ولا شرق الفرات” حتىالآن؟ ولماذا “يتم إرضاء تركيا وقسد وإسرائيل على حساب الشعب السوري“؟
يدهشنا بداية أن تغيب عن شخص بقامة الجامعي المخضرم حقيقة الواقع على الأرض في غرب وشرق وشمال سوريا، بل يدهشناأكثر ألا يكون الأستاذ المحترم، استنادا لخبرته وموقعه ووجوده في الداخل السوري، قد عاش وقرأ ورأى وأدرك ما حدث ولا زاليحدث على الأرض السورية من أحداث جسام على مدار السنوات التسع الماضية.
قد نلتمس العذر لما يمكن أن يكون قد تعرض له الجامعي من ضغوط من بعض الأطراف في دمشق لكتابة هذا المضمون الهش،الذي لا يعبر سوى عن عجز تام عن قراءة الواقع والتاريخ وأبسط قواعد المنطق، خاصة وأن المنشور على أحد مواقع التواصلالاجتماعي، رافقته حملة نشيطة واسعة، من شخصيات سورية مختلفة، أغلبها دمشقية، تغني نفس الأغنية في تآلف تام، وتكادتكون بنفس الألفاظ واختيار العبارات. هي إذن حملة موجهة ضد روسيا، وضد كل الجهود التي تبذلها مجموعة أستانا.
أن ما لا يقل عن 10 مليون مواطن سوري، وليس مبالغة في الرقم على الإطلاق، لا يثقون في القيادة بدمشق، ويؤيدون التواجدالتركي والأمريكي المؤقت في شمال سوريا، بل ويعتبرون تركيا والولايات المتحدة الأمريكية حلفاء لهم في نضالهم من أجلتحقيق طموحاتهم وأهدافهم في تغيير الأوضاع في سوريا، والانتقال إلى نظام حكم آخر، يحقق آمالهم على أرضهم التي ولدواوترعرعوا عليها، وكل ما يتعلق بذلك من تغيير دستوري ونظام انتخابات جديد وصلاحيات مركزية وغيرها تضمن لهم حقوقهمالوطنية والقومية والعرقية والثقافية. فعن أي “تحرير” يتحدث من يتحدث، ويكتب من يكتب؟ ألم يحن الوقت أن يدرك المقربونمن أصحاب القرار في دمشق أن السلطة المركزية لم تستعد سيطرتها على هذه المناطق بدون توافق سوري سوري؟ وعلى الأساسالذي وضعته هيئة الأمم المتحدة التي تجسد إرادة المجتمع الدولي من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2254؟ ينبغي التأكيد هناعلى أن تجاهل هذه الحقيقة، واعتبار أن الانتصار بات أمرا واقعا، ولم يعد هناك حاجة لأي عملية تغيير دستوري، وأصبح منالممكن الإبقاء على النظام الحالي دون تغيير إنما يصب في اتجاه تقسيم سوريا إلى ثلاث وربما أربع أجزاء، لأن الوضع في الجنوبالسوري أيضا يغلي، وقابل للاشتعال في أي لحظة، وهو ما يمكن أن يتسبب في تدخل طرف دولي آخر.
لم يعد أمام السوريين خيار سوى التوصل إلى توافق، وهو ما قلناه ونقوله باستمرار ، والمسؤولية الكبرى تقع على القيادة فيدمشق، حيث لا زال المجتمع الدولي يعترف بالسلطة في دمشق تجسيدا للسيادة السورية، وهو ما يلقي عليها بمسؤولية تنفيذقرار مجلس الأمن رقم 2254، لتسود أجواء جديدة في سوريا، تعيد للمركز في دمشق تواجده على جميع الأراضي السورية، منخلال حكومة وبرلمان يستمدان شرعيتهما من مشاركة كل السوريين. ولن يحدث أي تقدم في وضع الشمال السوري سوى من خلالهذا الطريق، ولن يكون هناك أي انتعاش اقتصادي بدون ذلك. وعلى الرغم من الجهود الدولية التي تبادر بها روسيا لتقديمالمساعدات الإنسانية الطارئة للشعب السوري، إلا أن أيا من الجهود لإنعاش الاقتصاد السوري لن يكتب لها النجاح دون استعادةالسيادة الكاملة على الأراضي السورية. فكيف لنا أن نتوقع أي مستقبل لأي مشروع اقتصادي في ظل سوريا مقسّمة إلى ثلاث أوأربع أجزاء؟ لابد علينا أن نستوعب كذلك أن معاناة الشعب السوري لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وأن لكل صبر حدود.
مع الأسف الشديد، لا زال بعض السوريين لا يستوعب حجم الدور الروسي، ودور مجموعة أستانا، ومسار أستانا في وقف إطلاقالنار، وفرض نظام خفض التصعيد والتهدئة على كامل الأراضي السورية. لا زال البعض يغفل أن بديل ذلك كان يعني ببساطة تدميرباقي حلب وتدمر بالكامل وربما دمشق، وكان يعني أن أعداد القتلى ستفوق المليون سوري، إضافة إلى من قضوا في الفترة من2011 وحتى 2015، وكان يعني أن النظام في دمشق سيسقط، وتسيطر داعش على مناطق واسعة في سوريا. على الجانب الآخر لا زالالبعض في المعارضة يتمسكون بتشكيل هيئة حكم انتقالي وفقا لما يظنونه تفسيرا لقرار مجلس الأمن رقم 2254.
