18 ديسمبر، 2024 6:56 م

اكتوبر وحل القضية القومية

اكتوبر وحل القضية القومية

تحتاج تجربة ثورة أكتوبر الإشتراكية في حل القضية القومية، لمزيد من التأمل والتفكير من كل المفكرين والسياسيين الذين يهمهم المشروع الاشتراكي والسبل الكفيلة بتجاوز أزمته الراهنة، حيث يتعرض هذا الحل والمروجين له، لتشويه متعمد، من حملة الفكر الليبرالي، وعلى نطاق عالمي. وتساهم في ذلك معاهد الأبحاث ووسائل الأعلام المدعومة من قبل الدول الرأسمالية الكبرى ، مما أدي إلى خلق حالة تشوش، فكري وسياسي، ليس عند حملة الفكر الماركسي فحسب، بل عند كل الذين يناضلون من أجل إيجاد حلول عادلة للقضايا القومية التي تواجه شعوبهم . ويبذل جهد خاص للمنطقة العربية، في هذا الشأن، حيث تتعايش قوميات وأقليات عرقية وقومية ودينية عديدة. ومما زاد الأمر تشويشا وتعقيدا ، السياسة الشوفينية التي ينتهجها بعض الحكام العرب. إن كل ذلك أدى الى بقاء القضية القومية في العديد من البلدان العربية بدون حل عادل لفترة طويلة، وبالتالي تحولت المشاكل القومية إلى حالة استنزاف دائم للموارد البشرية والمادية ، تعرقل مساعي الشعوب العربية للمحافظة على الاستقلال السياسي والوحدة الجغرافية والتنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية، ناهيك عن تعطيل التوجة نحو الديمقراطية.
ومن أجل إلقاء المزيد من الضوء على هذه القضية الهامة ، لابد من الإشارة ، إلى إن الشعارات التي تبنتها ثورة اكتوبر، لم تنم عن رغبة سياسية ذاتية أو آنية لقادة الثورة وعلى رأسهم لينين، بل جاءت نتيجة لتطور النضال السياسي للشعوب المضطهدة، حيث تسارع استكمال الهيمنة الإمبريالية والاستعمارية على العالم بعد الحرب العالمية الأولى بانتقال ، وبشكل واسع ، مجال الهيمنة الرأسمالية من النطاق الوطني إلى النطاق الدولي ، لتصبح هيمنة عالمية، بعد أن تمكنت الدول الرأسمالية، المنتصرة بالحرب، من إعادة تقسيم العالم ، عبر صيغ مختلفة من الهيمنة ( احتلال مباشر أو غير مباشر ، انتداب ، استقلال شكلي ). ولهذا تصدت قيادة الثورة وعلى رأسها لينين لبلورة مفهوم ماركسي لحل مسالة القوميات، فطرح عام 1918 مبدأ ” حق تقرير المصير للأمم والشعوب ، بما في ذلك تكوين الدولة القومية المستقلة “.
ويعتبر هذا المبدأ تطويرا للمفهوم الماركسي من القضية القومية، والذي صاغه ماركس، من قبل، بعبارته، الموجزة، ولكنها بالغة الدلالة بقوله: لا يمكن لأي أمة أن تصبح حرة وهي تواصل اضطهاد أمم أخرى” . وبناءً على الخبرة العملية التي تكونت بعد الثورة ، وخاصة بعد إن لاحظ لينين، استمرار نزعات التعصب القومي الموروثة من العهد القيصري ـ عند القومية الروسية ـ فحاول تثبيت حقوق القوميات والشعوب الصغيرة في الانفصال وتكوين دول قومية مستقلة عن روسيا، في دستور الاتحاد السوفييتي الذي تكون لتوه. لقد وردت هذه الأفكار في مناظرات لينين حول “المسألة القومية وحق تقرير المصير ” والتي كثفها وأوجزها، في الرسالة التي بعثها إلى اللجنة التي شكلها الحزب البلشفي الروسي ، لوضع أسس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في عام 1922، والتي يمكن تلخيصها ب: ـ
(1) ” كلما كان النظام الديمقراطي لدولة ما أقرب إلى حرية الانفصال التام كانت الاتجاهات إلى الانفصال أندر وأضعف في الممارسة ” .
(2) ” أن الاعتراف بمبدأ حق تقرير المصير لا يعادل الاعتراف بمبدأ الاتحاد الفدرالي “.
(3) ” أن الحزب يطالب بأن يتضمن الدستور قانوناً أساسياً يعلن إبطال جميع الامتيازات التي كانت تتمتع بها أمة ما، وكذلك جميع التعديات على حقوق الأقليات القومية … ويتطلب ذلك الأمر قوانين مفصلة لا يمكن أن يضعها ولو بشيء من النجاح غير أبناء القومية التي تقطن الجمهورية المعنية “.
(4) ” لا تكفي المساواة الشكلية … من الطبيعي تماماً في هذه الظروف أن تظهر، حرية الخروج من الاتحاد ، التي تضمنها الدستور مجرد ورقة ليس في طاقتها أن تدفع عن رعايا روسيا من أبناء الأقوام غير الروسية غزو ذلك الروسي الشوفيني “.
(5) ” ينبغي وضع قواعد دقيقة … فيما يتعلق باستخدام اللغة القومية في الجمهوريات القومية غير الروسية المنضمة لاتحادنا ومراقبة تطبيق هذه القواعد بدقة كبيرة “.
(6) ” إن التمايزات القومية ستستمر لزمن طويل جدا جداً، أي حتى بعد إقامة دكتاتورية البروليتارية على نطاق العالم “.
(7) ” أن نكون على الدوام وبصورة مطلقة مناهضين لكل محاولة تستهدف التأثير من الخارج بواسطة العنف أو بواسطة الظلم على التقرير الحر للشعب …ومعادين بصورة مطلقة لكل استخدام للعنف، في أي شكل كان ، من قبل الأمة السائدة ( أو المشكلة لغالبية السكان) ضد الأمة الراغبة في تشكيل دولة متميزة ” .
إن من يطلع على المبادئ أعلاه التي توصل إليها لينين، يتبادر إلى ذهنه، في أول وهلة، سؤالا هاما، خاصة وإن الفترة الراهنة تشهد تشويهاً متعدد الأشكال لمبادئ الماركسية، والسؤال هو: إذا كان الجانب النظري متيناً لهذا الحد، فلماذا إذاً إنهار الاتحاد السوفيتي ودولته المتعددة القوميات، بأسرع ما يحلم به أعداؤه؟ ومن أجل أن يكون حكمنا موضوعيا على صحة أو عدم صلاحية المبادئ الماركسية لحل القضية القومية، والتطوير الذي قام به لينين لهذه المبادئ ، لابد من إيضاح قضيتين :
1. إن المبادئ العامة، التي تمت الإشارة إليها سابقاً، كانت صحيحة و صالحة للتطبيق إذا أخذناها، كتصورات عامة لظروف تاريخية معينة، يجب أن تطور وتغنى عند التطبيق، فكل النظريات، مهما بدت سليمة، يمكن أن تصبح أوهاماً، إذا طبقت بصورة مشوهة، وهذا ما حدث بالفعل من قبل القيادة التي خلفت لينين، فكيف يصبح الحال إذن، إذا جرى تشويه الأسس النظرية نفسها، وسوقت للناس على أنها المبادئ الأصلية؟ ومما عقد الأمر أكثر أنها لم تطبق على العلاقة بين قوميتين، فكما هو معروف، فالاتحاد الذي تكون عام 1922 ، ضم عددا هائلا من القوميات والمجموعات العرقية والطائفية ، وقام على خلفية اضطهاد قيصري شديد ضد القوميات غير الروسية دام قرون، أدى إلى تمتع الروس بمركز متميز باعتبارهم أمة مستعمِرة. وللاستشهاد على التشويه الفكري نشير إلى الى التناقض بين ما قاله لينين ” لقد سبق لنا وأكدنا إن العدول عن حق الأمم في تقرير مصيرها في ظل الاشتراكية، إنما يعني خيانة الاشتراكية ” وما طرحه ستالين حين قال ” لقد أسقطت البرجوازية، وبالتالي ليست هناك حاجة لرفع المطالب الديمقراطية ” وهذا يعني أن حل القضية القومية ليست من مهام البروليتاريا بعد الانتصار، أما لأنها حلت أو لكونها مطلب برجوازي ـ ديمقراطي.
2. إخضاع هذه المبادئ إلى أسس أخرى مثل ” مصلحة الاشتراكية العليا ” و ” مصلحة البروليتاريا العالمية ، العالمية وليس السوفيتية فقط ! ” و ” النضال ضد العدوان الخارجي ” و ” تعزيز البناء الاشتراكي ” وقضايا أخرى لا يتسع المجال للإشارة إليها. وتبعاً لهذه الشروط أصبحت الميول والمشاعر القومية، ناهيك عن الفروق بين القوميات والمساواة وحق تقرير المصير، متعارضة بالمطلق؛ تارة مع الأممية، وتارة أخرى مع الدفاع عن الوطن الاشتراكي، وثالثة مع مهام البناء الاشتراكي. …الخ. ووفق هذا الخلط المتعمد، جرى التعامل مع القضية القومية وتناقضاتها المختلفة .