يتعين التوضيح أن القرار لا ينص على ذلك، وهو ما كان نقطة خلاف أثناء كتابته، ولم تتم الموافقة عليها، والاكتفاء بمرحلةانتقالية بإشراف هيئة الأمم المتحدة، وترك حينها موضوع هيئة الحكم الانتقالي لقرار السوريين بعد بدء الحوار السوري السوري،لكونهم أصحاب القرار في الشكل الذي يريدون اللجوء إليه لبدء عملية الانتقال السياسي في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2254. هذا ما كان عليه الوضع حينما لم تكن الأمور مستقرة. ولكن، وبعد استقرار الوضع وسريان وقف إطلاق النار والتهدئة، أصبح طرحهذه القضية بالنسبة للقيادة في دمشق، الممثلة للسيادة السورية محليا ودوليا، هو طرح انقلابي مرفوض نهائيا. لذلك يصبحالطريق الوحيد المتبقي هو مسار جنيف، وما تم الاتفاق عليه في مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، وتسهيل عمل اللجنةالدستورية والسلات الثلاث الأخرى، والتحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية بإشراف أممي، لتعود بعد ذلك السيادة كاملةللسلطة المركزية في دمشق التي ستمثل حينها شرعية مشاركة كل السوريين بعد توافقهم، حيث لا تعتبر السيادة كاملة طالما ظلالملايين من أبناء الشعب السوري مهجرين يعيشون في المخيمات. وتقع مهمة إعادة هؤلاء إلى منازلهم على عاتق الحكومةالسورية، التي يجب عليها فورا الاستجابة للقرار 2254، حتى يستجيب المجتمع الدولي لمساعيها في استعادة سيادتها كاملة،والتي لن تكتمل إلا بعودة اللاجئين إلى أوطانهم. كذلك فإن من بين مظاهر احترام السيادة تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الصادرفي حق دولة نتيجة اضطرابات داخلية فيها.
وبعودة السيادة لن يدور الحديث عن أي “تحرير” للأراضي السورية، التي هي في واقع الأمر غير محتلة، وإنما خرجت عن سيطرةالحكومة المركزية في دمشق لعوامل سورية بالأساس، واستدعت تواجدا تركيا وأمريكيا مؤقت، يستند تبريره إلى حماية ومساعدةملايين السوريين، الذين يتواصلون مع الأمريكيين والأتراك، في عصر لا تقبل فيه الدول ذات السيادة باحتلال أراضيها من قبل دولأخرى.
نحن على يقين من أن الشعب السوري في غرب وشرق سوريا، بما في ذلك أكثر من 2 مليون من الأكراد، يرفضون أي بقاء دائم لأيقوات أجنبية على أراضيهم، ويتمسكون بالسيادة السورية ووحدة الأراضي، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يكونوا جزءا منهذه السيادة بالمشاركة الفعلية في تقرير مصيرهم من خلال نظام فدرالي وتوزيع عادل للصلاحيات بينهم وبين المركز.
إن مستجدات الوضع السوري عقب انتهاء اللقاء الثالث للجنة الدستورية المصغّرة تؤكد على أن الأشهر القليلة القادمة وحتىمنتصف السنة المقبلة سوف تكون اختبارا حقيقيا لكل طرف أو شخصية سواء من القيادة في دمشق أو من المعارضة، ممنيحملون على أكتافهم مسؤولية إدارة ملفات الحوار واللقاءات التي تنسقها هيئة الأمم المتحدة، وسيكون جليا للعيان من يسعىلحل الأزمة السورية، ومن يسعى لعرقلة هذه الجهود، وسيكون واضحا أمام الجميع من يحافظ على السيادة السورية ووحدةالأراضي، ومن يسعى لإلحاق الضرر بذلك. إن الوضع الراهن غير مستدام حتى ولو حافظت على استمراره أي قوة في العالم، لذلكفإننا على ثقة تامة بأن المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن سيتخذ إجراءات حاسمة وبموافقة جميع الأطراف وبتهيئة كلالظروف كي يتمكن السوريون من التوصل إلى تحقيق آمالهم بالعيش في دولة واحدة يسودها الأمن والاستقرار والحرية.
لا بد وأن يختفي من أذهان الجميع بشكل نهائي التواجد العسكري التركي والأمريكي والروسي والإيراني، خاصة عند أصحاب القرارفي دمشق أو في صفوف المعارضة، حيث أصبح من الواضح أن الرهان على حسم الأمر عسكريا هو أمر مستحيل عمليا، ولن يؤدياستمرار الأوضاع على ما هي عليه الآن سوى إلى تقسيم سوريا، وهو خيار مرفوض نهائيا، لذلك يتعين علينا اللجوء إلى قرار مجلسالأمن رقم 2254، لإيجاد مخرج للكارثة الإنسانية التي تعاني منها كل المناطق السورية. وسوف تضغط كل الدول المتواجدةعسكريا على الأرض السورية بكل الوسائل، وليس الاقتصادية فحسب، من أجل تنفيذ القرار، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوالفرض حدود زمنية للجنة الدستورية، أو فرض أجندات على الحوار السوري السوري، وإنما يعني أن أي شعور بالمماطلة أو عدمالجدية من أي من الأطراف أو الأشخاص أيا كان لن يتم التساهل معه.