إن الواقع العملي والتجربة الملموسة أثبتا، أن القضايا الكبرى لنضال البشرية، لا يمكن أخذها كما هي عند تعارضها مع قضايا ملموسة أخرى، أكثر قدرة على الحصر والتطبيق في ظروف معينة، وبالتالي من غير الجائز إخضاع كل قضية تواجه، أي سلطة أو حزب، أثناء النضال العملي، إلى قضايا أخرى، محددة في الشكل وعائمة في المضمون، كالهدف النهائي للمشروع الاشتراكي على سبيل المثال. ففي هذه الحالة، تصبح كل قضايا النضال عائمة وغامضة، ويصبح التجريب والموقف الذاتي للقيادة سيد الأحكام، كما يقال. وهذا ما أكدته التجربة العملية والأحداث والوقائع التي نتجت عنها، بعد وفاة لينين. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بكيفية التعامل مع إشكاليات القضية القومية وتناقضاتها، بل مع كل المشاكل التي واجهت بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وغيره من البلدان التي سعت للإقتداء بالتجربة السوفيتية لبناء الاشتراكية .
و بناءً على الواقع الملموس الذي انتهت إليه التجربة السوفيتية، يدعي بعض أخر بأن المبادئ التي طرحها لينين للمحافظة على الاتحاد، باعتباره يشكل قوة كبيرة في مواجهة العدوان المتعدد الأشكال الذي تعرضت له الدولة السوفييتية الفتية من قبل الدول الاستعمارية بهدف القضاء على تجربة البناء الاشتراكي، هي السبب في إنهيار التجربة. إن هذا الاعتقاد لا يجانب الصواب كثيراً، حيث توجد نصوص وتوجيهات عديدة للينين، طالب فيها القوى الثورية ليس في روسيا فحسب بل في جميع أنحاء العالم، صيانة الاتحاد السوفييتي كدولة متعددة القوميات. وصحيح، أيضاً، إن القادة الذين خلفوه في قيادة الدولة والحزب ، استغلوا توجيهاته لصيانة الاتحاد، لإعطاء انطباع للمواطنين بأنهم ينفذون المبادئ اللينينية لحل المسألة القومية . إن المحاججة أعلاه، تستند إلى وقائع كثيرة يمكن استشفافها من تجربة التعامل مع القضية القومية في الاتحاد السوفييتي، إلا إن الخلل فيها أنها تخلط بين الممارسة والنظرية، بين السياسة والفكر. وهذا هو لب التشوش الذي وقع فيه كثير من المفكرين والباحثين والسياسيين، بما فيهم العديد من أنصار الماركسية .
أن الحجج القائلة بفشل الحلول الماركسية للمسألة القومية، لا تصمد للمنطق، إذا وضعت على المحك العلمي، لأن أصحابها يخلطون بين الحقيقة وتوهم الحقيقة. فالحقيقة تؤكد على إن ما كان يطبق في الاتحاد السوفيت، وان إبتعد في بعض جوانبه عن المبادئ والنداءات والتوجيهات التي كان يطلقها لينين، الا أنه ساهم في تجاوز كثيرمن أشكال التعسف والتمييز القومي والديني الذي مورس ضد القوميات والمجموعات العرقية والدينية قبل ثورة أكتوبر، وكذلك القمع والإرهاب الذي جوبهت به التطلعات القومية، خاصة تلك التي تتعلق بالحقوق الثقافية. كما إن سيادة الدولة المركزية الشمولية، يتعارض بصورة مطلقة، مع المفهوم الماركسي الذي طوره لينين بعد ثورة اكتوبر، وكان موقفه، أي لينين، حازماً تجاه استخدام القوة ضد الحركة القومية الجورجية وقد أصر على تحميل ستالين المسؤولية عن أحداث العنف التي حدثت في جمهورية جو رجيا عام 1921.
ملاحظات ختامية :
إن الحديث عن تطابق “الموديل” السوفيتي لبناء الاشتراكية مع النظرية الاشتراكية للتطور الاجتماعي، وهم مرفوض لأنه يعني ببساطة الاعتراف بان طريق التطور الرأسمالي هو الطريق الوحيد للتقدم الاجتماعي، وهذا الأمر مرفوض بصورة مطلقة، على ضوء التجربة المعاصرة للتطور الاجتماعي على الصيد العالمي، فعالم اليوم ليس عالم ما قبل ثورة أكتوبر، والتطور الاجتماعي لا يمكن أن يعود إلى الوراء ، على صعيد عالمي وليس على صعيد قطري، وهذا ما يعترف به حتى أنصار التطور الرأسمالي أنفسهم. كما إنه يعني بإن على القوى المناضلة من أجل التقدم الاجتماعي أن تبحث عن طريق ثالث للتطور!
لابد من الإقرار بأن الجمود العقائدي لا يتعلق بالممارسة فقط بل في النظرية، حيث أنصب جهد أغلبية المنظرين الماركسيين على إثبات صحة مقولات ماركس وانجلز ولينين وملاءمتها لكل زمان ومكان، بدلاً من اعتبارها ـ أي المقولات ـ أداة لتحليل الواقع، المتطور والمتجدد، بهدف التوصل إلى إجابات صحية لتعقيدات الواقع والتكهن بالاتجاهات اللاحقة لتطوره. إن هذا التخلف في تطوير النظرية الماركسية أدى إلى خلق فجوة، بين النظرية والواقع. وقد تعمقت هذه الفجوة بقدر تطور المعرفة البشرية، فالواقع الذي قال فيه ماركس فرضياته أصبح، بفضل التطور الهائل بالتكنولوجيا والإنتاج، من حكايات الماضي السحيق.
إن من أهم الدروس التي ينبغي أن تؤخذ ، بنظر الاعتبار، من قبل الحكومات والقوى السياسية في الدول المتعددة القوميات، أن لا القوة أو الأيديولوجية قادرة على التوصل لحلول دائمة وعادلة للقضية القومية، وهذا ما أكدته التجربتان الاشتراكية والرأسمالية ، فنتائج التجربة الاشتراكية، التي ركزت على الأيديولوجية أكثر من اللازم في تحقيق المساواة بين القوميات أصبحت معروفة للجميع بعد الانهيار ، وقضية ايرلندا الشمالية ، تؤكد ما توصل إليه ماركس وانجلز من أن الرأسمالية لن تؤدي إلا إلى زيادة حدة الصراعات القومية والطائفية. ويكتسب هذا الاستنتاج أهمية خاصة، في الفترة الراهنة، التي تشهد تصاعد الخطاب، الديني الذي يطرح حلول غامضة لقضايا الأقليات القومية والدينية في الدول العربية والإسلامية، حلول تتعكز على ” الأخوة الإسلامية ” و ” الوحدة الدينية “.
إن سعي قوى اليسار، في الظروف الراهنة، للاستفادة من المبادئ التي طرحتها الماركسية لإيجاد الحلول للقضية القومية، هو جزء من النضال الوطني الديمقراطي العام للمجتمع؛ وهو يتطور تبعاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للبلد المعني، إضافة لتأثيرات العوامل الخارجية، الإقليمية والدولية. وبناءً على ذلك فإنه يتخذ صيغا عديدة تبعا للحالة الملموسة وليس تبعاً للوصفات الجاهزة .
وبسبب الحاجة للاستفادة العملية، في ظروفنا الراهنة ، من دروس التجربة السوفيتية في مجال حل القضايا القومية التي تواجه الشعوب العربية ، خاصة عندما تختار القوميات المعرضة للاضطهاد شكلاً محدداً من العلاقة مع القوميات الرئيسية، في ظروف تاريخية معينة. ومن أجل أن يكون الموقف الماركسي أكثر وضوحاً، ينبغي أن تتم إعادة النظر بالاشتراطات والقيود والأفكار التي استخدمت لربط الحل الماركسي للقضية القومية بالهدف النهائي للمشروع الاشتراكي، لصالح فك هذا الارتباط. فصحيح أن الأيديولوجية الماركسية، أيديولوجية ذات أهداف عالمية وتبعاً لذلك لها مصالح “عامة، عالمية وأممية ” لكن الوقائع وتطور الأحداث التي أدت للانهيار أكدت، بشكل لا لبس فيه، أن تحقيق الأهداف الكبرى للبشرية، يحتاج إلى وقت طويل جدا.
وأخيراً تلعب التأثيرات الإقليمية الناتجة عن التداخل القومي، الناجم عن انشطار بعض القوميات في أكثر من بلد، عواملا مساعدة لتبرير التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لكثير من دول منطقة الشرق الأوسط وغيرها من الدول النامية. إن ذلك يشكل مخاطرا جدية على الوحدة الجغرافية والسياسية، ويمكن أن يؤدي إلى تفكك هذه البلدان، خاصة وإن الدول الرأسمالية، تستغل تعنت الأنظمة الاستبدادية، المتمثل في رفض إيجاد حلول تلبي الحقوق المشروعة للأقليات القومية، لاختراق السيادة الوطنية تحت تبريرات ” التدخل الإنساني ” وما حدث ليوغسلافيا السابقة، يبرر هذه المخاوف.
** أغلب النصوص الواردة أخذت من لينين، مسائل السياسة القومية والأممية البروليتارية ،دار التقدم ، موسكو 1969